شرح الأربعين النووية 11- (دَعْ مَا يَرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيْبُكَ) 

تاريخ الإضافة 21 أغسطس, 2023 الزيارات : 611

شرح الأربعين النووية

11- (دَعْ مَا يَرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيْبُكَ) 

عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بنِ عَلِيّ بنِ أبِي طالبٍ سِبْطِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَرَيْحَانَتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَفِظْتَ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ: (دَعْ مَا يَرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيْبُكَ) رواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح،

التعريف بالراوي:

أبو محمد هي كنية الحسن، حفيد النبي- صلى الله عليه وسلم-، والحسن هو أول مولود لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو زوج فاطمة وابن عمه، وله مكانة كبيرة عند النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو من العشرة المبشرين بالجنة، والنبي- صلى الله عليه وسلم- قال له: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي) فرزق بالحسن، وأول ما أسماه سماه حربا، قال النبي – صلى الله عليه وسلم-أروني ابني، ما أسميتموه قال علي سميته حربا، قال بل هو حسن.

 وطبيعة الأسماء في البيئة العربية كانت قاسية ، فنجد الأسماء الغليظة التي تتوافق مع هذه البيئة، ولما يكون اسما غليظا أو فيه قوة ففيه إرهاب للأعداء، وكانوا يحسنون أسماء عبيدهم، وكانوا يقولون: سمينا أبناءنا لأعدائنا وسمينا عبيدنا لنا، فالعبد اسمه هاني وسعيد وبلال، لكن أبناءهم كعب وصخر ومرة وحرب وفهد – سبحان الله-

والرسول- صلى الله عليه وسلم- غير أسماء كثيرة جدا وكان من عادته- صلى الله عليه وسلم- أنه يتفاءل بالأسماء وغير الكثير من الأسماء السيئة التي كانت في هذه البيئة القاسية، وحتى لما رزق بالحسين بعدها بسنة قال ما أسميته؟ قال حربا، -سيدنا علي مصرّأن يسميه حربا-، قال بل هو حسين، – حسن وتصغيرها حسين.

 والإمام النووي رحمة الله عليه يقول سبط رسول الله وريحانته، السبط هو الحفيد الاثنان في اللغة بمعنى واحد، البعض قال السبط ابن البنت والحفيد ابن الابن، لكن في اللغة العربية الاثنان بمعنى واحد، الأحفاد هم الأسباط والأسباط هم الأحفاد، وسيدنا يعقوب، له 12 ابن، كلهم ذكور، ومنهم بنو إسرائيل، وهم الأسباط ، فالأسباط هم الذرية اللي نتجت من أبناء يعقوب وهم أبناء أبنائه.

 فكلمة سبط وكلمة حفيد بمعنى واحد.

وبعض العلماء قال الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وعند العجم يسمون الشعوب، فكان العرب لا يعرفون إلا القبائل، ثم في بني إسرائيل كانوا لا يعرفون إلا الأسباط.

فالحسن بن علي سبط رسول الله وريحانته، الريحانة نبات معروف بالرائحة الطيبة الجميلة، والمقصود أنه كان له مكانة كبيرة في قلب النبي- صلى الله عليه وسلم-، ودائما يقولون: إن أعز الولد ولد الولد يعني الحفيد، فدائما له مكانة خاصة ويعطيه الجد الكثير من الحنان، فيكون الأب والأم رمزا للشدة والتربية الحازمة والجد والجدة رمز للرحمة والحنان واللطف، – سبحان الله-! وكان النبي من عادته وهذه سنة نبوية تبين مدى لطفه ورحمته- صلى الله عليه وسلم- أنه يقرب أحفاده منه ويقبلهم ويشمهم، وهذا كله من الحنان واللطف الذي كان به- صلى الله عليه وسلم-

فمعنى ريحانته يقصد به أنه كان يحبه حبا كثيرا ويقبله ويشمه كشمنا للريحان مثل الرائحة الطيبة، والمقصود هنا أنه سعادة وفرحة وبهجة في قلب الحبيب محمد- صلى الله عليه وسلم-، وكان يقول : اللهم إني أحبه فأحبه، وفي رواية اللهم أحب من يحبه، وكان يقول : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، والجنة ليس فيها سادة ورؤساء ومرؤوسين إنما المقصود هنا المكانة والشرف، كلمة السيد عند العرب لا تعني الرئيس أو الملك أو الكبير، السيد يعني الشريف في قومه، وفي بعض الأماكن السيد هو من كان من آل بيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، هذا موجود إلى الآن في بعض البلاد وخصوصا في اليمن، لا يسمى بالسيد إلا من كان من آل بيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فمعنى سيدا شباب أهل الجنة يعني لشرفهما ومكانتهما في الجنة بين الشباب والأهل، وإلا فإن كل أهل الجنة شباب .

والحسن له قصة شهيرة لما كان النبي يصلي وسجد فركب الحسن فوق ظهر جده النبي- صلى الله عليه وسلم- والنبي ليعلم المسلمين جميعا بقي ساجدا وأطال السجود حتى ظن بعض الصحابة أن النبي أصابه مكروه، فرفع رأسه من السجود، فأبصر الحسن وقد اعتلى ظهر جده، – سبحان الله-! فبعد الصلاة قالوا يا رسول الله ظننا أنه يوحى إليك، فقال إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله.

 ومر أبو بكر الصديق بالحسن وكان يلعب مع الصبيان وكان معه علي بن أبي طالب، فقال له بأبي شبيها بالنبي ليس شبيها بعلي، وفعلا كان أشبه الخلق برسول الله- صلى الله عليه وسلم-

وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنه- كان الخليفة الراشد الرابع بايعه المسلمون بالخلافة بعد فتنة مقتل عثمان وقتل علي أيضا على يد أحد الخوارج، فبايع الناس الحسن بالخلافة وبعد ستة أشهر من مبايعته رأى أن يجمع كلمة المسلمين على إمام واحد فبايع معاوية على الخلافة وتنازل عن الخلافة ، وسمي هذا العام بعام الجماعة لأن المسلمين صار لهم إمام واحد، وبهذا حقق الحسن بشارة قالها النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: إن ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين.

روى الحسن عن النبي- صلى الله عليه وسلم- 13 حديث، لأنه كان صغيرا، توفى النبي وكان عنده عشر سنين فقط، لكنه كان يعقل فعقل عن النبي هذا الحديث فهو يقول: حفظت من رسول الله.

 توفي سنة 50 هجرية ودفن بالبقيع.

شرح الحديث:

هذا الحديث قاعدة من قواعد الدين، وأصل في الورع عن الأشياء التي فيها شبهة، فيقول – صلى الله عليه وسلم-:

(دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)

يريبك بفتح الياء هذا هو الصحيح وهذا هو الأفصح في كلمة يريبك، بعض الروايات بضم الياء ما يريبك، كلا اللفظين وردا في لغة العرب لكن الأفصح والأشهر بفتح الياء.

 (دع ما يريبك): من الريب وهو الشك، والشك ضد اليقين.

أي: اترك ما يشك فيه إلى ما لا يشك فيه، والمراد أن ما اشتبه حاله على الإنسان فتردَّد بين كونه حلالًا أو حرامًا، فاللائق بحاله تركُه، والذهابُ إلى ما يعلم حاله ويعرف أنه حلال، سواء أكان في أمور الدنيا أم في أمور الآخرة، فالأحسن أن ترتاح منه، وأن تدعه؛ حتى لا يكون في نفسك قلق واضطراب فيما فعلتَ وأتيتَ، والله أعلم.

وفي الحديث مسائل:
الأولى : حقيقة الورع ترك كل ما يضر أو يخشى ذلك في الآخرة ، فيشمل ترك الحرام وترك الشبهات المفضية إليه. 

والورع منه واجب ومنه مستحب فالورع الواجب ترك كل ما حرم الله من المناهي والمحظورات والورع المستحب ترك الشبهات والوسائل الموصلة إلى الحرام.

والحاصل أن الورع انتقال العبد من الشك إلى اليقين من الريبة والتردد إلى الثقة والاطمئنان، وهو عام في جميع أبواب الدين فيشمل العبادات والمعاملات والجنايات وغيرها وليس خاصا بباب الأموال كما يتوهمه بعض العامة .

الثانية: سلوك الورع من العبد يحتاج إلى فقه عظيم في دلالات النصوص والأحوال. فليس من الورع ترك ما تكون المفسدة في تركه أعظم من فعله. وليس من الورع أن يترك العبد شيئا مشكوكا فيه فيترتب على تركه وقوعه في منكر متحقق في تحريمه. فمن الناس من يتورع عن تعاطي بعض المكاسب المشتبه فيها مع حاجته الشديدة إليها لقوته أو عياله أو قضاء دينه ثم يجد مشقة وعنتا في ذلك ويعوزه الحال ويحمله على وقوعه في أكل الحرام.

وليس من الورع ترك الواجب تركا أعظم فسادا من فعله مع الشبهة كمخالفة الجماعة والخروج على الإمام ونزع يد الطاعة في سبيل إنكار المنكرات والغيرة على المحرمات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( وتمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين , ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات . ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع).

ومن قلة الفقه في الورع أن يكون المرء ورعا شديدا في باب الأموال متساهلا في باب الدماء أو باب الأعراض أو العكس ، ومنهم من يكون ورعا في الدنيا مضيعا للفرائض والواجبات.

الثالثة : في الحديث دلالة على إحدى القواعد الخمس الكبرى وهي( أن اليقين لا يزول بالشك)

ولها فروع كثيرة ومعناها إذا تعارض الشك مع اليقين أخذنا باليقين وقدمناه وطرحنا الشك ، فإذا تيقن المكلف الطهارة ثم شك في الحدث بنى على اليقين وهو الطهارة ، وإذا تيقن الحدث ثم شك في الطهارة بنى على اليقين وهو الحدث.

عن عبد الله المازني أنه ( شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم : الرجل يخيل إليه : أنه يجد الشيء في الصلاة ؟ قال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ) متفق عليه.

ولمسلم ( إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه : أخرج منه شيء أم لا ؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا). وكذلك إذا طرأ عليه الشك في سائر العبادات وعقود المعاملات و الأنكحة استصحب الأصل وبني على اليقين وطرح الشك.

قاعدة ثانية: (إذا تعارض شك ويقين قدم اليقين)

يقول العلماء لو شك في عدد الغسلات في الوضوء أو عدد الركعات في الصلاة أو عدد السجدات أو في الطواف سبعة أشواط يبني على اليقين وهو الأقل، لأننا لو قلنا هذه الركعة الثالثة ولا الرابعة؟

لو قلنا الرابعة في احتمال خمسين لخمسين في المئة إن كانت الثالثة، فأنت بذلك صليت الصلاة ناقصة لكن لو صليت الرابعة فأنا يقينا صليت الرابعة وأسجد للسهو.

فارق مهم جدا بين الورع والوسوسة:

الشك أمر طارئ لا يتكرر يوميا أما واحد شاكك في الوضوء وشاكك في الصلاة وشاكك في الركعات لا لا أنت إنسان موسوس، هذا كله من الشيطان.

 فالشك أمر طارئ، يعني لو قلنا أنت في خلال العام الماضي شككت كمْ مرة في عدد الركعات؟ سنة كاملة؟ تقول لي والله أربع مرات، لكن واحد يشك يوميا فهذا شك مرضي وهو الوسواس، وهذا الامر الشيطان يفتح به باب شر على الانسان، ولذلك لأن هذه المشكلة متفاقمة عند كثير من الناس، أقول: الشيطان لا ينصحك لتصحح صلاتك، هو ينصحك لتكره صلاتك، تتوضأ مرة واتنين وأربعة … واحد قال لي إنه توضأ سبع مرات، يقول لي كل ما ارفع رجلي اقول خرج ريح، ارجع من الأول، وتكرر المشهد ست مرات وفي المرة السابعة حلفت والله ما أنا مصلي!!

فالشيطان يريد أن يكرهك في الصلاة، فتكره ساعة الصلاة وتقعد في الحمام ساعتين وتتوضأ في نصف ساعة وبعدين تشك في الفاتحة وتشك في الركوع … سبحان الله العظيم.

إذا الانسان لا يتكلف الورع في مسائل الوسوسة هذا ليس فيه ورع، هذا ورع كاذب دبره لك الشيطان، الشيطان تزيى بزي الناصح الامين ليكرهك في الصلاة.

الامام ابن قدامة ذكر في كتاب ذم الموسوسين عن علي زين العابدين كان إذا أراد قضاء حاجته قال لابنه انتظرني بثياب نظيفة، فيجهز ابنه له ثيابا نظيفة فيغير كل ثيابه، لماذا؟ قال إن الذباب يقف على القذر (البراز) ثم يقف على ثيابه، فلما شق عليه ذلك قال يا بني ألم يكن يصيبهم ذلك؟ (يقصد الصحابة) ألا يسعنا ما وسعهم؟ فتركه.

وذهب رجل للإمام ابن عقيل الحنبلي وقال له إن الشيطان يوسوس لي أني طلقت زوجتي، (مصاب بوسواس الطلاق)، قال ألم تأتني بالأمس وطلقت زوجتك أمامي؟ قال كلا، قال بلى جئتني بالأمس وطلقت زوجتك، قال كلا والله العظيم ما حدث، قال فإن جاءك الشيطان يوسوس لك بذلك فأقسم له بالله العظيم كما أقسمت لي.

وقال بعض العلماء إن جاءك الشيطان في صلاتك فقال تطيلها رياء فزدها طولا.

إنما الأعمال بالنيات، أنا نيتي لله.

 والله أحد الإخوة قال لي أنا آتي عند باب المسجد، وارجع البيت لماذا؟ يقول لي يجيء لي وسوسة إن أنا جاي من أجل الناس تشوفني، ويبقى رياء والرياء يحبط العمل أقوم راجع البيت، قلت له: يا أخي كل الناس جاءت تصلي في المسجد، كلنا مسلمون والحمد لله، جئنا نقيم الشعيرة، والأصل في الفرائض الإعلان، انما في التطوع ما في داعي تعرف الناس، صلاة التطوع قيام الليل صلاة الضحى صيام الاثنين والخميس، ربنا يتقبل.

والوسوسة تصل ببعض الناس الى ان يهلك نفسه ويتعب نفسه زمنا طويلا، وسوسة في العقيدة وسوسة في البيع والشراء وفي الحسابات والارقام ووسوسة في العبادة.

فموضوع الوسوسة لا علاقة له بالحديث دع ما يريبك الى ما لا يريبك، انما كما قلت الوسوسة من الشيطان يصدك بها عن الصلاة وعن العبادة، ويبغضها اليك، فتصير ساعة الصلاة من أشد الساعات عليك للمشقة التي تصاحبها.

 سيدنا عمر بن الخطاب كان يمشي معه رجل فوقع شيء من الميزاب عليه، فقال الرجل: يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر ام نجس؟ قال عمر لا تخبره فانه متكلف.

إذن (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) يعني الأمر الذي فيه يقين، اثبت عليه، والأمر الذي فيه شك حاول أن تتأنى حتى تحكم عليه بوضوح، التأني وعدم العجلة من الامور التي يحبها الله- عز وجل-، وهذا ما قاله النبي لأشج عبد القيس قال: ان فيك خصلتان يحبهما الله، الحلم والأناة (من التأني والحكمة)


الرابعة : إذا تعذر معرفة اليقين عمل المكلف بغلبة الظن وهو الظن الراجح بالقرائن واطرح الشك لأنه اتقى الله ما استطاع وبذل ما وسعه وهذه القاعدة لها نظائر وصور في الشرع كالتحري في طهارة الماء والتحري في استقبال القبلة والتحري في عدد الركعات حال الشك والتحري في تمييز الثوب الطاهر والتحري في تعيين الفوائت والديون والزكوات والأيمان والنذور والحقوق الواجبة .

الخامسة : سلك بعض الفقهاء بناء على هذا الحديث وغيره مسلك الاحتياط في المسائل التي كثر النزاع فيها فإذا تردد الحكم في المسألة بين الإباحة والتحريم قالوا بالكراهة خروجا من الخلاف وأكثروا من تعليل الأحكام بذلك. والتحقيق أن العمل بالاحتياط ليس دليلا شرعيا يبني عليه الأحكام ويوجب الكراهة لأن الكراهة حكم شرعي يفتقر إلى دليل من الكتاب والسنة و إنما يسوغ للفقيه أن يتوقف في المسألة ويكف عن العمل بها إذا قويت عنده الشبهة وتعارضت الأدلة ولم يقوى عنده مرجح فحينها لا يلزم أحدا بقوله وإنما يوصيه به ويكون هذا من باب الورع واتقاء الشبهات.

ومن فهم هذا الأصل زال عنه كثير من الإشكالات الواقعة في كلام الأئمة واتضح له وجه تصرفات كثير من السلف الذين غلبهم الزهد والورع في كثير من المسائل.

أما ما ثبت من الرخصة في السنة وليس لها معارض صحيح أو لم يكن عمل الأمة على خلافها فينبغي على الفقيه أن يعمل بها ولا يجتنبها لمخالفة إمامه أو غيره من العلماء لها فإنه ربما لم تبلغهم هذه الرخصة أو قام سبب آخر عندهم لتركها.

أما إن عارضها سنة أقوى منها أو عمل بها الشذوذ واشتهر عمل الأمة على خلافها تعين تركها والأخذ بعمل الأمة.

السادسة : الورع مراتب والناس يتفاضلون فيه كما يتفاضلون في الإيمان.

ويكون تمام الورع مرضيا من الخاصة و الكمل من الإيمان الذين استقامت نفوسهم بفعل الواجبات وترك المحظورات أما من يغشى الكبائر ويجاهر بها ويفرط في بعض الواجبات ثم يسعى لترك الشبهات فهذا ورع كاذب مظلم مشكوك فيه.

فقد أنكر ابن عمر رضي الله عنه على من سأله عن دم البعوض من أهل العراق وقال يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (هم ريحانتاي من الدنيا).

وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها فقال “إن كان بر أمه في كل شي ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل وان كان برها بطلاق زوجته ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه فيضربها فلا يفعل” .

السابعة : كان السلف الصالح رحمهم الله يستعملون الورع فيما اشتبه عليهم حتى صار شعارا لهم في سلوكهم من أسهل الأمور عليهم، ومما ورد في ذلك: 

عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال : ” تمام التقوى ترك بعض الحلال خوفا أن يكون حراما ”

 ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله: ” يزعم الناس أن الورع شديد، وما ورد عليّ أمران إلا أخذت بأشدهما، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ”

وعن أبي إسماعيل المؤدب قال : جاء رجل إلى العمري فقال : ” عظني ” ، قال : فأخذ حصاة من الأرض فقال : ” زنة هذه من الورع يدخل قلبك ، خير لك من صلاة أهل الأرض ” .

ولقد ظهر أثر الورع جليا على أفعالهم ، فمن ذلك ما رواه الإمام البخاري رضي الله عنه ، أن أبا بكر رضي الله عنه ، كان له غلام يخرج له الخراج ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يأكل من خراجه ، فجاء له الغلام يوما بشيء ، فأكل منه أبو بكر فقال له الغلام : ” تدري ما هذا؟ ” فقال:” وما هو؟ ” قال الغلام : ” كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية ، وما أُحسِن الكهانة ، إلا أني خدعته ، فلقيني ، فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت منه ” ، فما كان من هذا الخليفة الراشد رضي الله عنه ، إلا أن أدخل يده فقاء ما في بطنه .

ومما ورد في سير من كانوا قبلنا ، ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اشترى رجل من رجل عقارا له ، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب ، فقال له الذي اشترى العقار : ” خذ ذهبك مني ؛ إنما اشتريت منك الأرض ، ولم أبتع منك الذهب ” ، وقال الذي له الأرض : ” إنما بعتك الأرض وما فيها ” فتحاكما إلى رجل ، فقال الذي تحاكما إليه : ” ألكما ولد ؟ ” قال أحدهما : ” لي غلام ” ، وقال الآخر : ” لي جارية ” ، قال : ” أنكحوا الغلام الجارية ، وأنفقوا على أنفسهما منه ، وتصدقا ) .

ما يستفاد من هذا الحديث:

1- إذا تعارض شك ويقين نقدم اليقين.

2- ما ثبت بيقين لا يرتفع الا بيقين.

3-ترك الإنسان الأشياء التي يرتاب فيها، واجتناب ما يدعو إلى القلق.

4- الحديث أصل عظيم في الورع والحث عليه.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 14 مايو, 2024 عدد الزوار : 1034 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع