“يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ”
الحمد لله رب العالمين حمد عباده الذاكرين الشاكرين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير .
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله بلغ الرسالة و أدى الأمانة ونصح للأمة وكشف به الغمة …. فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت به نبيا عن أمته ورسولا عن دعوته ورسالته.
اللهم أحينا على ملته وأمتنا على سنته وانفعنا يوم القيامة بشفاعته واحشرنا إلى الجنة في زمرته.
اللهم كما آمنا به ولم نره فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
صل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ومن تابعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد أحبابي وإخواني الكرام ما زلنا نتكلم عن بعض المعاني الإيمانية التي نفتقدها في حياتنا…. تكلمنا عن البركة… تكلمنا عن السكينة…. اليوم إن شاء الله تعالى نتكلم عن
(الحكمة)
والله جل وعلا قال في سورة البقرة (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ …)269 البقرة
معنى الحكمة :
والحكمة جاءت في مواضع عديدة من القرآن الكريم ومعناها أو اشتقاقها من الحكم ؛ والحكم هو العلم بالشيء ومنع حدوث ضده. ومنه قول الحق جل وعلا (… وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) والحكم هنا ليس الحكم بأن يحكم الناس، إنما الحكم هنا العلم والفقه.
فالأنبياء تميزوا بأن الله علمهم من لدنه ؛ هنالك العلم الوهبي، هذا من الله يتنزل به على الأنبياء بالوحي.
وهناك العلم الكسبي الذي نتعلمه جميعا من خلال المعلمين والمشايخ والمدارس والجامعات …. هذا علم مكتسب.
أما الأنبياء فإن الله تعالى علمهم علما من لدنه.
فمعنى وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا يعني العلم والفقه في دين الله عز وجل.
ومنه سمي الحاكم حاكما لأنه يمنع الظلم بين الناس بإقامة العدل.
وفي بعض البلاد العربية يسمون الطبيب بالحكيم لأنه بطبه يمنع إنتشار المرض.
أما الحكمة التي نعنيها ههنا فإن معناها الإصابة في القول والفعل.
وفي بعض التعريفات : (أن تعلم ما الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي ) يعني أن لا يكون الإنسان متهورا أو عنده سرعة وعجلة وطيش في الأمور.
الإنسان من طبعه العجلة :
الله جل وعلا وصف الإنسان أنه عجول (…وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) الإسراء 11، ومعنى عجولا يعني من طبعه العجلة، السرعة، يريد الأمر بمنتهى السرعة. إذا اشتهى أمرا يريده. فديننا يعلمنا أن المسلم يغالب هذا الطبع بالحكمة والتأني والنظر في الأمور حتى لا يحدث ما لا يحمد عقباه.
أنواع الحكمة :
كما قلت أن الحكمة منها ما هو وهبي من الله ومنها ما هو كسبي بالتعلم ، فأما ما هو من الله فهذا أمر ينعم الله به على من شاء كما ذكرت في بعض الآيات عن الأنبياء أن الله تعالى آتاه الحكم (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ …)، (…وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) وآيات كثيرة في هذا المعنى أن الله هو الذي ينعم على الأنبياء بنعمة الحكمة والعلم.
أما نحن كيف نكتسب الحكمة؟
اكتساب الحكمة يأتي بعدة أمور :
أولها : تقوى الله سبحانه وتعالى:
وما علاقة التقوى بالحكمة؟
الحكمة من معانيها أن ترى الأمور ببصيرة، ترى الأمور على حقيقتها دون أن يكون هنالك غشاوة تمنع من الرؤية الحقيقية وحتى ترى الأمور ببصيرة تحتاج إلى أن تكون من أهل الطاعة والتقوى. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ …) عندك بصيرة وانكشاف للأمور. عندك رؤية واضحة، لا غشاوة ولاغبش ولا وقوع في فتنة ولا انشغال ببدعة ولا شيء من هذه الأمراض والحمد لله.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا …) أي أمرا واضحا ظاهرا تفرقون به بين الحق والباطل.
ثانيها : تجارب الحياة
فحكمة الشيوخ-أقصد كبار السن -غير حكمة الشباب ، فكلما كبر الإنسان كلما ازداد عقله وازدادت خبرته ومعرفته بالحياة ، والأيام والليالي والمواقف والأحداث تعلم الإنسان بما فيه الكفاية.. .. فلما تستمع لشخص عنده ستين سنة، عنده تجربة في الحياة وحكمة وبصيرة بخلاف ما تستمع لابن العشرين مثلا.
فتجارب الحياة جزء كبير أو معلم كبير للحكمة.
ثالثها / مجالسة أهل الحكمة :
أيضا من أسباب اكتساب الحكمة أن تجالس أهل الحكمة، فمجالسة الصالحين، مجالسة العلماء، مجالسة من ينتقون الكلام، هؤلاء يجعلونك ممن تكتسب الحكمة…. فالطبائع تعدي ومجالسة الناس يجعل في الإنسان تأثرا ، كما قالت العرب قديما: الصاحب ساحب. من يجالس أهل الإيمان يغلب على لسانه هذه الرؤية واللسان الطيب ومن يجالس أهل المعصية يغلب على لسانه اللغو والرفث والكذب …. فالطبائع تعدي يا إخواني.
فمجالسة أهل الحكمة، أهل العلم، أهل الصلاح، أهل الخبرة، هؤلاء يكسبونك من حكمتهم وخبرتهم.
هذه أهم أسباب ثلاثة لاكتساب الحكمة:
تقوى الله فيحقق الله لك البصيرة،
خبرات وتجارب الحياة،
مجالسة الحكماء والعلماء ومن عندهم البصيرة.
مواطن الحكمة :
أولها الحكمة في الدعوة إلى الله عزو جل:
كثيرا ما نرى البعض عنده إخلاص لله وللدعوة لدين الله لكنه ليس عنده حكمة…. عنده تهور، عنده حماسة كبيرة لكنها ليس فيها بصيرة….. عنده حرص على الحق ودعوة للحق ولكن…. ليس عنده بيان أو حكمة في البيان لهذا الحق الذي يعتقده.
الله سبحانه وتعالى علمنا: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ …) تأملوا يا إخواني هذا سبيل الله. وعلى الرغم من هذا، إن دعوته بطيش أو تهور أو حماسة أوما شابه ذلك تؤدي حتما إلى النفور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن منكم منفرين”. فالمنفر هذا لم يقصد أن ينفر الناس ولم يقصد أن يصد الناس عن سبيل الله بل إنه أراد أن يدعو الناس إلى الله لكن بدون حكمة وبدون ترو وتأن في هذا السياق.
تعلم كيف تدعو من أمامك…. تعلم كيف تصيغ الكلمات مع من تكلم ، كما قال الشيخ الشعراوي: النصيحة مرة وثقيلة على النفس ، وكثير من الأنفس لا تتقبل النصيحة لثقلها ومرارتها…. وحينما يكون الدواء مرا، فإنه يوضع في كبسولة، كبسولة جيلاتينية هذه فيها الدواء، فأول ما تبتلعها لا تشعر لها بمذاق وربما يضيفون لها مذاق بطعم السكر حتى تستطيع بلعها لكن الفائدة في الدواء المر الذي بداخلها ؛ فكذلك النصيحة غلفها بالسكر، غلفها بالبسمة ، بالكلمة الطيبة، غلفها بالسياق الذي تستطيع أن تنال أو تسقط النصيحة في وضعها الصحيح فيكون الذي أمامك أسرع وأدعى للقبول.
ويحضرني في هذا حفيدي النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين حينما أبصرا رجلا كبيرا يخطئ في الوضوء. ماذا يفعلان وهما الصبيان الصغيران؟ قال أحدهما: يا عم، هذا اخي يدعي أنه يتوضأ أفضل مني (أخي هذا يدعي أنه يتوضأ أحسن مني) فهلا توضأنا أمامك فتحكم بيننا من الذي يتوضأ أفضل من الآخر؟ سبحان الله العظيم !
بدءا في الوضوء فانتبه الرجل لخطئه وقال أنتما تحسنان الوضوء وأنا الذي لا أحسن الوضوء.
فهنا ليس من المفضل أن تكون النصيحة في صيغة نصيحة مباشرة… ممكن أن تكون في صيغة سؤال… ما رأيك في شخص يفعل كذا؟ ما رأيك لو أن أحدا فعل كذا وكذا؟ صيغة سؤال كأنك تكتسب خبرته و تكبر به.
تصور أني عرفت هذا اليوم معلومة أول مرة أعرفها! (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا).
أنا سمعت الشيخ في المسجد يقول كذا وكذا وكذا… هذه نصيحة بصورة غير مباشرة .
فإذا أتقنا النصيحة لله عز وجل تكون بذلك الأنفس أدعى وأقرب للقبول والإستجابة.
ثانيا / الحكمة في الألفاظ والكلمات :
من الحكمة يا إخواني الحكمة في اللفظ… ومن يسعده الله يسعده في لفظه كما قالوا : الملافظ سعد وأيضا فيها التعاسة.
فاختيار وانتقاء الألفاظ مطلوب يا إخواني.
بعض الناس لا يجيدون كيف يتكلم ؟ وكيف يسكت ؟
تكلم فإذا تكلمت تكلم بالخير وإذا سكت سكت للخير. “رحم الله رجلا تكلم فغنم أو سكت فسلم”
وهذا ما قاله لنا رسول الله “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”.
ممكن واحد يقول كلمة، كلمة لا يلقي لها بالا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فتشعل حرب بين بلدين أو تخرب أسرة أو تخرب شركة أو تضيع مستقبل شخص. …سبحان الله العظيم بكلمة واحدة.
ولذلك توعد النبي هذا الأمر بعقوبة سبعين سنة في النار. ” إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة -من سَخَط الله- لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في النار سبعين خريفا”. فالحكمة في الكلام يا إخواني، كيف تتكلم ومتى تتكلم وخاصة في المواقف الحاسمة، خاصة في أعراض الناس، خاصة في الأمور التي يكون فيها النزاع والشقاق.
وكان عمر بن الخطاب يقول أن من طيبات الدنيا أن تجالس أقواما ينتقون الكلام كما ينتقى أطايب الثمر. نضع طبق الفاكهة فننتقي الفاكهة الطيبة ونأكل منها. قال أن مجلسا فيه انتقاء الكلام أطيب من هذا المجلس الذي تنتقى فيه الفاكهة.
ومن هذه الباب يا إخواني لما سئل العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أنت أكبر أم النبي؟ قال هو أكبر مني وأنا ولدت قبله.
من أدبه رضي الله عنه يقول هذا الكلام.
وكان عمر بن الخطاب ذات مرة مقبلا على قوم أشعلوا نارا في الليل يستدفئون بها فقال السلام عليكم يا أهل الضوء.
كره أن يقول يا أهل النار.
وقال الخليفة لأحد الصبيان ما جمع سواك قال محاسنك يا أمير المؤمنين.
يعني جمع سواك مساويك فكره أن ينسب السوء إلى الخليفة. سبحان الله!
والعكس بالعكس بعض الناس يعني اعوذ بالله في ألفاظهم لا يجيدون الكلام ولا يعرفون كيف يتكلمون. واحد كان يزور مريضا فقال له مم تشتكي؟ قال عندي كذا وكذا وكذا… قال نفس المرض الذي مات به أبي.
فسبحان الله العظيم يعني بشروا ولا تنفروا.
واحد كان يزور أحد الناس عنده ألم في الركبة وأجرى عملية جراحية، قال سمعت أجدادي يقولون : وداء الركبتين ليس له طبيب. لا إله إلا الله !
فلان تعب من عينه فذهبت لم يعد يبصر بها.
الآن أين تعمل في شركة إيه؟ قال شركة كذا. قال أنا سمعت أنها أفلست أو على وشك الإفلاس.
زوجتك أين ستلد إن شاء الله؟ في المستشفى الفلاني . أنا سمعت أنهم يبدلون الأطفال…. سمعت أنهم يقتلون الأطفال. سمعت أن فيها فيروسات.
المهم أنه ينتقي أخبث الكلام أو أصعب الكلام حتى ينفر من أمامه…. وهذا مزاج سوداوي عجيب تراه في بعض الناس لا يرى إلا السوء، الصورة السيئة السوداء القاتمة التي لا أمل فيها ولا روح أبدا.
وهذا ليس من دأبنا نحن المسلمين يا إخواني.
فالمسلم طيب الطعام وطيب الكلام والقلوب كالقدور والألسنة مغارفها. أنت تأكل طيبا وتخرج طيبا وتنتقي أطايب الكلام وأطايب الحديث سبحان الله!
إذن يا إخواني الحكمة أن تنتقي طيب الكلام.
ثالثا / استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان:
وهذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله… كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها. (مش كل شيء في حياتك يكون معلن…. مش كل شيء في حياتك يكون الكل عارفه….. مش كل الأسرار تكون مشاعة على جميع الناس).
وأخص بهذا نساءنا الكريمات حينما تتكلم مع أختها وجارتها وأمها وخالتها أسرار البيت كلها تكون بالخارج.
هنالك أمور تروى وهنالك أمور تطوى.
هنالك أمور تحكى وهنالك أمور تبقى هكذا سرا للبيت.
فلا يعقل أنه كل واحد يحدث الله له نعمة أو يحدث له أمر يشيعه بين الناس ويتكلم ويقول ويروي… “فاستعينوا في قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود” وهذا حديث سنده ضعيف لكن معناه صحيح.
ونبي الله يعقوب عليه السلام حينما قص عليه ابنه يوسف الرؤيا قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا… فعلمه الحكمة رغم أنها رؤيا مبشرة وتبين أن يوسف سيكون ذو شأن وسيكون يعني له مكانة كبيرة إلا أنه خاف على ابنه من كيد إخوته وحسدهم.
من هذا القبيل ما ابتلينا به حاليا على الفيسبوك وغيره تجد الأخ ذهب إلى رحلة فيصور الرحلة وسعادته مع زوجته وأبنائه ووصف الرحلة وواقع الرحلة ونحن في كذا وفي مكان كذا….
ذكرت لكم من قبل أن الشرطة سألت اللص كيف عرفت أن الأسرة تركت البيت ؟ قال : من الفيسبوك…. حرامي مودرن سبحان الله. فتتبع الفيسبوك وعرف أن الأسرة مسافرة.
الآن سنسافر إلى أجازة في المكان الفلاني…
الآن نحن نركب الطائرة…
الآن نزلنا من الطائرة…
الآن ركبنا السيارة…
هذه سيارتي الجديدة…
هذا هاتفي الجديد…
هذا البيت الذي اشتريته … وهذا هذا هذا…
يعني لمن تفعل هذه الأمور؟
أي نعم هنالك من يفرح لك لكن هنالك من يحسد، وهنالك من يحقد وهنالك من يصيبك بالعين… سبحان الله العظيم !
هنالك حوادث كثيرة جدا لمن نشروا أشياء وحدث لهم ما حدث… السيارة تعمل حادثة… الهاتف يقع مكسور… الرحلة يكون فيها مرض… طيب وليه ؟ ليه كل شيء يعني معلن أمام الناس؟.
فيا إخواني استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.
هذا من الحكمة. لا داعي للمباهاة ولا للتفاخر ولا لنشر كل شيء يخصك.
اجعل ما يخصك لمن يفرح لك من أحبابك، من أهلك -شيء خاص- أما شيء على العلن هكذا ، أوأنك تعلن في الناس على سبيل المفاخرة والمباهاة، على سبيل إظهار السعادة فهذا مما يجني الكثير من الناس عقباه.
فمن الحكمة استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.
رابعا / لا تعادي كل الناس:
الناس لن يكونوا جميعا على هواك وعلى مزاجك…. خلقنا الله هكذا مختلفين في كل شيء حتى أبناء البطن الواحدة مختلفين، حتى التوائم مختلفين. هذه سنة الله عز وجل.
فإذا طلبت صديقا بلا عيب ستعيش وحيدا منفردا…. الناس كلها فيها عيوب، الناس كلها فيها نقائص.
ومن ثم لا تنظر إلى الناس وتنسى نفسك. أنت نفسك فيك عيوب.
فسبحان الله العظيم بعض الناس دائم الشجار والخصام مع الناس على أتفه الأسباب وعلى أقل الأسباب. يعادي زوجته، يخاصم أهله، يسب إخوته، يخاصم أرحامه، مع جيرانه غليظ، مع زملائه كذا… ليه يا أخي ليه؟
إذا تكلمت معه السبب الرئيسي أنهم ليسوا على هواه، أنه يريد كذا وهم يريدون كذا.
المداراة في التعامل مع الناس:
والمداراة معناها أن تفهم من أمامك. الرسول عامل الناس بهذه المعاملة لما قال العباس عم النبي إن أبا سفيان رجل يحب الفخر. هذه صفة موجودة في أبي سفيان. عامل النبي أبا سفيان على هذه الصفة فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. طيب دار أبي سفيان تتسع لكل أهل مكة؟ مستحيل طبعا.
لكن أن يذكر اسم أبي سفيان في هذا البيان العسكري رقم واحد في فتح مكة هذا فيه نسبة الفخر والمكانة لأبي سفيان.
والرسول أردف بعدها بقوله ومن دخل بيته فهو آمن. فمن العقل، لن يترك أحد بيته ليذهب لبيت أبي سفيان ، لكن راعى النبي كيف أن أبا سفيان رضي الله عنه فيه هذه المسألة.
فلماذا لا تكبر الكبير في وسط الناس؟
لماذا لا تأخذ الناس مخاطبا إياهم على قدر عقولهم؟
الفرق بين النفاق والمداراة :
هذا يا إخواني ليس نفاق. المنافق يبيع دينه من أجل الدنيا. هذه صفة قبيحة.
أما المداراة فهي أن تقدم الدنيا من أجل دينك. الدنيا سهلة، هينة، رخيصة، لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
ماذا لو خسرت قليلا من الدنيا وتكسب قلبا وتكسب مودة وتكسب صحبة وتكسب صديقا وتكسب رفيقا… ما المانع من ذلك؟
بعض الناس يقول لا أنا حاد طبعي حاد أنا هكذا غضوب أنا عصبي أنا (nervous) ولماذا جعلت هذا… هل هي صفة منزلة بالقرآن عليك؟ لماذا لا تغير من نفسك؟
الله تعالى قال لمن هو خير مني ومنك (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ) رغم أن الأعمى عبد الله بن أم مكتوم لم ير النبي وهو عابس. عبد الله بن أم مكتوم لم ير النبي وهو يكشر، لم ير الضيق في وجهه لكن رآه الله عز وجل فقال له (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ) هذا عبد الله بن أم مكتوم خير ممن تجالسهم.
وقال له في سورة آل عمران (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ …). بعض الناس يجعل الجلسة كلها لإخراج عيوبك…. يسخر بك أمام الناس فيقول لك : أنت يا فلان جرى لك كذا وأنت كذا وفيك كذا وعيبك كذا وأنت من البلد الفلاني اللي كلهم بخلاء وأنت من البلد الفلاني اللي فيها مجانين وأنت من البلد الفلاني اللي فيها كذا وأسرتك كذا.
هذا يا إخواني ليس من محاسن الأخلاق .
وليس من الحكمة أن نعامل الناس بالتركيز على النقائص.
حتى في التربية تربيتك لأولادك لا تركز على نقاط الضعف فتبرزها. ركز على نقاط الجمال والخير وانشرها وكبرها في الشخص الذي أمامك.
قصة ابن مسعود مع المغني زاذان :
أيام عبد الله بن مسعود كان مغنيا اسمه زاذان ومجالس الغناء في القديم كانت مجالس الخمر والرقص وهكذا، فلما سمع عبد الله بن مسعود صوته مرة قال ما أجمل هذا الصوت لو كان بكتاب الله عز وجل ؟ّ!!
بلغت الكلمة لزاذان المغني …فسبحان الله العظيم وقعت في قلبه موقعا فتاب إلى الله وكسر آلات الطرب وفارق مجالس اللهو وصار من أهل القرآن فعلا.
كلمة قيلت يا إخواني. ما أطيب هذا الصوت لو كان بكتاب الله عز وجل. التركيز على محاسن الناس .
من الحكمة البالغة أن تتعامل مع الناس بهذا الشكل. الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر عنده خالد بن الوليد وكان لا يزال على الشرك. له أخ اسمه عمارة. عمارة سبقه بالإسلام، عمارة بن الوليد. قال النبي صلى الله عليه وسلم : قد كنت أظن أن لخالد عقلا سيأتي به. (أنا أعرف أن خالد عنده عقل راجح ومتزن سيأتي به.) ويرسل عمارة بالكلمة لخالد بن الوليد ليلين الله قلبه ويدخل في الإسلام ونعلم من هو خالد بن الوليد وما مكانته.
عندنا في كتب السنن والصحاح باب اسمه باب الفضائل. الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس يعدد مناقب صحابته. يقول أرفق أمتي أبو بكر وأشدها في دين الله عمر وأكثرها حياء عثمان وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضها زيد بن ثابت وعندك كثير من الفضائل في الصحابة الكرام.
لماذا كان النبي يحرص على هذا؟ هذا لا يعني لمجاملة أصحابه أو أنه يريد أن يرفعهم فوق مكانتهم؛ إنما أراد النبي التربية على هذا المعنى أن نكبر في الناس المحاسن ومواطن الخير ومواطن النفع ، ثم ما كان من شيء فيه نقص أو عيب أو نحوا من ذلك نطويه ولا ننشره ولا نكبره ولا نجعل الصغير كبيرا سبحان الله العظيم.
ورحم الله الإمام الذهبي له كتاب اسمه (سير أعلام النبلاء ) كان يؤرخ فيه للعلماء والناس في زمانه فمما قال :
(وله بعض السيئات تغمر في بحر حسناته.)
فرمز للسيئات بالشيء الذي لا يذكر ورمز للحسنات بالبحر إشارة إلى الخير الكثير سبحان الله.
فمن الحكمة أن لا نتعامل مع الناس بنقائصهم، بسلبياتهم، بنقدهم الدائم، بسبهم، بذكر ما فيه تحقير لشأنهم أو استهزاء بهم.
إنما نكبر الصغير ونزيد من المسألة في الفضائل والمحاسن والميزات حتى نكبرها في الناس وننشر الفضائل بين الناس ونكون بذلك زينة في وسط الناس بهذا الأمر.
فمن الحكمة كيفية التعامل مع الناس (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ …). نسأل الله تعالى أن يرزقنا الحكمة وأن يجعلنا من أهل طاعته. اللهم آمين. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. خطبتنا في كلمات أحبابي وإخواني الكرام:
-الحكمة معناها الإصابة في القول والفعل.
-من الحكمة ما هو من الله. هبة من الله سبحانه وتعالى وأغلب ما تكون في الأنبياء والعلماء. ومنها ما هو كسبي يعني نكتسبها بالخبرة والتعلم. إنما العلم بالتعلم.
-ولها وسائل ثلاثة. الوسيلة الأولى: تقوى الله التي تثمر البصيرة ثم مجالسة أهل الحكمة والخبرة والفضل. ثم تجارب الحياة والخبرة في الحياة.
-مواطن الحكمة كثيرة منها ما ذكرناه في هذه الخطبة:
-الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل.
-الحكمة في الكلام وفي السكوت
-ثم الحكمة في معاملة الناس ومداراتهم
-ثم الحكمة في أن تكتم الأمور فليس كل شيء يعلن وليس كل شيء يعرفه الناس… إستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه وأن يجعلنا من أهل طاعته. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم ربنا آتي نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وصلى الله وسلم وبارك على نبينا المصطفى المختار وعلى آله وصحبه الأطهار وسلم تسليما كثيرا.