أسباب تحصيل البصيرة
تكلمنا في الخطبة الماضية عن حاجتنا إلى نور البصيرة، وعلمنا أن البصيرة: قوة خفية أو ملكة وهبها الله للإنسان لإدراك حقائق الأشياء، أو إدراك الجوانب الخفية من الموضوعات، والبصير كالخبير وهو معنى أخص من معنى العالم، فالعالم هو من يعرف شيئاً عن كل شيء، وأما الخبير فإنه يعلم كل شيء عن شيء، ومن ثم يتصف الله سبحانه وتعالى بالعلم والخبرة معاً لأنه عالم بكل شيء خبير بكل شيء على حدة، وبعبارة أخرى: عالم بالعموم خبير بالأجزاء.
واليوم نواصل الحديث إن شاء الله .
كيف تعمل البصيرة في قلب المؤمن؟
إن عمل البصيرة الإيمانية في قلب المؤمن كعمل كشاف ضوء منير في وسط ظلمة حالكة، فهي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، ولا يراها كما زينت في الدنيا ولا كما زينها الشيطان للغاوين ولا كما زينها هوى النفس في الأنفس الضعيفة ، يقول الله سبحانه: ” أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله..” الزمر: 22
ويقول سبحانه: ” أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها..” الأنعام: 122.
ويقول سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29))الأنفال
فقوله تعالى {فُرْقَاناً} أَيْ فَصْلًا بين الحق والباطل؛ فَإِنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ، وُفِّقَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ نَصْرِهِ وَنَجَاتِهِ وَمَخْرَجِهِ مِنْ أُمور الدُّنْيَا وَسَعَادَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَكْفِيرِ ذُنُوبِهِ وَهُوَ مَحْوُهَا، وَغَفْرُهَا: سَتْرُهَا عَنِ النَّاسِ، وسبباً لنيل ثواب الله الجزيل كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رحيم} .الحديد 28
فقوله (كِفْلَيْنِ) أي ضعفين مِن رَّحْمَتِهِ {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} يَعْنِي هُدًى يُتَبَصَّرُ بِهِ مِنَ الْعَمَى وَالْجَهَالَةِ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ففضلهم بالنور والمغفرة.
وقد كان من دعاء عمر بن الخطاب ( اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ) وهذا الدعاء معناه أن العبد يسأل ربه تبارك وتعالى أن يوفقه لمعرفة الحق والصواب في كل ما حصل فيه الاختلاف بين الناس من مسائل العلم، وفي كل ما يستجد من أمور للعبد في حياته ويسأل الله أن يرزقه اتباع الحق والثبات عليه، كما أنه يسأل ربه أن يوفقه لرؤية الباطل باطلاً وضلالاً ويرزقه اجتنابه كما قيل:
عـــرفت الشــرَّ لا *** للشر لكن لتـوقيه
ومن لم يعرف الشر *** من الناس يقع فيه
وكان الإمام ابن الجوزي يدعو قائلا ( اللهم أرنا الأشياء على حقائقها )
وهناك أسباب لتحصيل البصيرة أهمها :
1- صدق المجاهدة :
إن مجال الجهاد ليس فقط في الحروب والقتال، بل هو أكبر من ذلك فهو يمتد إلى مجاهدة النفس، لأن طبيعة النفس أنها كثيرًا ما تخلد إلى الكسل والاسترخاء، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} الشمس: 7-10.
وجهاد النفس يتحقق بالإيمان والإخلاص والصدق والصبر ، فينبغي على المسلم أن يكون عنده استعداد للتغير للأحسن ، صادقا في عزمه وأن يترك طريق المعصية واتباع الهوى وكما قالوا : (ليس للقيد ذنب فيلام فانشغل بمن قيدك والسلام ) والمعنى إذا رأيت نفسك تعجز عن قيام الليل فاعلم أنك قد كبلتك خطاياك ، هذا فضلا عن ترك صلاة الفجر، فنحن كثيرا ما نكذب على أنفسنا بالتبريرات والأعذار الواهية ثم نصدقها، فنحن الذين وضعنا القيد على أنفسنا ثم نلوم القيد ونعيب الزمان والعيب فينا والخلل في أنفسنا نحن ، وقد صدق ابن تيمية عندما ذهب أحدإخوانه لزيارته في السجن فرق قلبه وبكى لحاله فما كان من “ابن تيمية” إلا أن قال له: أتبكي لحبسي. أتبكي لأسري؟!! إن المحبوس من حُبِس قلبه عن الله، وإن المأسور من أسره هواه، وشهوته“.
ويقول ابن القيم رحمه الله: (كتاب مفتاح دار السعادة (2/15)
( المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب، وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له ، بل إذا تعب العبد قليلًا استراح طويلًا، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان ولا قوة إلا بالله، وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى كان تعب البدن أوفر وحظه من الراحة أقل، كما قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام
أ .هـ كلامه رحمه الله
فالمجاهدة تحتاج همة ونشاطا وصدقا مع الله ، فلا بد من قومة من رقدة الغفلة ، فمن أراد الراحة ترك الراحة ، ومن لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد للبصيرة رائحة .
وصدق المجاهدة أن تعرف قدرك وحجمك وتوقن أنك لو كذبت على الخلق كلهم فلن تكذب على الله .
ومن صدق المجاهدة ألا تشغل نفسك إلا بالحق ، فنفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل لأن النفس تحب الشهوات وتسعد بها وتحرص عليها فأشغل نفسك بالحق وحدد هدفك .
موقف مع الدكتور راغب السرجاني :
وما زلت أذكر كلمة للدكتور الفاضل راغب السرجاني عندما التقيته منذ عامين وكان يحكي أنه أجرى عملية جراحية بعد الفجر وذهب سريعا إلى المطار ليأتي إلى مونتريال فقلت له عندي سؤال أريد أن أوجهه إليك ، قال تفضل ، قلت يا دكتور أنت طبيب جراح ، ومحاضر في التاريخ الإسلامي ، ومشرف على موقع (قصة الإسلام)وعلى مركز التاريخ والحضارة بالإضافة للعديد من البرامج على عدة قنوات فضائية ، وتجوب دول العالم مسافرا هنا وهناك ….من أين لك بكل هذا الوقت لانجاز هذه المهام ؟!!
فقال في كلمتين اثنتين : من فضل الله على العبد ألا يكون عنده وقت فراغ !!! قلت صدقت الانشغال بما يرضي الله في هذا الزمان نعمة ، وأي نعمة.
2- إتمام الفرائض وزيادة النوافل :
عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { إن الله تعالى قال : من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر فيه ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعـطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه (رواه البخاري
فمعنى الحديث : ما عبدني أحد بشيء أحب إلى مما افترضته عليه لأن العبادة تقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، فركعتان من الفريضة أحب إلى الله من ركعتين نفلاً ، ودرهم من زكاة ، أحب إلى الله من درهم صدقة ، وحج فريضة أحب إلى الله من حج تطوع ، صوم رمضان أحب إلى الله من صوم تطوع .
( ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل ) يعني : بعد الفرائض حتى يحبه الله ،
( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ) أي : سددته في كل ما يسمع فلا يسمع إلا ما فيه الخير له ، ولا ينظر إلا إلى ما كان فيه خير .
( ويده التي يبطش بها ) أي : أن الله تعالى يسدده في بطشه وعمله بيده فلا يعمل إلى ما فيه الخير .
الشاهد من الحديث : أن في محبة الله عز وجل تسديد العبد في سمعه وبصره ويده ورجله مؤيدا من الله عز وجل ، فهو عبد موفق في عمله وسعيه ولعل هذاالمعنى أوضح في الرواية الأخرى :”فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش”
والمراد: أن من اجتهد بالتقرب إلى الله عز وجل بالفرائض ثم بالنوافل قربة إليه؛ ورقّاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان؛ فيصير يعبد الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى ومحبته وعظمته وخوفه ومهابته وإجلاله والأنس به والشوق إليه؛ حتى يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهداً له بعين البصيرة؛ فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره؛ فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع به، وإن نظر نظر به، وإن بطش بطش به
3- تحري الكسب بأكل الحلال :
إن المسلم الذي يريد الله والدار الآخرة يحرص على أن يكون مطعمه حلال ومشربه حلال، لان الحرص على طلب الحلال ميزان للمؤمن في الدنيا و الآخرة ،فالكسب الطيب والمال الحلال ينير القلب ويشرح الصدر و يورث الطمأنينة والسكينة والخشية من الله ويعين الجوارح على العبادة والطاعة، ومن أسباب قبول العمل الصالح وإجابة الدعاء.
· وفي الحديث عند الطبراني وغيره أن سعد بن أبي وقاص قال: يا رسول الله: ادعوا الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له النبي” يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذى نفس محمدٍ بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يُتقبل منه عملٌ أربعين صباحًا وأيما عبدٍ نبت لحمه من سحت فالنار أولى به “.
والحديث وإن كان في سنده ضعف إلا أنه يشهد له الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: ” أن رسول الله صلي الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟”
فلقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة إلى ربه ما يدعو إلى رثاء حاله ويؤكد شدة افتقاره، ولكنه قد قطع صلته بربه، وحَرَمَ نفسه من مدد الله وفضله، وحال بينه وبين قبول دعائه ما هو عليه من استعمال للحرام في المأكل والمشرب والملبس، وماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه وحُجب دعاؤه وحيل بينه وبين رحمة الله؟
فأكل الحلال وطيب المطعم يعين على طاعة الله ، وتستنير معه البصيرة ولذلك قال بعض السلف من أكل الحلال أطاع الله شاء أم أبى .
وقال شجاع الكرماني : من غض بصره عن الحرام، وكف نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بالتقوى، وعمر ظاهره بالسنة، وأكل الحلال، لم تكد تخطئ له فراسة، وفتح الله بصيرته.
أما أكل الحرام فإنه يعمي البصيرة ويوهن الدين ويقسي القلب ، ويقعد الجوارح عن الطاعات ويوقع في حبائل الدنيا وفتنها ويحجب الدعاء ولا يتقبل الله إلا من المتقين .
4- صدق التوكل مع حسن الظن بالله :
التوكل المقصود منه التفويض والرضا كما قال بعض العلماء في تعريفه : التوكل نفي الشكوك، والتفويض إلى مالك الملوك.
وقال أبو علي الدقاق: ” التوكل ثلاث درجات: التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض. فالمتوكل يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه.
وقال ابن القيم في مدارج السالكين : وكان شيخنا رضي الله عنه (يقصد ابن تيمية) يقول: المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله، والرضا بعده. فمن توكَّل على الله قبل الفعل، ورضي بالمقضي له بعد الفعل، فقد قام بالعبودية، أو معنى هذا.
فليس معنى التوكل أن يعطيك الله ما تريد إنما الرضا بما يريد ، فمع صدق التوكل تنكشف عين البصيرة فترى حسن اختيار الله لك ، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “المؤمن القوي خيروأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍّ خير ,احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تَعْجَز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل فإن لَوْ تفتح عمل الشيطان” رواه مسلم.
5- اليقين بالله :
من أعظم أسباب تحصيل البصيرة اليقين بالله، فهو المثبت على صراط الله المستقيم حتى يلقى العبد ربه، فعنده يقين بأن الله يحق الحق ، ويبطل الباطل ، ويقصم الظالم وينصر المظلوم .
واليقين في الفتن وعند الشدائد يكشف نور البصيرة ، ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وهم وغم ، فامتلأ محبة لله وخوفا منه ورضي به وشكرا له وتوكلا عليه وإنابة إليه .
من كان يظن ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع قلة مؤمنة في مكة يعذبون ويضطهدون ويحاربون بل ويطردون من بيوتهم وبلدهم، بل ونال الأذى والبلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع التراب وسلى الجزور على رأسه وهو ساجد ؛فما هي إلا سنوات قليلة ، وإذ برسول الله صلى الله عليه وسلم يعود إلى مكة فاتحاً منتصراً يحيط به عشرة آلاف رجل، ويدخل الحبيب المسجد فتتهلل الكعبة فرحاً بشروق شمس التوحيد وتتبعثر الأصنام والآلهة المكذوبة في ذل وخزي شديد، ويردد الحبيب قول الله عز وجل: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
وكان صلوات ربي وسلامه عليه عند تناهي الكرب والشدائد يبشر أصحابه بالنصر والتمكين كما فعل يوم الأحزاب؛ حتى قال بعض المنافقين ساخرا : أيَعِدُنا صاحبكم أن تُفتَحَ علينا قصور كِسْرى و قيْصر ، وأحَدُنا لا يأمَن أن يقْضِيَ حاجتهُ !
وعن خباب رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: (لقد كان من قبلكم يمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظام أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتِمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) فذكّرهم عليه الصلاة والسلام بمن سبقهم من المستضعفين ليكون لهم زاداً في طريقهم الطويل، ويسليهم حتى يعلموا أن هناك من صبر أكثر منهم وبشرهم ووعدهم حتى لاييأسوا من العاقبة والعاقبة للمتقين.
فالمسلم دائما عنده يقين وبصيرة أن الذي يفصل في الأمر في النهاية ليس هو قوة الباطل وإنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ولا شك أنه معنا الحق الذي من أجله خلقت السماوات والأرض، والجنة والنار، ومن أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل.
6- معرفة السنن الربانية :
معرفة سنن الله الربانية تمنح المسلم بصيرة قوية ، والسنن كثيرة، لكن معرفة المؤمن بها تجعله على بصيرة، لأن بعض الناس إذا رأوا تفكك المسلمين، وقوة بعض الظلمة ، وانتفاش الباطل ، وانكماش الحق ؛ ربما داخلهم نوع من اليأس، لأنه رأى أمراً لم يكن يخطر له على بال، لكن تفطنه إلى السنن الإلهية يجعله يعيد الحسابات، ويبصر الأمور على مآلاتها لا على وضعها الحالي .
يُعرِّف شيخ الإسلام ابن تيمية السُّنة ودلالتها فيقول:“والسنة هي العادة في الأشياء المتماثلة. فإنه سبحانه وتعالى إذا حكم في الأمور المتماثلة بحكم فإن ذلك لا ينقض ولا يتبدل ولا يتحول، بل هو سبحانه لا يفوِّت بين المتماثلين، وإذا وقع تغيير فذلك لعدم التماثل ، كما أن من سننه التفريق بين المختلفين، كما دل على ذلك القرآن؛ قال الله تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) [القلم:35] ، ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا، ولولا القياس، واطراد فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها، والاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره ، كالأمثال المضروبة في القرآن وهي كثيرة (أفلا تتفكرون ) وقال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ . هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) آل عمران :137-138
في هذه الآيات وما بعدها يذكر الله العباد بسننه في خليقته، وأن مَن سار على نهجها أدى به ذلك إلى السعادة، ومَن حاد عنها ضل وكانت عاقبته الشقاء والبوار، وأن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل مهما كانت له أول الأمر من صولة، كما وعد الله بذلك على ألسنة رسله: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ . إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ . وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات:171-173]، وقـال تعالى:(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء:105]ا.هـ
ومن هذه السنن الإلهية : سنة التدافع قال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) [البقرة:251]
ولو تأملنا لرأينا الكون كله مبني على دفع الله الناس بعضهم ببعض، فبين الخير والشر صراع دائم، والشر نفسه لا يمكن أن يتوحد بحال من الأحوال، ولذلك كم تحالفت أمم، ثم تمزقت هذه الأحلاف.
يتحدثون اليوم في بلاد العالم عما يسمونه بالنظام العالمي الجديد، والذي يريدون أن يوحدوا فيه الأمم كلها تحت حضارة واحدة، وبزعامة دولة مستبدة واحدة، يريدون أن يقضوا على أي نمط حضاري آخر، وعلى أي دين، وعلى أي تجمع يدين بدين معين، أو يتمذهب بمذهب خاص، فيتحدثون عن هذا النظام، وأقول: إن مثل هذا الحديث؛ هو معارض لسنن الله تعالى في الكون، فإن الكون كله مبني على قانون الصراع، أو كما هو التعبير القرآني: قانون التدافع ، فكلما جمعوا وحزموا انفرط الحبل، ورجعت الأمور من جديد، وكلما رتبوا وخططوا فوجئوا بوضع يتغير عليهم، ومثل هذه الأشياء التي يرسمونها، هم يرسمونها من منطلق أسبابهم المادية، ونظراتهم القاصرة، ووفق خططهم، صحيح أن لهم عقولاً وتخطيطاً وترتيباً، لكنهم يبقون بشراً، ويبقى عنصر المفاجأة دائماً ، فالذي يعمل ويقدر حقيقة هو الله عز وجل .
ومن السنن الإلهية -أيضاً- سنة المداولة ؛ والآيات القرآنية التي عرضت لغزوة أحد وما أصاب المسلمين فيها قد نصت على هذه السنة الربانية، وبينت الحكمة منها (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس) ومعناها أن الله تعالى قد جعل الأيام دولا بين أهل الحق وأهل الباطل؛ ففي أزمان تكون الغلبة لأهل الباطل، وتكون لأهل الحق أزمانا أخرى، والحق والباطل باقيان إلى آخر الزمان؛ ابتلاء للعباد وامتحانا فأهل الحق قد يخسرون بعض المعارك، ولا يعني انهزامهم أنهم ليسوا على الحق، كما أن انتصار أهل الباطل لا يقلب باطلهم إلى حق ، وتلك سنة ربانية في الابتلاء قلّ في البشر من يفهمها؛ ولذلك يتخلى كثير منهم عن الحق إن استبطئوا النصر، ورأوا غلبة أهل الباطل وقوتهم .
ومن حكم تلك المداولة بين الحق والباطل: تمييز الخبيث من الطيب، وإظهار الصادق من الكاذب، ومعرفة المؤمن من المنافق؛ فإن الصفوف لا تتمايز، ولا تصقل القلوب، ولا تعرف أقدار الرجال إلا بموجات البلاء والامتحان، وفي أحوال السلامة والعافية كل يدعي الصدق والإخلاص قال تعالى : (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب).
إن من الناس من ينحاز إلى من هم أقوى ولو كانوا على الباطل، ولا يتبع الحق إن كان أهله أضعف، بل أكثر الناس هم من هذا الصنف، ولو أن أهل الحق انتصروا دائما لانحاز لهم من لم يكن منهم، فجعل الله تعالى الابتلاءات والهزائم محطات تصفية وتمحيص .