أثر الأذكار في علاج الهم والغم
للشيخ الدكتور عبد الرزاق العباد حفظه الله
موضوع هذا اللقاء عن ” أثر الأذكار الشرعية في طرد الهم والغم ” وكلكم يعلم أنَّ الإنسان بين الحين والآخر قد يُلمُّ به بعض الملمَّات ، وقد تصيبه بعض المصائب ، وقد يُبتلى ببعض الآلام الَّتي تكدِّره وتُؤلم قلبَه وتعصر فؤاده وربَّما جَلَبَتْ له الكثيرَ من الحزن أو الهمِّ أو الغمِّ ، وهذا الحزن أو الألم الَّذي يُصيب القلب إمَّا أن يكون متعلِّقًا بأمورٍ ماضية ، أو يكون متعلِّقًا بأمورٍ مستقبَلَة ، أو يكون متعلِّقًا بحاضر الإنسان ؛ قد يتذكَّر الإنسان أمورًا مَضَتْ وأشياء قد فاتت عليه فيتألَّم ويحزن لذلك ، وقد يكون الألم الَّذي أصاب قلبَه يتعلَّق بأمور مستقبلة ؛ يتخوَّف من أشياء ، يتوقع حصول أشياء ، يدخل قلبه شيء من المخاوف ، وقد يكون الألم يتعلَّق بواقع الإنسان كمصيبةٌ حلَّتْ به أو نزلت به ؛ ولهذا يقول العلماء: إنْ كان الألم الَّذي يصيب القلب متعلِّقًا بشيء ماضٍ فهو حزن ، وإن كان يتعلَّق بشيء مستقبل فهو هَمٌّ ، وإن كان يتعلَّق بواقع الإنسان وحاضره فهو غمٌّ.
وهذه الثَّلاث – الحزن والهمُّ والغمُّ – كلُّها آلامٌ تصل إلى القلب ، ثمَّ إنَّها إذا وصلت إلى قلب الإنسان تُتْعِبُه وتؤرِّقه وتكدِّر خاطره ، ولا يكون وضعُه مع وجودها سويًّا طبيعيًّا ، حتَّى إنَّك لتقرأ ذلك في بعض الوجوه ؛ تقابل أحدَ زملائك وبدون أن يتحدَّث إليك تقول له : “ما بالي أراك مهمومًا أو محزونًا أو مغمومًا ” بدون أن يتحدَّث لكنها تبدو آلامها على تقاسيم وجهه !! ولاسيما إذا اشتدَّت عليه . فهي أمور تصل إلى الإنسان لأسباب ولأحوال متنوِّعة تمرُّ عليه في هذه الحياة .
وعند النَّظر في طريقة علاجها والسَّعي في إبعادها وإزالتها من القلب ؛ نجد أنَّ النَّاس يتفاوتون في هذا الباب تفاوتًا عظيمًا وينحون في العلاج مناحٍ شتَّى ، ولكن لا علاج ولا دواء ولا شفاء ولا سلامة من ذلك كلِّه إلَّا بالعودة الصَّادقة إلى الله جلَّا وعلا ؛ فبالعودة إلى الله وذِكْره وتعظيمه وعمارة القلب بتوحيده والإيمان به ، واللُّجوء الصَّادق إلى الله والافتقار إليه والذُّلِّ بين يديه والانكسار له – سبحانه – كل هذه تذهب ولا يبقى منها شيءٌ.
والذِّكر هو طُمأنينةُ القلوب وأنسُ النُّفوس وذهابُ الهموم والغموم ، كما قال الله جلَّا وعلا: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28] ، فطُمأنينة القلب وزوال همِّه وغمِّه وحزنِه؛ إنَّما يكون بذكر الله وتعظيمه وعمارة القلب بالإيمان به عز وجل .
وعليه – أيها الإخوة – فإنَّ الذِّكر هو الشِّفاء وهو الدَّواء ، وقد جاء عن النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام أذكارٌ عديدة أرشد – صلوات الله وسلامه عليه – مَنْ أصابه كربٌ أو حلَّ به همٌّ أو نزل به غمٌّ أن يفزع إليها وأن يُحافظ عليها وأن يأتي بها ليزول عنه ما يجد وليذهب عنه ألمه وهمُّه وغمُّه .
وقد ورد في هذا الباب أحاديث عديدة خرَّجها أهل العلم في كتب الحديث ، وسأقف بكم – أيها الإخوة الكرام- على طائفةً عطرةً ونخبةً مباركةً من هذه الدَّعوات والأذكار العظيمة الثَّابتة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والَّتي يُشرع للمسلم أن يقولها عندما يصيبه الهمُّ أو الكربُ أو الحزنُ أو نحو ذلك.
- روى البخاريُّ ومسلم في صحيحيهما عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في الكرب : «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ» .
- وروى أبو داود في سننه عن أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها قَالَتْ : قَالَ لِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : «أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الكَرْبِ، تقولين: اللهُ، اللهُ رَبِّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» .
- وروى أبو داود في سننه عن أبي بكرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «دَعَوَاتُ المَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» .
- وروى التِّرمذي في سننه عن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ : لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ ، فَإِنَّهُ ما دَعَا بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللهُ لَه» .
هذه الأحاديثُ وهي أربعةُ عظيمةٌ وصحيحةٌ وثابتةٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فيها علاجٌ للكرب الَّذي يُصيب الإنسان ، ودواءٌ للغمِّ والحزن والهمِّ ، ووالله الَّذي لا إله إلَّا هو إنْ أتى بها الإنسانُ متأمِّلًا معناها محقِّقًا لمقصودها ومقتضاها لن يبقَ في قلبه من الهمِّ مقدار ذرَّة ؛ فإنَّها دواءٌ نافع وعلاجٌ مبارك وشفاءٌ لما في الصُّدور ، ولكن يحتاج المسلم إذا قال هذه الأذكار المباركة أن يتأمَّل في معناها ، وأن يعرف مدلولها ، وأن يحقِّق مقصودها ؛ يقول العلماء: «إنَّ الإتيان بالأذكار المأثورة والدَّعوات المشروعة بدون علمٍ بالمعنى وتفقُّهٍ في الدَّلالة ضعيفُ التَّأثير قليل الفائدة» ولهذا نحتاج إلى هذا الشيء في ذكرنا لله عز وجل ؛ كثيرٌ منَّا يأتي بالأذكار الشَّرعية ويواظب عليها لكنَّه لا يقف متأمِّلًا في دلالتها !
وعليه – أيها الإخوة – هذه الأذكار التي تقال لعلاج الكرب وعلاج الهم والغم والحزن لابد أن نتأمل فيما تدل عليه ، ولو وقفتم – أيها الإخوة الكرام – متأمِّلين في هذه الأذكار الأربعة الَّتي أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّها علاج للكرب لوجدتم أنَّها تَشترك في شيء واحد ، هذا الشيء الذي تشترك فيه هذه الأذكار لابد منه لعلاج الكرب والهم والغم ، ولابد منه لسلامة الإنسان وربحه وغنيمته في الدنيا والآخرة وتأمل !! في الأذكار الأربعة اجتمع تحقيق التَّوحيد الَّذي خُلق العبد لأجله ووجد لتحقيقه ؛ التَّوحيد الَّذي هو إخلاص العبادة لله وإخلاص الطَّاعة له سبحانه وتعالى هو المفزع للإنسان في كرباته وفي جميع همومه وغمومه ، ولا زوال للهموم والغموم إلَّا إذا حقَّق العبد التَّوحيد وفزِع إلى الله وأخلص دينه لله تبارك وتعالى .
وتأمَّلوا معي الأذكار الأربعة :
الأوَّل : حديث ابن عبَّاس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول في الكرب : «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ» ؛ لما يقول المكروب هذا الذِّكر المبارك وهو يتأمَّل معناه ويقف عند دلالاته «لا إله إلَّا الله» يتذكَّر توحيد الله وأنَّه إنَّما خُلق للتَّوحيد وأوجِد للاإله إلا الله ليشغل قلبَه ووقتَه وحياتَه بـ«لا إله إلَّا الله» ، هو خُلق لأجل ذلك ، ولهذا ينبغي أن تكون «لا إله إلَّا الله» هي أكبر همِّ الإنسان ، وأهمُّ شغل الإنسان ، وأعظمُ اتِّجاه الإنسان وجلُّ اهتمامه ، فهو لم يُخلَق إلَّا لأجلها ، ولم يوجد إلَّا لتحقيقها ؛ فهي مقصودُ الخليقة وأساسُ إيجاد النَّاس ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:56] ، ما خلقهم الله إلَّا لأجل « لا إله إلا الله » .
«لا إله إلا الله» تعني إخلاص العبادة لله وإخلاص الدِّين له ، «لا إله إلَّا الله» : أي لا معبود بحقٍّ إلَّا الله ، فيها نفيٌ وإثباتٌ ؛ نفيٌ للعبوديَّة عن كلِّ مَنْ سوى اللهِ ، وإثباتٌ للعبوديَّة بجميع معانيها لله وحده ؛ فالَّذي يقول: «لا إله إلَّا الله» لا يسأل إلَّا الله ، ولا يستغيث إلَّا بالله ، ولا يلتجأ إلَّا إلى الله ، ولا يعتمد إلَّا على الله ، ولا يتوكَّل إلَّا على الله ، ولا يطلب شفاءَ هُمُومِه وغمومِه وأحزانِه إلَّا مِنَ الله .
فيقول: «لا إله إلَّا الله العظيم »: يتذكَّر عظمة الله وأنَّ الله عز وجل هو الكبير المتعال وهو العليُّ العظيم ، فيتذكَّر عظمة الله وكمال قوَّته وكمال اقتداره وإحاطته بخلقه سبحانه وتعالى وأنَّه لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السَّماء، ويتذكَّر حُلم الله عز وجل .
ثمَّ يقول : «لا إله إلَّا الله ربُّ العرش العظيم » فيتذكَّر خلقَ الله للعرش ؛ ذلك المخلوق الَّذي هو أكبر المخلوقات وأوسعها ، ولهذا وُصف في هذا الذِّكر بأنَّه عظيم ووُصف بأنَّه كريم ، فعرش الرحمن عظيم وعرش الرحمن كريم و«الكَرَمُ» هو السَّعة ، والعرش هو أوسع المخلوقات وأكبرها ؛ فيتذكَّر عظمة الله بتذكُّر عظمة مخلوقاته الَّتي أوجدها الرَّبُّ عز وجل .
ثمَّ يتذكَّر خلق الله للسَّموات وخلق الله للأرض، يتذكَّر هذه المعاني الجليلة وهو يردِّد هذه الكلمات ؛ فينشغل قلبُه بها ويَنْصَبِغُ فؤادُه بها وتكون هي شغله , فأيُّ باقية تبقى للهمِّ أو الغمِّ أو الحزن مادام القلب منشغلًا بذلك ؟!
ولهذا نستفيد من هذا الدُّعاء وغيرِه : أنَّ علاج الهمِّ والغمِّ توحيدُ الله , ذكرُ الله ، تعظيمُ الله , تنزيهُ الله , الالتجاء إلى الله ؛ هذا هو العلاج .
وفي حديث أسماء بنت عميس قال: «أَلَا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الكَرْبِ ؟ » ؛ وهذا منه – عليه الصَّلاة والسَّلام – تشويقٌ لها إلى الفائدة وترغيبٌ لها ، لما اشتاق قلبُها رضي الله عنها إلى ذلك علَّمها ، قال: تقولين «اللهُ، اللهُ ربِّي لا أشرك به شيئًا» هذا علاجٌ للهمِّ ؛ «اللهُ، اللهُ رَبِّي، لا أُشرك به شيئًا».
«الله» الأولى: مبتدأٌ ، والثَّانية : تأكيد لفظيٌّ له – للمبتدأ – لعظم الأمر وكِبَرِ المقام وهو توحيد الله وإخلاص الدِّين له ، «الله، الله» تكرِّر هذه الكلمة مرَّتين حتَّى تملأ القلب وهو يتأمَّل فيها .
«الله، الله ربِّي» ؛ ومعنى «الله» : أي ذو الألوهيَّة ، ذو العبوديَّة على خلقه أجمعين الَّذي تُصرف له جميع أنواع الطَّاعات.
من هو الله ؟ من هو المعبود بحقٍّ ؟ قال: «اللهُ ربِّي» ؛ ومعنى قوله «الله ربِّي» : أي معبودي بحق الذي لا معبود لي سواه هو ربي الَّذي خلقني ، ومعنى «ربِّي» : «الرَّبُّ» هو الخالق الرَّازق المنعِم المدبِّر المتصرِّف في شؤون خلقه كلِّها، فمعبودي الذي أصرف له العبادة بجميع أنواعها ربي ، وهذا هو معنى قول الله عز وجل : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة:21] ، هنا يقول « الله ربِّي» يعني عبادتي وتوجُّهي وقصدي والْتِجَائي واعتمادي كلُّه على ربِّي الذي خلقني ، والرب هو الخالق الرازق المنعم المتصرف المدبر لشئون الخلائق الَّذي بيده أزمَّة الأمور تبارك وتعالى .
«لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» ؛ وهذا فيه البراءة من الشِّرك ، فعلاج الهمِّ: إخلاصُ التَّوحيد والبراءةُ من الشِّرك؛ بأن يعتمِدَ العبدُ على ربِّه سبحانه وتعالى في كلِّ ملمَّاته ، وفي جميع أموره ومهمَّاته .
وقوله: «لَا أُشْرِكُ» هذا فيه البراءة من الشِّرك ، و«الشِّرك» : هو تسوية غير الله به في أيِّ شيء من خصائص الرَّبِّ عز وجل ، سواء في الرُّبوبيَّة أو الألوهيَّة أو الأسماء والصِّفات.
«لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» : و«شيئًا» هنا نكرةٌ في سياق النَّفي فَتَعُمُّ ، أي: لا أشرك به شيئًا أيَّ شيء كان ، لا صغير ولا كبير ، لا دقيق ولا جليل ، وهذا فيه البراءة من الشِّرك كلِّه ؛ فإذا قال المسلمُ هذه الكلمة العظيمة ذهب عنه الكربُ لأنَّ قلبه انشغل بأعظم الأمور وأوجب الواجبات وأجلِّ المقاصد وأعظم الغايات وهو توحيد الله ؛ فما بقي للغمِّ فيه مكانٌ ؛ لأنَّه منشغلٌ بالتَّوحيد وبالإيمان وبالإخلاص للرَّبِّ العظيم سبحانه وتعالى .
وفي الحديث الثَّالث حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال عليه الصَّلاة والسَّلام : «دَعَوَاتُ المَكْرُوبِ » يعني دعوات من أصابه كرب « أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» ؛ ما أعظمها من دعوات !!
«اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو» ؛ هذا فيه الإخلاص وفيه التَّوحيد .
«رَحْمَتَكَ أَرْجُو» أصل الجملة : «أرجو رحمتك» فقدَّم المعمولُ على العامل ليفيد الحصر ، قولك «اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو» : أي رحمتك وحدك أنت , لا أرجو رحمةَ أحدٍ سواك وإنما أرجو رحمتك أنت وحدك ، وهذه صفة المؤمنين قال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ [الإسراء:57] . فيبدأ دعوته لطرد الكرب الَّذي أصابه بهذا التَّوحيد : «اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو» يعني أرجو الرَّحمة منك وأطلبها منك ولا أطلبها من أحدٍ سواك.
«فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» ؛ وهذا فيه افتقار العبد الكامل إلى الله عز وجل في كلِّ لحظة من لحظاته وفي كلِّ سكون من سكناته ؛ فأنت فقيرٌ إلى الله حتَّى في طَرْفَةِ العَيْنِ ، مفتقرٌ إلى الله في كلِّ شؤونِك ، لا غنَى لك عن ربِّك، وأمَّا الله فهو غنيٌّ عنك من كلُّ وجه ، وأنتَ فقيرٌ إليه من كلِّ وجه ، ولهذا تقول: «لا تكلني إلى نفسي طرفة عين»؛ إنْ وَكلك اللهُ إلى نفسك – ولو للحظةٍ واحدةٍ – تَضيع وتضلُّ ، من وُكل إلى نفسه ضاع ، ومن وُكل إلى غير الله ضاع ، ولهذا من نعمة الله على عبده المؤمن أن لا يكِلَه إلَّا إليه ، من نعمة الله عليك أن لا يكِلَك إلَّا إليه ؛ لأنَّه إذا وَكَلك إليه سبحانه وكَلَك إلى قوَّة وعزَّة وقهر وسلطان ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر:36] ، ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق:3] ، ﴿ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [الزمر:38] ، فأنتَ إذا كنت متوكِّلًا على الله لم تخف من شيء وخافك كلُّ شيء ، وإذا لم تكن متوكِّلًا على الله أخافك الله من كلِّ شيء ، حتَّى ما تتوكَّل عليه من المخلوقات تُوكل إليها وتكون سببًا لضياعك وهلاكك ، كما جاء في الحديث أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام قال: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدْعَةً فَلَا وَدَعَ اللهُ لَهُ» ؛ لأنَّ الَّذي تعلَّق التَّميمة وتعلَّق الودعة علَّق قلبَه بها فيضيع ، بينما المسلم لا يعلِّق قلبه إلَّا بالله سبحانه وتعالى ولا يلتجئ إلَّا إلى الله ولا يعتمد إلَّا على الله.
«وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ» ؛ وهذا فيه افتقارك إلى الله في إصلاح شأنك كلِّه ، فشأنُك في دينك وشأنك في دنياك وشأنك في آخرتك لا يصلُح إلَّا إذا أصلحه الله لك ، ولهذا كان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول في دعائه : «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، والموْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» .
«وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»: ثمَّ ذَكَرَ كلمة التَّوحيد «لا إله إلَّا الله» : أي لا معبود بحقٍّ سواك ، لا يُلتجأ إلَّا إليك ، ولا يُعتمد إلَّا عليك ، ولا يتوكَّل إلَّا عليك ، ولا تفوَّض الأمور إلَّا لك «لا إله إلَّا أنتَ» ؛ فهذا من الأمور الَّتي يُعالج بها الكرب.
والحديث الرَّابع: حديث سعد بن أبي وقَّاص أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام قال: «دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ ..» انظر هذا الكرب الَّذي أَصاب يونس عليه السلام ؛ التقمه الحوت ، ودخل به في أعماق البحر !! – مصيبةٌ عظيمة – فما كان منه عليه السلام إلَّا أن أخذَ يُردِّد هذه الكلمات: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالمينَ» ، وهو في الظُّلمات – ظلمات بطن الحوت وظلمات البحر وظلمات اللَّيل – وهو في أعماق البحر ، ويردِّد هذه الكلمات: «لا إله إلَّا أنْتَ سُبحانَك إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالمين» ؛ هذه دعوة ذي النُّون إذْ دعا بها في بطن الحوت ، فكان يكرِّرها فأذِنَ الله عز وجل للحوت وأمرها أن تُلقيَه ، وأنبت عنده شجرةً من يَقْطِين ، وأعاد عليه صحَّته وقوَّته بعد أن كان في أعماق البحر !! ولو نظرت بنظرتك المجردة الضعيفة ؛ إنسان ابتلعه الحوت كيف يخرج!! انتهى الأمر ، لكن «لا إله إلَّا أنْتَ سُبحانَك إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالمين» فيها تفريج الهموم وكشف الغموم وإزالة الكربات وإزالة الشِّدات مع الإخلاص ، لابد من الإخلاص لله «لا إله إلَّا أنْتَ » ، يونس عليه السلام كان يقولها وهو يثق بالله ، ويعتمد على الله ، ويلتجئ إلى الله ، ويعلم أنَّ فرج همِّه بيد الله سبحانه .
وهذه الكلمة تضمَّنت أمورًا أربعة:
- الأمر الأوَّل : التَّوحيد «لا إله إلَّا أنت» ؛ توحيد الله.
- الأمر الثَّاني : تنزيه الله «سبحانَكَ» ، ومعنى سبحانك : أنزِّهك يا الله عن كلِّ ما لا يليق بك ، أنزِّهك عن النَّقائص والعيوب ، أنزِّهك عمَّا يصفك به الواصفون من أعداء الرُّسل: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الصَّافَّات:180] .
- الأمر الثَّالث: الاعتراف بالظُّلم والتَّقصير «إنِّي كنتُ مِنَ الظَّالمين» .
- والأمر الرَّابع: العبوديَّة لله سبحانه وتعالى واعترافك بأنَّك عبدٌ لله عز وجل ولا غنى لك عن الله طَرْفَة عيْن .
فهذا فيه علاجٌ عظيم وشفاءٌ مبارك.
انظر مرة ثانية ؛ المصيبة التي نزلت بنبي الله يونس عليه السلام وانظر الفرج من رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم ورب المخلوقات كلها ، ولهذا يفزَع الإنسان في كلِّ ملمَّاته وفي جميع أهواله وشدَّاته إلى الله ، لا يُلجأ إلَّا إلى الله ، في أيِّ مصيبةٍ تصيبُك وأيِّ نازلةٍ تنزلُ بك لا تلجأ إلَّا إلى الله ، المخلوقاتُ كلُّها والنَّاسُ جميعهم واللهِ ما يملكون لك شيئًا ، إنْ أرادك الله بضرٍّ ما يملكون دفعَه ، وإن أرادك برحمة ما يملكون إمساكَها ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ [فاطر:2]، ﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [الزمر:38] ، ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا﴾ [الإسراء:56] .
الضُّرُّ الَّذي أراد الله نزوله لا يملكون كشفَه ، الضُّرُّ الَّذي أنزله الله بك لا يملكون رفعَه ؛ فالخافض الرَّافع القابض الباسط المعطي المانع المعزُّ المذلُّ الَّذي بيده أزمَّة الأمور؛ هو الله سبحانه وتعالى فلا يُلجَأُ إلَّا إليه ولا يُعتمد إلَّا عليه سبحانه وتعالى .
فهذه – أيها الإخوة – دعواتٌ أو أذكارٌ أربعةٌ ثبتت في السُّنَّة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في علاج الكرب.
وجاء في حديث آخر عظيم رواه الإمام أحمد في مسنده وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلاَ حَزَنٌ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ ، مَاضٍ فيَّ حُكْمُكَ ، عَدْلٌ فيَّ قَضَاؤُكَ ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ ؛ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ في كِتَابِكَ ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي؛ إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا » قَالَ: فَقِيلَ يَا رَسُولَ الله! أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: «بَلَى؛ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا» ؛ نحن ربَّما أنَّنا سمعناها مرَّاتٍ ، ذُكرت لنا في بعض الخطب ، في بعض الدُّروس ، قرأناها في بعض الكتب ، لكن ربَّما بعضنا ما نشط لتعلُّمها ، لا من جهة الحفظ ، ولا من جهة فهم المعنى ، ولا من جهة قولها عندما يصيبه الهمُّ. فهذه ثلاثة أنواع من التَّفريط:
- إمَّا أن يفرِّط الإنسان في حفظها أصلًا وقراءتها ومذاكرتها .
- أو أنَّه يحفظها ولكنَّه يفرِّط في فهم معناها والوقوف عند دلالتها .
- أو أنَّه يفرِّط في الإتيان بها ؛ يصيبه الهمُّ والغمُّ فينشغل بأمور كثيرة ولكنَّه لا يخطُر بباله هذا الدُّعاء المبارك !! .
هذه مشكلة عندنا ينبغي أن نُحاسب أنفسنا عليها ، وأن نجاهد أنفسنا على معالجتها ، فهذا دعاءٌ مبارَكٌ أخبر صلواته وسلامه عليه أنَّه ما من عبد يصيبه همٌّ أو غمٌّ فيقوله إلَّا ويذهِب الله همَّه وغمَّه ويبدله مكانه فرحًا – وفي رواية فرجًا – بدل الغمِّ الَّذي يغطِّي القلب ويؤلمه يتحوَّل فرحًا بعد الدُّعاء ، يتحوَّل ارتياح ، ومن بعد ذلك يأتي فرجٌ من الله سبحانه وتعالى للأمر الَّذي ألمَّ بالإنسان ، والَّذي دلَّنا على ذلك وأخبرنا به وأرشدنا إليه الصَّادق المصدوق الَّذي لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه ، ووالله إنَّ هذا الكلام لحقٌّ ، وإنَّ فيه لتفريج للهموم وشفاء للغموم وحصول للفرج وتحقيقًا للفرح كما أخبر بذلك رسولُنا عليه الصَّلاة والسَّلام .
ونحن في هذا الدُّعاء نحتاج إلى أمورٍ ثلاثة أشرتُ إليها :
- الأمر الأوَّل: أن نحفظه.
- والأمر الثَّاني: أن نفهم معناه.
- والأمر الثَّالث: أن نحافظ عليه عندما يصيب أحدَنا همٌّ أو غمٌّ.
وعندما تتأمَّل – أخي الكريم المبارك – هذا الدُّعاء؛ تجد أنَّه يشتمل على أصول أربعة لابدَّ منها لعلاج الهموم والغموم ، ولابدَّ أن تتأمَّلها وأن نحرص على فهمها وأنت تأتي بهذا الدُّعاء:
الأصل الأوَّل: تحقيق العبوديَّة لله ، إذا أردتَ لهمومك الذَّهاب فحقِّق العبودية لله ، وانظر تحقيق العبودية في هذا الدُّعاء ؛ أوَّل ما تبدأ تُحقِّق العبودية تقول: «اللَّهمَّ إنِّي عبدُك ابنُ عبدِك ابنُ أمَتِك» ؛ فأنا عبد لك .
- “أنا عبدٌ لك” : قد تكون بمعنى عابدٌ لك، أعبدك ، أدعوك ، أرجوك، أسألك ، أعتمد عليك ، ألتجئ إليك .
- وتحتمل “أنا عبدٌ لك” أي: أنا معبَّدٌ لك، مذلَّلٌ لك ، أنت خلقتني ، أنت أوجدتني ، أنت الَّذي تدبِّر أموري.
فأنا عبدك « ابن عبدك ابن أمتك» : والدي ووالدُه إلى آدم كلُّهم عبيدٌ لك أنت الَّذي خلقتَهم، وأمِّي إلى حوَّاء كلُّهنَّ إماءٌ لك أنت الَّذي أوجدتهنَّ ؛ فأنا مخلوق لك ، أوجدتني من العدم وخلقتني بعد أن لم أكن فأنا عبدك ، وأنا عبد لك ألتجئ إليك ، وأدعوك ، وأعتمد عليك ، وأفوِّض أموري إليك .
الأصل الثَّاني: الإيمان بقضاء الله وقدره وأنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، ولهذا قال: «نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فيَّ قَضَاؤُكَ» ؛ هذا فيه الإيمان بالقضاء والقدر، وأنَّ الأمور كلَّها بقضاء الله وقدره .
«ناصيتي بيدك» ؛ النَّاصية : مقدَّمة الرَّأس ، وناصية كلِّ إنسان بيد الله يدبِّرها كيف يشاء ويحكم فيها بما يريد ﴿ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود:56] ، فنواصي العباد بيد الله يدبِّرهم كيف يشاء ويقضي فيهم بما يريد ؛ يحي هذا ويميت هذا ، ويغني هذا ويفقر هذا ، ويعزُّ هذا ويذلُّ ذاك ، ويمرض هذا ويشفي هذا ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران:26] ، فالأمر لله سبحانه وتعالى من قبلُ ومنْ بعدُ ، وكلُّ أمر إنَّما يقع بقضاء الله ؛ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، ولهذا مِنْ أعظم ما يكون في علاج الهمِّ والغمِّ الإيمانُ بالقضاء والقدر ، ولهذا قال الله تعالى : ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ [التغابن:11] ؛ قال بعض السَّلف: « هو العبد المؤمن تصيبه المصيبةُ فيعلم أنَّها من عند الله فيرضى ويسلِّم » .
ولهذا الإيمان بالقدر له أثرٌ مباركٌ على العبد في راحة قلبه وطُمأنينة نفسه ، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام : «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» ؛ المؤمن في السَّراء يعلم أنَّها نعمة من الله فيحمد الله عليها ، وفي الضَّراء يعلم أنَّ المصيبة بقضاء الله سبحانه وتعالى وأنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فيصبر عليها ؛ فهو في النِّعمة ينال ثواب الشَّاكرين ، وفي المصيبة ينال ثواب الصَّابرين ، وهذا لا يكون إلَّا للمؤمن .
الأصل الثَّالث : الإيمان بأسماء الله وصفاته ، والتَّوسُّل إليه سبحانه وتعالى بها ؛ ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام : «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ ؛ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ» ، فمعرفة أسماء الله ومعرفة صفاته الواردة في الكتاب والسُّنَّة والتَّوسُّل إلى الله بها مِنْ أعظم الأمور الَّتي تُكشف بها الهموم وتُزال بها الغموم ، ولهذا قال الله تعالى : ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف:180]، وقال تعالى: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾[الإسراء:110] ، وقال تعالى: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الحشر:22-24] . فالتَّوسُّل إلى الله بأسمائه وصفاته أعظمُ الوسائل ، وهو مِنْ معاني قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ [المائدة:35] ، يعني ابتغوا القرب إليه بما يرضيه ، وممَّا يُرضي الله وطلب من عباده أن يتوسّلوا إليه به : أسمائه سبحانه وتعالى ، ولهذا كان عليه الصَّلاة والسَّلام يتوسَّل إلى الله بأسمائه ، كان يقول في دعائه : «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الخَلْقِ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي مَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي» توسَّلَ إلى الله بعلمه وتوسَّل إلى الله بقدرته . وفي القرآن: ﴿ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل:19] توسُّل إلى الله برحمته سبحانه وتعالى ، وفي دعاء الاستخارة : «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ» توسُّل إلى الله بالعلم وبالقدرة ، ولهذا يتوسَّل المسلم إلى الله بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى . وهنا توسُّل عامٌّ شامل بأسماء الله كلِّها ما علمناه منها وما لم نعلمه.
وهذا الحديث يدلُّنا على أنَّ هناك أسماء حسنى لله استأثر الله بها في علم الغيب عنده ؛ لم ينزِّلها في كتابه ، ولم يعلِّمها أحدًا من خلقه ، وقد جاء في حديث الشَّفاعة العظيم عندما يشفع النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام للخلائق بأن يأذن الله بحسابهم ويبدأ قال: «فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي» ؛ فهناك أسماءٌ لله استأثر بها سبحانه في علم الغيب عنده ، وهذا الدُّعاء فيه توسُّل إلى الله بكلِّ اسمٍ هو له ؛ سمَّى به نفسه، أو أنزله في كتابه، أو علَّمه أحداً من خلقه، أو استأثر به في علم الغيب عنده، وفي هذا أيضًا دلالة على أنَّ معرفة الله ومعرفة أسمائه ومعرفة صفاته أعظم الأمور الَّتي تتحقِّق بها السَّعادة في الدُّنيا والآخرة ، ولهذا قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر:28] ، كلَّما ازداد الإنسان معرفةً بالله وأسمائه وصفاته ازداد تعظيمًا له وإقبالًا عليه وبُعدًا عن معاصيه ، كما قال بعض السَّلف: «من كان بالله أعرف كان منه أخوف ولعبادته أطلب وعن معصيته أبعد» ؛ فكلَّما زادت معرفتك بالله زاد الخير فيك.
الأصل الرَّابع: العناية بالقرآن الكريم قراءةً وتدبُّرًا وتطبيقًا ؛ ونحن ما تكاثرت علينا الهموم ولا انتشرت فينا الغموم والهموم إلَّا لبُعْدِنا عن القرآن ، وإلَّا لو كنَّا متمسِّكين بالقرآن قريبِين منه نتلوه حقَّ تلاوته لَكُنَّا أسعد النَّاس، والله عز وجل يقول: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء:9] ، ويقول: ﴿وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس:57] ؛ فالقرآن شفاءٌ ، ودواءٌ ، وهداية ، وموعظةٌ ، وذكرى للذَّاكرين ، وتجد الإنسان عندما يتألَّم من بعض الأمور فيمسك بكتاب الله ويقرأ متدبِّرًا ما هي إلَّا لحظاتٌ ويجد الصَّدر منشرح ، والطُّمأنينة تكسو القلب ، والأنس يعمره ؛ حتَّى إنَّه يظنُّ أنَّ ما عنده أيّ مشكلة – مع أنَّه عنده مشاكل كثيرة – لكنَّه مع الطُّمأنينة الَّتي تغشى صاحبَ القرآن والسَّكينة الَّتي تنزل عليه ولاسيما إذا كان يتدبَّر القرآن ، يقول عليه الصَّلاة والسَّلام : «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ؛ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ المَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» .
فالقرآن شفاءٌ ، والاستشفاء بالقرآن ليس بأن يشتري الواحد منَّا مُصحفًا ويعلِّقه في الرَّفِّ ! أو يضعه في مقدِّمة السَّيَّارة ! وفي الوقت نفسه يتَّخذ كتاب الله مهجورًا لا يقرؤه ولا يتدبَّره ولا يجاهد نفسه على تطبيقه ، ليس هذا هو الاستشفاء بالقرآن ؛ الاستشفاء بالقرآن بأمور ثلاث :
1- قراءة القرآن . 2- وتدبُّر القرآن . 3- والعمل بالقرآن .
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [البقرة:121] ، ومعنى﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ : أي يقرؤونه ويفهمون معناه ويعملون بمقتضاه ، ومن التِّلاوة العمل ؛ تلاوة القرآن لا تكون بمجرَّد قراءته ! بل لابدَّ فيها من العمل به ، ولهذا يقولون: تلا فلانٌ فلانًا أي تبعه ، فلابدَّ من العمل بالقرآن ؛ ولهذا فإنَّ العناية بالقرآن قراءةً وتدبُّرًا وتطبيقًا هو أساس السَّعادة والفلاح وزوال الهموم والغموم ، ولهذا ختم هذا الدُّعاء بقوله: «أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ العَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي» ؛ إذا كان القرآن هذا شأنه في قلبك وهذا شأنه في صدرك : نور صدرك ، وربيع قلبك ، وجلاء حزنك ، وذهاب همِّك وغمِّك ، هل الغموم والهموم تجد طريقًا إلى قلبك ؟ هل لها مدخل إلى صدرك وفؤادك ؟ لا والله! لأنَّه معمور ، والقلوب أوعية ، فالقلب وعاء إذا ملأته بالذِّكر والقرآن واستحضار عظمة الله ما بقي لهذه الأمور أيُّ مكان ، لكنَّه إذا ضعف فيه الإيمان وضعُف فيه الذِّكر وضعُفت فيه الصِّلة بالله سبحانه وتعالى وجدت هذه الأمور إليه طريقًا وسبيلًا .
قال: «أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ العَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي»، لما ذكر القلب ذكر الرَّبيع ، ولما ذكر الصَّدر ذكر النُّور ؛ لأنَّ النُّور ينعكس على ما في داخله ، و«الرَّبيع» : هو الماء الَّذي يصل إلى النَّبات فيغذِّيها ثمَّ يشعُّ منها الخير ، فأنت إذا دخل القرآن إلى قلبك أصبح مثل الرَّبيع يُنبتُ أنواعَ الزُّهور وأنواعَ الحدائق وأنواعَ الثِّمار الَّتي لا أطيب منها ولا أجمل ولا أحسن ، وإذا شعَّ صدرك بالنُّور أصبحت حياتك كلُّها نورًا وضياءً .
قال : «وَجَلَاءَ حُزْنِي» : أي أن يجلو حزني ويذهب ولا يبقى منه شيءٌ بالاستشفاء بالقرآن.
«إلَّا أَذْهَبَ اللهُ غَمَّهُ وَهَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ فَرَحًا» .
هذه تذكرةٌ لي ولكم حول هذه الدَّعوات العظيمة ، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله عز وجل وأن نتعاهد أذكار النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام ودعواته المأثورة عنه بتعلُّمها ومدارستها ومذاكرتها وتطبيقها .
وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يفرِّج همومنا وهمومكم ، وأن ينفِّس كرباتنا وكرباتكم ، وأسأله سبحانه وتعالى أن يُصلح لنا جميعاً ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأن يصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، وأن يجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر ، اللَّهُمَّ إِنّا عَبيدُكَ بنو عَبيدِكَ بنو إمائكَ، نَواصِينا بِيَدِكَ ، مَاضٍ فينا حُكْمُكَ ، عَدْلٌ فينا قَضَاؤُكَ ، نسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ ؛ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ في كِتَابِكَ ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ في عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلوبنا ، وَنُورَ صدورِنا، وَذَهَابَ همومنا وغمومنا ، ونسأل الله جل وعلا أن يصلح لنا ولكم شأننا كلَّه وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طَرْفَة عين ، وأن يهدينا وإياكم سواء السَّبيل.
والله تعالى أعلم ، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وأصحابه أجمعين .