شرح الأربعون النووية
28- أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة
عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا، قال: (أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ترجمة الراوي:
العرباض بن سارية السلمي، يكنى أبا نجيح، وكان رضي الله عنه من أهل الصفة، روى عنه ابنته أم حبيبة، وعبدالرحمن بن عمرو السلمي، وجبير بن نفير، قال الذهبي: قال عتبة بن عبد: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم سبعة من بني سليم، أكبرنا العرباض بن سارية، فبايعناه، توفي العرباض سنة خمس وسبعين هجرية.
ومعنى العرباض الشخص الطويل طولا مميزا.
شرح الحديث:
قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة) الوعظ هو التذكير المقرون بالترغيب أو الترهيب.
(وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون)(وجلت)؛ أي: خافت.( وذرفت)؛ أي: سالت (منها العيون) بالدموع. لأن القلب إذا خاف بكت العين، وإذا كان قاسيا، لم تدمع العين.
(فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا) لأن المودع إذا أراد المغادرة فإنه يعظ من خلفه الموعظة البليغة التي تكون ذكرى لهم لا ينسونها، ولهذا تجد الإنسان إذا وعظ عند فراقه بسفر أو غيره، فإن الموعظة تمكث في قلب الموعوظ وتبقى.
(أوصيكم بتقوى الله عز وجل) وتقوى الله: اتخاذ وقاية من عقابه؛ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، وهذا هو حق الله، وهي وصية الله للأولين والآخرين؛ قال تعالى: ﴿ ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ﴾ [النساء: 131].
(والسمع والطاعة) يعني لولاة الأمور.
(وإن تأمر عليكم عبد) “تأمر” معنى تغلب، وفي بعض الروايات: عبد حبشي، قال بعض العلماء: العبد لا يكون واليا، ولكن ضرب به المثل على التقدير وإن لم يكن؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجدا كمفحص قطاة، بنى الله له بيتا في الجنة)، ومفحص القطاة لا يكون مسجدا (القطاة طائر ، ومفحص أي موضع فحصها في الأرض لتضع بيضها) ، ولكن الأمثال يأتي فيها مثل ذلك، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بفساد الأمر ووضعه في غير أهله، حتى توضع الولاية في العبد، فإذا كانت فاسمعوا وأطيعوا؛ تغليبا لأهون الضررين، وهو الصبر على ولاية من لا تجوز ولايته؛ لئلا يفضي إلى فتنة عظيمة.
العز بن عبدالسلام بائع الملوك:
في زمن العز بن عبدالسلام كان المماليك هم الذين يحكمون مصر وكانوا بالأصل عبيدا جلبوا ليكونوا قوة عسكرية بالجيش، فالحكومة الحقيقية كانت في أيديهم، فقد كان نائب السلطنة مملوكيًّا، وكذلك أمراء الجيش والمسئولون كلهم مماليك في الأصل وفيهم من لم يثبت تحرره من الرق، وكان العز بن عبدالسلام كبير القضاة بمصر، فكان كلما جاءته رقعة فيها بيع أو شراء أو نكاح أو شيء من هذا للمماليك الذين لم يحرروا أبطلها وقال: هذا عبد مملوك، حتى لو كان أميرًا وكبيرًا عندهم أو قائدًا في الجيش يَرُدُّه، إذ لابد أن يُبَاع ويحرَّرَ، وبعد ذلك يُصَحِّحُ بيعهم وشراءهم وتصرفاتهم كلها، أما الآن فهم عبيد.
فغضب المماليك من هذا الإمام، وجاءوا إليه وقالوا: ماذا تصنع بنا؟ قال: رددنا بيعكم، فغضبوا أشد الغضب ورفعوا أمره إلى السلطان، فقال: هذا أمر لا يعنيه.
فلمّا سمع العز بن عبدالسلام هذه الكلمة؟ قام وعزل نفسه من القضاء.
ثم قام بجمع متاعه وأثاث بيته واشـترى حمارين، ووضع متاعه على حمار، وأركب زوجته وطفله على الحمار الآخر، ومشى بهذا الموكب البسيط المتواضع يريد أن يخرج من مصر ويرجع إلى بلده الشام، لكن الأمة كلها خرجت وراءه ، فذهب بعض الناس إلى السلطان وقالوا له: من بقي لك تحكمه إذا خرج العز بن عبدالسلام ، وخرجت الأمة كلها وراءه؟
فأسرع الملك الصالح أيوب للعزّ، وركض يدرك هذا الموكب ويسترضيه ويقول له: ارجع ولك ما تريد، قال: لا أرجع أبدًا إلا إذا وافقتني على ما طلبت من بيع هؤلاء المماليك، قال: لك ما تريد، افعل ما تشاء.
ورجع العز بن عبدالسلام وبدأ المماليك يحاولون معه ليغيّر رأيه؛ إذ كيف يباعون بالمزاد العلني، فأرسل إليه نائب السلطنة -وكان من المماليك- بالملاطفة فلم يفد معه هذا الأسلوب، فاقترح بعضهم قتل العز بن عبدالسلام ، فذهب نائب السلطنة ومعه مجموعة من الأمراء، ثم طرق باب العز بن عبدالسلام ، وكانت سيوفهم مصلتةً يريدون أن يقتلوه فخرج ولد العز بن عبدالسلام -واسمه عبد اللطيف-، فرأى موقفًا مهيبًا مخيفًا، فرجع إلى والده وقال: يا والدي انجُ بنفسك.. الموت، الموت، قال: ما الخبر؟ قال: الخبر كيت، وكيت.
فقال العز بن عبدالسلام لولده: يا ولدي، والله إن أباك لأحقر وأقل من أن يقتل في سبيل الله – عز وجل -.
ثم خرج مسرعًا إلى نائب السلطنة، فلمّا رآه نائب السلطنة يبست أطرافه، وتجمّد وأصابته حالة من الذعر والرعب، وأصبح يضطرب وسقط السيف من يده، واصفرَّ وجهه، وسكت قليلاً ثم بكى وقال: يا سيدي، خبِّر ماذا تعمل؟ قال العز: أنادي عليكم وأبيعكم. قال: تقبض الثمن؟ قال: نعم. قال: أين تضعه؟ قال: في مصالح المسلمين العامة، فطلب منه الدعاء وبكى بين يديه ثم انصرف.
وفعلاً فَعَلَها العز بن عبدالسلام – رحمه الله – قام وجمع هؤلاء، وأعلن عنهم، وبدأ يبيعهم، وكان لا يبيع الواحد منهم إلا بعدما يوصله إلى أعلى الأسعار، فلا يبيعه تَحِلَّةَ القسم، وإنما يريد أن يزيل ما في النفوس من كبرياء، فكان ينادي على الواحد بالمزاد العلني، وقد حكم مجموعة من العلماء والمؤرخين بأن هذه الواقعة لم يحدث مثيل لها في تاريخ البشرية كلها.
إنما الطاعة في المعروف:
والسمع والطاعة هنا ليسا على الإطلاق، بل هما مقيدان بما كان وفق كتاب الله وسنة رسوله؛ كما في الحديث: (ما أقام فيكم كتاب الله)[ رواه أحمد]
ولحديث: (إنما الطاعة في المعروف)[رواه البخاري ومسلم]، ولحديث: (ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)[ رواه الحاكم في المستدرك وقال الألباني : صحيح].
(فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا) هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بما وقع في أمته بعده من كثرة الاختلاف في أصول الدين وفروعه، وفي الأعمال والأقوال والاعتقادات.
(فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)أي: الطريقة القويمة التي تجري عليها السنن، وهي السبيل الواضحة، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين يعني الذين شملهم الهدى، وهم الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم أجمعين.
وأمره صلى الله عليه وسلم بالثبات على سنة الخلفاء الراشدين لأمرين: أحدهما: التقليد لمن عجز عن النظر، والثاني: الترجيح لما ذهبوا إليه عند اختلاف الصحابة؛ قاله ابن دقيق العيد رحمه الله.
(عضوا عليها بالنواجذ)جمع ناجذ، وهو آخر الأضراس، فمعناه: عضوا عليها بجميع الفم، ولا يكون تناولها نهسا، وهو الأخذ بأطراف الأسنان، وضرب مثلا لذلك العض بالفم؛ لأنه مبتدأ الأكل، وهو أيضا كناية عن شدة التمسك بها؛ لأن النواجذ محددة، إذا عضت شيئا نشبت فيه فلا يكاد يتخلص.
(وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة)قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فيه تحذير للأمة من اتباع الأمور المحدثة المبتدعة، وأكد ذلك بقوله: (كل بدعة ضلالة)، والمراد ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه في التراويح: نعمت البدعة هذه! وروي عنه أنه قال: إن كانت هذه بدعة، فنعمت البدعة، وروي أن أبي بن كعب قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر: قد علمت، ولكنه حسن، ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها، فمنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على قيام رمضان، ويرغب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا، وهو صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة، ثم امتنع من ذلك معللا بأنه خشي أن يكتب عليهم، فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أمن بعده صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أذان الجمعة الأول، زاده عثمان لحاجة الناس إليه، وأقره علي، واستمر عليه عمل المسلمين.
الفوائد من الحديث:
1- الوعظ والنصح والإرشاد منهاج الرسل وطريق الدعاة.
2- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على موعظة أصحابه؛ حيث يأتي بالمواعظ المؤثرة التي توجل منها القلوب، وتذرف منها العيون.
3-يجب على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه، وألا يأمر بمعصية الله، فإن أمر بمعصية فلا سمع له ولا طاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة بالمعروف)
4- ظهور آية من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: (من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا)، والذين عاشوا من الصحابة رأوا اختلافا كثيرا، كما يعلم ذلك من التاريخ.
5- لزوم التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما عند الاختلاف والتفرق.
6-– التحذير من الابتداع في أمور الدين؛ قال عبدالله بن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كفيتم، وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: أوصني، قال: عليك بتقوى الله، والاستقامة، واتبع ولا تبتدع.