من السنن الإلهية: سنة الأخذ بالأسباب
تكلّمنا في الأسبوع الماضي عن فهم السنن الكونية، وكيف أن فهمها سيجعلنا على دراية تامة بالواقع من حولنا ونجد تفسيرا للأمور الكثيرة التي حدثت وما زالت تحدث.
واليوم، إن شاء الله عز وجل، نتكلم عن سنةٍ فهمها مهم جدًا في حياة كل مسلم، وهي سنة “الأخذ بالأسباب”.
معنى الأخذ بالأسباب:
السبب يُطلق على ما يُتوصل به إلى غيره.
والله سبحانه وتعالى رتّب الكون على قانون السببية؛ كل شيء له سبب، وليس هناك شيء يوجد هكذا من دون سبب.
فالله سبحانه وتعالى أنزل من السماء ماءً، وهذا سبب للإنبات، فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم؛ قال تعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ”( البقرة، الآية 22)
وهذا سؤال يتردد كثيرا: لماذا خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون؟ نقول: إنه قانون السببية، لأنه ليس هناك شيء قبل شيء من دون ترتيب.
لو أردنا أن نبني هذا المسجد، هل نبدأ بالسقف أم بالأعمدة أم بالنوافذ أم بالسجاد؟ إذاً، هناك ترتيب لا بد من مراعاته؛ فسبب يُسلم إلى سببٍ آخر، وهكذا.
فأي بناء في العالم يبدأ بالأركان والقواعد، ثم بعد ذلك يرتفع البناء، ثم يُضاف السقف، وبعد ذلك الحيطان وبقية التفاصيل.
فالله تعالى نعم، قادر على أن يخلق السماوات والأرض في لحظة واحدة، لكنه خلقها في ستة أيام ليعلمنا هذا الأمر.
والله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلقنا جميعًا كما خلق الملائكة بلا زواج ولا ذكر ولا أنثى ولا شيء من هذا كله، لكن الله سبحانه وتعالى جعل المكلفين من الإنس والجن يتكاثرون بقانون السببية؛ رجل يتزوج بامرأة، وينتج عن الجماع جنينا يمر بمراحل الخلق إلى أن يخرج طفلا إلى هذه الدنيا.
وهكذا، ستجد الكثير من الأمور التي أرادها الله في كونه قائمة على هذا القانون، قانون “الأخذ بالأسباب”.
المعجزات خرق لقانون السببية:
وقد جعل الله تعالى خرق هذه الأسباب لتكون معجزات وآيات للرسل للدلالة على أنه سبحانه وتعالى بإرادته وطلاقة قدرته يوجد بعض الأشياء بلا سبب. مثلاً، لما حملت مريم بابنها عيسى بدون أب، كان ذلك لبيان الأصل، وهو أن الله قادر على أن يوجد بشرًا بدون سبب، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير.
لما نعلم أن خاصية النار هي الإحراق، فإن الله تعالى يعطّل هذا الأمر في النار ويجعلها بردًا وسلامًا على نبيه إبراهيم، تأييدًا له من الله عز وجل. وهكذا، فُسِّر الكثير من المعجزات والآيات التي بينها الله تعالى في كتابه.
مهمتنا اكتشاف القوانين:
الإنسان عمله في الكون هو أن يكتشف قوانين التفاعل مع الكون؛ فليس من قدرات الإنسان أن يصنع هذه القوانين إنما يكتشفها فمهمته أن يكتشف خصائص الأشياء وقوانين تحركها وكيفية تسييرها وتفعيلها.
مثلاً، الله تعالى وعدنا بأن من يبذر البذرة ويتولى النبات بالسقيا والرعاية ويحفظه من الآفات فإنه يأتي بالثمر، لكن مهمة الإنسان أن يكتشف خصائص الأرض؛ هل هي طينية أم رملية؟ ما الذي يناسبها؟ في أي فصل نحن: الشتاء أم الصيف؟
نفس الحكاية بالنسبة لموضوع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والقفزة التي نراها الآن؛ الإنسان فقط يكتشف خواص الأشياء ويبدأ في التفاعل معها؛ هذا التفاعل قائم على قانون “الأخذ بالأسباب”.
شماعة القضاء والقدر:
هذا الفهم يجعلنا كمسلمين ننتبه إلى أن تعطيل “الأخذ بالأسباب” وتعليق الأمور على شماعة القضاء والقدر هو فهم عليل لديننا. فالله سبحانه وتعالى وعدنا بالرزق فقال: “وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ”(سورة هود، الآية 6) ، لكن علينا أن نتفاعل مع الكون بالسعي والحركة فقال: “هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور” [الملك: الآية 15] فإذن، مهمتك ليست أن ترزق نفسك، بل أن تسعى لنيل رزقك.
بعض العلمانيين العرب دائماً يروّجون لفكرة أن التمسك بالدين هو سبب تخلّف العرب والمسلمين، ويطرحون تساؤلات حول علاقة التقدم بلبس الحجاب أو بفتح المساجد والصلاة وتلاوة القرآن.
ولكن لا شك أن هذا الكلام فهم سخيف للواقع وتزييف للوعي وترويج للأكاذيب، لأن الأخذ بالأسباب لا يعني أبداً تعطيل الشعائر التعبدية أو منع الأوامر الإلهية.
نعم، الغرب تقدم عندما نبذ الكنيسة وتعاليمها الظالمة والخرافات التي كانت تروجها، لكن الإسلام كدين لا ينبغي أبداً أن يُفهم أنه ضد العلم أو ضد العلماء كما كانت الكنيسة.
ونسألهم ماذا عن الآلاف من المسلمات اللاتي لا يلبسن الحجاب؟ هل تقدمنا بسبب ذلك؟ المشكلة في عالمنا العربي والإسلامي ليست في الدين أو في التدين، بل في فهم سنة “الأخذ بالأسباب”.
تتذكرون تلك المباراة المشهورة لأحد الفرق العربية في كأس العالم، حيث كانوا يُظهرون مشاهد أشخاص يقومون بالعمرات ويدعون عند الكعبة من أجل فوز الفريق ، المفاجأة أن النتيجة كانت هزيمتهم 6 / صفر!!!
هل الدعاء وحده عند الكعبة كافٍ لانتصار فريق كرة قدم؟
بالطبع لا. فالخلل ليس في الدعاء، بل في المنظومة بأكملها، هذه المنظومة تحتاج إلى مراجعة ليس فقط في الرياضة، بل في مجالات كثيرة.
عندما تتكلم عن ميزانية البحث العلمي في الدول العربية، تجد أنها من أقل الميزانيات، بينما يُصرف أغلب الميزانية على الأمن والدفاع.
فالمشكلة ليست في الدعاء، ولا في الدين؛ إنما كما قال الدكتور مصطفى محمود، رحمه الله: لو نزل إلى الماء مسلم وكافر، من سينجو من الغرق؟
الذي يجيد السباحة، بغض النظر عن دينه.
إذًا، المسألة ليست متعلقة بكون الإنسان مسلماً أو كافراً، بل بمدى أخذه بالأسباب.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله، أعقلها وأتوكل، أم أطلقها وأتوكل؟” فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “اعقلها وتوكل.”رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
يعني، اربطها وتوكل. ولكن، أن تترك الناقة وتقول أنك متوكل، فهذا ليس توكلاً حقيقياً.
وكان هناك بعض الحجاج الذين يخرجون من اليمن دون طعام أو زاد ويقولون: “رزقنا على الله.” نعم، الله هو الرزاق، لكن يجب عليك أن تأخذ بالأسباب وتستعد بالطعام والزواد؛ فالذي كان يسافر في القديم، كان يسافر في الصحراء، والصحراء قلة ماء وانعدام طعام وحياة، أي أن ما تفعله هو إلقاء نفسك إلى التهلكة بمعنى الكلمة.
لكن، كانوا يقولون لمن حولهم: نحن متوكلون، نحن متوكلون. الله سبحانه وتعالى بيّن لهم بقوله: “وتزودوا فإن خير الزاد التقوى”.[البقرة :197]