العبودية هي: الخضوع والانقياد والطاعة لله تبارك وتعالى.
أدلة من القرآن على عبودية الكائنات لله :
1- تسبيح الكائنات كلها لله :
يقول تبارك وتعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء:44]. فالله يقول:( تُسَبِّحُ)، إذاً: هي تسبح، وقوله تعالى: (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)، نفى هنا معرفة كيفية التسبيح.
وعبر عنها هنا بضمير العاقل، ولم يقل: (ولكن لا تفقهون تسبيحها) أي: الكائنات، وإنما أعاد عليها ضميراً من يعقل؛ لأنه أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح، ولذلك قال: (وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).
وأيضاً علم الله سبحانه وتعالى كل كائن من هذه الكائنات كيفية التسبيح الخاصة به، يقول عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]
وهذه الصلاة ليست بالضرورة مكونة من ركوع وسجود وتكبيرة إحرام وتشهد وتسليمتين، وإنما هو تسبيح خاص ألهمها الله عز وجل إياه، فقوله تعالى: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]، يعني: أن الله علم صلاة كل شيء من هذه الكائنات وتسبيحها .
وأما لماذا لا نفقه تسبيحهم فلأنها بخلاف لغتنا، والله سبحانه وتعالى امتن على سليمان بنعمة خصه بها على سائر الناس فقال: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ [النمل:16]، فسليمان عليه السلام فهم كلام النملة، ولم يكن هذا مجازاً بل كان حقيقة قطعاً.
2- قال عز وجل: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18]؟ وفي هذا اعتذار عن سليمان عليه السلام؛ لأن سليمان عليه السلام لا يمكن أن يتعمد أذية النمل، لكن قد يقتله هو وجنوده دون أن يشعروا، فهذا اعتذار في غاية التأدب مع نبي الله ومع جنوده وأصحابه.
3- والهدهد حينما أتى وخاطبه وحصل بينهما هذا الحوار، هل كان هذا بالإشارة أو بالرموز أم أنه كان حقيقياً؟ الجواب: كان كلامه حقيقياً.
إذاً: الهدهد يتكلم، والنمل يتكلم، وإمكانيتكم لا تسمح لكم بالتقاط وفهم هذا التسبيح.
4- وكذلك أطلع الله سبحانه وتعالى داود عليه السلام على تسبيح الجبال والطير، وداود عليه السلام كان يقف موقفاً مهيباً عظيماً عجيباً حينما يسبح الله عز وجل، فكان يجاوبه كل شيء، حتى الطيور في السماء كانت تجيب وتردد خلفه، والجبال تشترك معه في هذا التسبيح، يقول تبارك وتعالى في سرد قصة داود عليه السلام: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ:10].
ولو كان تسبيحاً عادياً بمعنى أنه إذا رآها قال: سبحان الله لما اختص داود بهذا، وما الفرق بين داود وبين أي شخص آخر إذا رأى الجبال قال: سبحان الله؟ هذا إفساد لمعاني القرآن، ولذلك يقول تعالى: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [سبأ:10]، فهذا خطاب للجبال،
ويقول تعالى: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:19]، ويقول: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ [ص:18]
5- ويقول تبارك وتعالى: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]،أي: أن الحجر قد يهبط من خشية الله.
6-وقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69]، وذلك أنهم سبوا نبيهم موسى عليه السلام، واتهموه بأنه آدر، يعني: أن فيه عيباً في العورة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن ينزه موسى ويثبت لهم براءته من هذا العيب؛ لأن الأنبياء كاملون في صفاتهم الخلقية والنفسية والجسدية، وفي كل شيء، فالنبي لا يكون فيه عاهة أو نقص أو عيب في خلقته.
وكان موسى عليه السلام رجلاً حيياً، وكان بنو إسرائيل يغتسلون عراة أمام بعضهم البعض، فاغتسل عليه السلام في مكان خالٍ لا يراه أحد، فوضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه -أي: هرب الحجر وأخذ ثوب موسى وفر به- فخرج موسى في إثره يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! يعني: هات ثوبي يا حجر! إلى أن مر موسى عليه السلام على ملأ من بني إسرائيل على هذه الهيئة وهو عارٍ، فرأوه وقالوا: ما بموسى من بأس، حينئذ توقف الحجر، فأخذ موسى ثيابه، وأخذ يضرب بالحجر؛ حتى إن الحجر ليزبل من ضرب موسى، أي: أثر ضرب موسى في الحجر من شدة الضرب؛ لأنه تغيظ منه أنه فعل ذلك، فهذا الحجر هل فعل ذلك بإرادته، أم أن الله أمره؟ الجواب: أمره الله سبحانه وتعالى، والدليل قوله تعالى: فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69].
7- عبودية السماوات والأرض :
وأيضاً هناك عبودية السماوات والأرض، يقول تبارك وتعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11].
وقال عز وجل: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ [هود:44].
ويقول تعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً [مريم:90-91]
يقول ابن عباس : إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق، إلا الثقلين، وكادت أن تزول منه لعظمة الله.
ويقول تبارك وتعالى: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ [الدخان:29]، قال بعض العلماء: فيه أنهما لا يبكيان على الكافرين، ومفهومه أنهما يبكيان على المؤمنين، وفراق الصالحين.
كل شيء له بكاء خاص به، فبكاء الإنسان بالدموع، أما بكاء السماوات والأرض فبحسبهما، والله أعلم بكيفيته.
أدلة من السنة على عبودية الكائنات لله :
1-عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه ليستغفر للعالم من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر) رواه ابن ماجة .
وفي الترمذي زيادة: (حتى النملة في جحرها لتستغفر هي الأخرى لمعلم الناس الخير)،
2- وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)، أي: ما زال الحجر قائماً وموجوداً، وكان إذا رأى النبي عليه الصلاة والسلام قال له: السلام عليك يا محمد! أو يا رسول الله!
3- الاسد يحمي مولى رسول الله :
وعن سفينة -وهو أبو عبد الرحمن مهران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقب سفينة لأنه حمل شيئاً كبيراً في السفر- أنه أخطأ الجيش بأرض الروم، فإذا هو بأسد، فقال: يا أبا الحارث! أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من أمري كيت وكيت، فأقبل الأسد وله بصبصة -يعني: يحرك الذنب، وكأنه يرحب به- حتى قام إلى جنبه وكلما سمع صوتاً أهوى إليه -أي: أهوى إليه الأسد؛ كي يحميه من أي ضرر يقع به في الطريق- ثم أقبل يمشي إلى جنبه حتى بلغ الجيش، ثم رجع الأسد
عن محمد بن المنكدر ، أن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطأ الجيش بأرض الروم ، أو أسر في أرض الروم ، فانطلق هاربا يلتمس الجيش ، فإذا هو بالأسد ، فقال : يا أبا الحارث ، إني مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان من أمري كيت وكيت . فأقبل الأسد يبصبصه حتى قام إلى جنبه ، كلما سمع صوتا أهوى إليه ، ثم أقبل يمشي إلى جنبه ، فلم يزل كذلك حتى أبلغه الجيش ، ثم رجع الأسد عنه . رواه البيهقي .
4- جبل أحد
وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جبل أحد بقوله: (هذا أحد جبل يحبنا ونحبه)، رواه البخاري.
ومن ذلك أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام صعد أحداً مرة وكان معه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فرجف الجبل -أي: اهتز الجبل وتزلزل- فقال له النبي عليه السلام: (اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، والصديق هو: أبو بكر ، والشهيدان هما: عمر وعثمان ، وهذا رواه البخاري ، وهذا من أعلام النبوة؛ لأنه أخبر أن عمر وعثمان سيكونان شهيدين، وقد قتلا رضي الله تعالى عنهما شهيدين.
5- حنين الجذع:
فقد كان للرسول عليه الصلاة والسلام جذع نخلة في المسجد، فكان إذا أراد أن يخطب اتكأ عليه، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بصنع المنبر، وصنع المنبر، وفي أول صلاة جمعة لما دخل المسجد مر على الجذع، ولم يستند إليه كما هي العادة، ورقى المنبر، فإذا بالجذع يبكي بكاء الصبي الذي يحن لأمه، وظل الجذع يتأوه، وكان صوته يسمع في جميع أرجاء المسجد، بكى حنيناً إلى رسول الله، وتألماً لفراقه، وظل صوته كالطفل الذي يبكي حتى نزل الرسول عليه السلام من على المنبر، وضم الجذع إليه، وربت عليه إلى أن سكن، وهذا كله كان أمام الصحابة.
وهذا الحديث في البخاري : (أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب الجمعة مستنداً إلى جذع، فقالت امرأة من الأنصار: يا رسول الله! ألا نجعل لك منبراً؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبراً، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل صلى الله عليه وسلم فضمها إليه، ووضع يده عليها فسكنت).
إذاً: الجذع كان يحن إلى رسول الله، وكان يتفاعل معه، ويحبه، ويريد أن يقترب منه صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا كله يثبت أن الله سبحانه وتعالى قد يخلق في الجمادات من الإدراك ما تعي به أشياء كالعاقل.
6- ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قرصت نملة نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية النمل فأُحرقت، فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة فأحرقت أمة من الأمم تسبح الله!) رواه البخاري، أي: أن الله عز وجل عاتبه.
7- مُر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجنازة فقال: (مستريح ومستراح منه، فسألوه عليه الصلاة والسلام: ما مستريح وما مستراح منه؟ فقال: إن العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب) رواه البخاري.
ومعنى ذلك أن هذه الكائنات كلها تكره الكافر، وتكره الفاسق الذي يعصي الله تبارك وتعالى، وتود موته حتى تستريح من شره ومن أذيته إياها.
8- إدراك وتمييز البقر :
وقال عليه الصلاة والسلام: (بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها، فقالت: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث)، يعني: أن أغلب ما خلقنا ومعظم ما خلقنا من أجله أن نعاونك في الحرث، (فقال الناس لما حكى لهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: سبحان الله! بقرة تتكلم) ولو كان المقصود: دلالته على خالقها لقال لهم: أنا أقصد أنها تدل على خالقها، وأنكم إذا رأيتموها قلتم: سبحان الله! ولكنه لم يقل ذلك، وإنما قال: (فإني أؤمن بهذا أنا وأبو بكر وعمر)، رضي الله تعالى عنهما، وهذا رواه البخاري .
9- إدراك وتمييز الإبل :
وجاء أيضاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً لرجل من الأنصار، فإذا جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه)، أي: أن هذا الجمل بمجرد أن رأى الرسول عليه الصلاة والسلام -وهو لا يعرفه- أدرك وعرف أن هذا هو رسول الله، فمجرد أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه (فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح سراته إلى سنامه وذفراه فسكن، فقال عليه الصلاة والسلام: من رب هذا الجمل؟ فجاء فتىً من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله! فقال: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه)، يعني: تتعبه بالشغل، رواه أبو داود .
وقوله: (فإنه شكا إلي) يعني: أنه كلم النبي عليه الصلاة والسلام، والرسول فهم كلامه كما فهم سليمان، فهل بعد ذلك يرتاب أحد في أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين؟
وعن جابر رضي الله عنه قال: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دفعنا في حائط لبني النجار، فإذا فيه جمل لا يدخل الحائط أحد إلا شد عليه، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه فدعاه، فجاء واضعاً مشفره على الأرض حتى برك بين يديه، فقال: هاتوا خطاماً، فخطمه ودفعه إلى صاحبه، ثم التفت فقال: إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله، إلا عاصي الجن والإنس)، ورواه الإمام أحمد ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
كذلك أيضاً في قصة الهجرة، فإن الناقة التي هاجر عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما اقتربت من المدينة كان الصحابة يمسكون بزمامها، وكل طائفة من الصحابة يريدون أن ينزل الرسول عليه الصلاة والسلام أول ما ينزل عليهم، فكانوا يمسكون الزمام ويطلبون أن ينزل الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم، فيقول لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة).
9- إدراك وتمييز الديك :
وأيضاً صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تسبوا الديك؛ فإنه يدعو إلى الصلاة)، وفي رواية: (فإنه يوقظ للصلاة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم صياح الديك فاسألوا الله من فضله؛ فإنها رأت ملكاً)، فأليس هذا الديك مسخر لأمر معين يأمره الله سبحانه وتعالى به؟ بلى، إن هذا مكلف، ويفهم أن هناك وقتاً معيناً، وليس عنده أجهزة استشعار ولا لاسلكي ولا رادار، وإنما هي قدرة الله سبحانه وتعالى التي يخلق بها عنده هذا الإدراك.
10- إدراك وتمييز الذئب :
كذلك أيضاً جاء أن الذئب تكلم في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكلام يفيد أن الذئب عنده اعتقادات معينة، فمثلاً: هو يعتقد أن الرزق بيد الله سبحانه وتعالى، بل إن الذئب أمر راعي الغنم بتقوى الله.ويفيد الحديث أيضاً أن الذئب عالم بنبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه قصة حصلت مع راعٍ من الرعاة، وكانت سبباً في دخوله الإسلام كما سنبين، ولذلك ذكرها العلماء في باب علامات صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.والقصة ذكرها البخاري في صحيحه بلفظ: (بينما رجل في غنمه إذ عدا ذئب فذهب منها بشاة، فطرده حتى استنقذها منه، فقال له الذئب: يا هذا! استنقذتها مني، فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري؟ فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فإني أؤمن بذلك أنا وأبو بكر وعمر)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (عدا الذئب على شاة فأخذها، فطرده الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه، وقال: ألا تتقي الله تنزع مني رزقاً ساقه الله إلي؟! فقال: يا عجبي! ذئب مقعٍ على ذنبه يكلمني كلام الإنس؟! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك؟ محمد عليه الصلاة والسلام بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، قال: فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره -أي: حكى له قصة الذئب هذه- فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودي: الصلاة جامعة، ثم خرج فقال للراعي: أخبرهم بما حدث معك، فأخبرهم ،فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدق والذي نفسي بيده!)
وهذا قطعاً يسد باب المجاز، إذ لو كان مجازاً فلماذا تعجب الراعي؟ ولماذا آمن بنبوة الرسول عليه السلام؟ هل لأنه إذا رأى الذئب يقول: سبحان الله! ويستدل به على الخالق سبحانه وتعالى؟
11- عبودية الأشجار لرب العالمين:
عن أنس رضي الله عنه قال: جاء جبريل عليه السلام ذات يوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين قد خضب بالدماء، قد ضربه أهل مكة فقال: (فعل بي هؤلاء وفعلوا، قال: أتحب أن أريك آية؟ قال: نعم أرني، فنظر إلى شجرة من وراء الوادي، فقال: ادع تلك الشجرة، فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه، قال: قل لها فلترجع، فقال لها، فرجعت حتى عادت إلى مكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبي حسبي)، يعني: هذه الآية، رواه ابن ماجة .
وفي صحيح مسلم : (أنه صلى الله عليه وسلم ذهب لقضاء حاجته، فإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليّ بإذن الله، فانقادت كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أتى شجرة أخرى فأتى بغصن من أغصانها، فقال: انقادي علي بإذن الله، فانقادت معه كذلك، فجمعهما وقال: التئما علي بإذن الله، فالتأمتا)، أي: كي يستتر بهما.
وكذلك أيضاً جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بمَ أعرف أنك نبي؟ قال: إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة يشهد أني رسول الله، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ارجع فعاد، فأسلم الأعرابي) .
وجاء أيضاً عن معن بن عبد الرحمن قال: (سمعت أبي قال: سألت مسروقاً : من آذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة سماع القرآن -أي: من الذي أخبره أن الجن حضروا واستمعوا القرآن؟- فقال: حدثني أبوك -يعني: عبد الله بن مسعود أنه آذنته بهم شجرة)، أي: أن الذي أخبر الرسول أن الجن حضرت تستمع إلى القرآن شجرة، وهذا الحديث في صحيح البخاري .
12- عبودية الأرض لله :
عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: (كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هارباً حتى لحق بأهل الكتاب، -يعني: ارتد- فعرفوه، وقالوا: هذا كان يكتب لمحمد -عليه الصلاة والسلام- فأعجبوا به فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، يعني: بقي وقتاً يسيراً حتى قصم الله عنقه وهو مقيم في وسط الكفار، فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذاً) رواه مسلم .
وعن أوس بن أوس رضي الله عنهما مرفوعاً: (إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، فهي عابدة تطيع أمر الله سبحانه وتعالى فلا تأكل أجساد الأنبياء.
13- عبودية النار لله :
وكذلك هذه النار التي نراها في الدنيا أيضاً لها إدراك، وهي مطيعة لأمر الله، والدليل على ذلك قوله تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فخاطب الله النار فأطاعت أمره.
والدليل على ذلك أيضاً: أن عادة الأنبياء في الأمم السابقة في الغنائم أنهم كانوا إذا جمعوها بعد الجهاد تنزل نار من السماء فتحرق هذه الغنائم، فإذا أكلت النار هذه الغنائم فهذه علامة على أن الله تقبلها، فيكون ذلك علامة على قبولها، ويكون علامة على أنه لم يقع غلول، والغلول هو: السرقة من الغنائم، وذلك بأن يأتي واحد من الجنود فيسرق شيئاً قبل أن تقسم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء … إلى أن قال عليه الصلاة والسلام: حتى فتح الله عليه، فجمعوا ما غنموا، فأقبلت النار تأكله، فأبت أن تطعمه، فقال: فيكم غلول، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعوه، فلصقت يد رجل، فقال: فيكم الغلول -أي: في هذه القبيلة التي أنت منها- فلتبايعني قبيلتك، فبايعته قبيلته، قال: فلصقت يد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم الغلول، فأخرجوا له رأس بقرة من ذهب، فوضعوه في المال، فأقبلت النار فأكلته)، رواه مسلم ، والشاهد: أن النار عندها تمييز وإدراك، فإنه لما حصل غلول في الغنيمة رفضت أن تأكلها، ولما أعيد ما غل منها أكلتها وتقبلها الله؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.
فهذه الجملة من النصوص تعكس هذا التوافق والانسجام بين عناصر هذا الوجود كله، وهذه الكائنات وأنها كلها جنود لله مطيعة منقادة، ونحن مطالبون أن ننقاد لله سبحانه وتعالى مع هذه الكائنات طوعاً واختياراً، والخضوع له عز وجل، وتسبيحه، وتقديسه، وتنزيهه.
تنبيه هام :
ماسبق لبيان عبودية الكائنات لله وليس إثبات أنها عاقلة كالإنسان ؛ فإن جميع العلماء والعقلاء على أن الإدراك الذي ركبه الله عز وجل في الحيوانات ليس هو العقل الغريزي ، الذي كان الفارق الحقيقي بين الإنسان والحيوان ، والذي أدخل الإنسان دائرة التكليف والمسؤولية .
وأما الحيوان ، فما وهبه الله سبحانه مما نراه في إدراكه طرق تدبير معيشته ، والخضوع لخالقه ، سماه القرآن الكريم ” هداية “، وذلك في قول الله سبحانه : ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) طه/50. ويسميه العلماء في كتبهم ” إدراك الحيوان “، أو ” فطنة الحيوان “
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله :” أُعطِيَت [يعني الحيوانات] من التمييز والإدراك ما تتم به مصلحتها ومصلحة من ذللت له ، وسلبت من الذهن والعقل ما ميز به عليها الإنسان ، وليظهر أيضا فضيلة التمييز والاختصاص ” انتهى من ” مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة ” (1/ 234) .
نعم ، سمى بعض العلماء هذه ” الفطنة الحيوانية ” عقلا ، لكن مثل هذا الوصف للحيوان بالعقل لا يقصد به على الإطلاق : “العقل الإنساني” الذي هو ” ملكة حاصلة بالتجارب ، يستنبط بها المصالح والأغراض ، ويحصل به الوقوف على العواقب ، والتمييزبين الأمور الحسنة ، والقبيحة .
وإنما يراد به ، ما سبق ذكره ، من أنه إدراك تدبير شؤون معاشها بالغريزة والحيلة ، وإدراك ما ألهمها الله سبحانه ، وركبه في طبيعة خلقها من أمور تهتدي بها إلى مصالحها ، وقوام عيشها .
هكذا ينبغي أن نفهم النصوص التي تتحدث عن ” هداية الحيوان “، سواء في القرآن الكريم أم في السنة النبوية .
ولهذا لم يكن الحيوان مكلفا أبدا ، لأنه لا يملك العقل الذي ينمو ويدرك عواقب الأمور ، ويصبح هو المحرك للفعل الحيواني .
أما ما وقع من الهدهد في قصته مع سليمان عليه السلام ، فقد قال بعض العلماء : إن هذه حالة متقدمة لا يقاس عليها ، ولا نظير لها في الحيوانات ، جعلها الله تعالى معجزة خاصة بنبي الله سليمان ، فلا يقاس عليها شأن سائر الحيوان .
أحمد محمد بهدر
السلام عليكم سيدنا
أود أن ألفت نظر جنابكم إلى أن هناك أجزاء من الخطب والمقالات مكتوبة بلغة وحروف مقطعة غير مفهومة كما هو الحال في آخر هذا المقال
http://alrashedoon.com/?p=7885
يرجى مراجعتها
شكرا لفضيلتكم
abojannah
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
قمت بمراجعة المقالة فلم أجد الخلل المذكور لو تكررت معك في عدد من المواقع فربما يحتاج جهازك لتحديث الخطوط font
وأتمنى من الاخوة المتابعين لو حدثت له هذه المشكلة أن يخبرنا فربما تكون مشكلة ببرمجة الموقع