إذ جاء ربه بقلب سليم
الطريق إلى الله لا نسير عليه بالأقدام إنما نسير عليه بالقلوب ، فكلما كان القلب نقيا تقيا ، قويا طاهرا نظيفا ، كان سيره إلى الله أسرع ، وكان بلوغه إلى الرضا والقبول والفوز أسرع من غيره ، وإذا كان القلب ضعيفا أو مريضا فإن سيره يضعف والعياذ بالله .
ولذلك نتوقف اليوم مع قول الله تعالى -( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم )- [الشعراء/88 /89]
وقول الله تعالى عن إبراهيم ( -( وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم )- [الصافات83/84]
ما هو القلب السليم ؟
القلب السليم هو الخالي من الأمراض ، وعكسه القلب المريض ، ونحن لا نعني القلب من الناحية العضوية ، إنما نعني به القلب من الناحية الإيمانية اللطيفة الروحانية -كما سماها الإمام الغزالي- التي لها تعلق بالقلب الذي هو عضو في جسم الإنسان ، القلب كعضو موجود في جميع الكائنات الحية الإنسان وغيره ، لكن القلب العاقل الذي يميز الخير والشر ، الإيمان والكفر ، الحب والبغض ، هذا هو الذي يكون عليه مدار كلام علماء السلوك .
وترجع أهمية الحديث عن القلب لأنه بقوته يقوى الإيمان ، ويقوى السعي ، والسير إلى الله عز وجل ، والقلب هو محل نظر الرب جل وعلا ، كما قال إمامنا المعصوم صلى الله عليه وسلم : “إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ” ، فالله تعالى لا يقرب منا الغني قبل الفقير أو الطويل قبل القصير أو النسيب الحسيب قبل الوضيع ، إنما يقرب أصحاب القلوب التقية النقية ، ويحجب الله تعالى عن باب رحمته وفضله القلوب المريضة ، كما قال جل وعلا : -(أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم )- [المائدة/41]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد سائر الجسد ؛ ألا وهي القلب .”
ولذلك تعددت أقوال العلماء في تفسير معنى القلب السليم :
1- تارة يفسرون القلب السليم يعني الممتلئ توحيدا لله لا يعرف الشرك لأن المشرك قلبه سقيم .
2- وفسروه أيضا بسلامة القلب من النفاق لأن النفاق مرض كما قال تعالى : ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون )- [البقرة/10] نعوذ بالله من النفاق وسوء الأخلاق .
3- ومنهم من عبر عنه من الناحية السلوكية فقالوا القلب السليم الذي لا غش فيه ولا غل ولا حسد، كما في حديث عبد الله بن عمرو قال: قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أفضل؟ قال: ” كل مخموم القلب، صدوق اللسان قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل، ولا حسد “رواه ابن ماجه: ، وصححه الألباني .
إذن من خير الناس صدوق اللسان صاحب القلب الطاهر، الذي لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل، ولا حسد .
نسأل الله تعالى أن يجعلنا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كيف نتحصل على القلب السليم؟
ما هو الطريق إلى القلب السليم الذي به تصح عباداتنا ونتذوق به حلاوة الإيمان ونقبل به على الله عز وجل ؟
1- إخلاص التوحيد لله :
قال العلماء : حينما يمتلئ القلب إخلاصا لله سبحانه وتعالى يكون سليما من الأمراض المضادة للتوحيد ، بمعنى أنا موحد بالله ، فأنا لا أخشى إلا الله ، ولا أرجو إلا الله ، ولا أخاف غير الله ، لا أنافق أحدا في سبيل دنيا ، ولا أبيع ديني من أجل عرض دنيوي ، ولا أذهب للخرافات والبدع والشركيات ، ولا أخنع من أجل لقمة العيش، إنما قلب ممتليء بالتوحيد لله عز وجل ، فهو قلب سليم كما قال سبحانه وتعالى -( أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد )- [الزمر/36]
ولما هدد المشركون نبي الله إبراهيم بآلهتهم أنها ستنتقم لهم قال لهم: ( وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون )- [الأنعام/81]
من الذي يخاف أنتم يا من كفرتم بالله وأشركتم به أم أنا الذي على التوحيد لله عز وجل؟
ولذلك قال بعدها : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون )- [الأنعام/82]
فالمسلم قلبه ممتلئ بالتوحيد لله ،( إياك نعبد وإياك نستعين )- [الفاتحة/5] قلبه خال من الأوهام والشكوك والأمراض والقلق والتوتر ، والخوف من المستقبل ، والخوف من العبيد ، والخوف على الرزق والأجل ، كل هذه الأمراض والأسقام قلبي سليم منها ، لأنه امتلأ توحيدا لله .
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نركن إلى الله سبحانه وتعالى حينما قال لوط للملائكة : ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد )- [هود/80] قال رحم الله أخي لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد يقصد الله عز وجل .
إذن إخواني هذه أول أسباب سلامة القلب أن يمتلئ قلبك توحيدا لله ،استعانة بالله ، توكلا على الله ، رجاء في الله ،طمعا في رحمته ، رغبا في ثوابه وفضله ، أما ما سوى ذلك فهم لا شيء تخيل (ويخوفونك بالذين من دونه )- [الزمر/36] من هؤلاء بالنسبة لله العلي الأعلى ؟ لا إله إلا هو .
فسلامة القلب بالتوحيد .
2- سلامة القلب من النفاق :
فإن النفاق والعياذ بالله مرض ، والنفاق أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن أن يكون ما ينطق به اللسان غير ما يكون في القلب ، وعلامة الإيمان والنفاق ببساطة شديدة أن المؤمن يحب الطاعة ويقبل عليها ويفرح بها ،
من كان منا الآن يفرح باقتراب قدوم شهر رمضان ؛ فهذا من علامات الإيمان ، من كان يفرح إذا صلى في جماعة فهذا من علامات الإيمان، من كان يفرح إذا تصدق إذا صام يوما إذا أمسك بالمصحف وقرأ آيات الله ، إذا وفّق لصلة رحم أو مساعدة محتاج فهذا من علامات الإيمان.
قال تعالى : “( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون )- [الحجرات/7]
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا .
أما الآخر والعياذ بالله فإنه يفرح بالمعصية ويضيق بالطاعة قال تعالى : -( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا )- [فاطر/8] فهو يفرح بغش أو إذا أكل مال غيره أو ظلمه واستطال عليه، يفرح بهذا ، يفرح باستيلائه على مالا يحل له ،إذا اكتسب مالا من طريق حرام يفرح ، ففرح القلب بالمعصية من علامات النفاق ومرض القلب ،نعوذ بالله من ذلك .
حينما يكون القلب غافلا مظلما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم “لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا .”
أما القلب السليم فإنه لا يستطيع أن ينام ومعه ولو دولار واحد من حرام ، أو يتذكر أنه قال كلمة أساء بها لأخيه أو لأخيه عنده حقا .
أما مريض القلب فإنه حينما يمسي يفرح بما جمع من كسب حرام وبما ظلم وبما اعتدى ، هؤلاء والعياذ بالله هم الذين يبغضهم الله جل وعلا -( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا )- [المائدة/41] وهؤلاء الذين قال الله عنهم لنبيه : (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون )- [فاطر/8] لا تتحسر عليهم لا تتعجب لماذا وقعوا في هذا لأن القلوب مريضة لا تستطيع الرؤية الصحيحة نعوذ بالله .
إذن هذا هو الأمر الثاني أن القلب السليم قلب خال من النفاق يفرح بالطاعة ويضيق بالمعصية والقلب المريض قلب يفرح بالمعصية ويضيق بالطاعة قال تعالى : ( وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون )- [الزمر/45]
3- القلب السليم هو القلب الذي يحسن الظن بعباد الله :
فإن صاحب القلب المريض سريع الحكم على الناس بالسوء ، وقد علمنا الله سبحانه وتعالى في حادثة الإفك لما وقع من وقع في أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها قال تعالى ” -(لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)- [النور/12]
القلب السليم حين تبلغه إشاعة أو مقالة كاذبة تنال من عرض مسلم فإنه يبادر بتكذيبها لا تصديقها ، فضلا عن إشاعتها وترويجها .
وسبب نزول هذه الآية على ما ذكر المفسرون أن أبا أيوب الأنصاري، قالت له امرأته أمّ أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أمّ أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك…
فالآية فيها تنبيه على أنَّ حقَّ المؤمن إذا سمع شيئا عن أخيه، أن يبني الأمر فيه على ظنِّ الخير، وأن يقول بناء على ظنِّه: هذا إفك مبين، هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه، كما يقول المستيقن المطَّلع على حقيقة الحال. وهذا من الأدب الحَسَن.
أيضا أحسن الظن بأخيك في كلمة قالها …… بعض الناس يتصيد الأخطاء في الكلام يقول : وهو يتكلم غمز بعينه أو أشاح بيده ، ومعنى هذه أنه يريد كذا وكذا ….. هو قال هذه الكلمة للاستهزاء بك أو التعريض بك …. فيحمل الكلام على أسوأ المحامل ، وهذا مرض بالقلب والعياذ بالله قال تعالى: ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا )- [الإسراء/53]
ولما سال النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين زينب بنت جحش ما تقولين في هذا الأمر (يقصد حادثة الإفك ) قالت : يا رسول الله احمي سمعي وبصري والله ما علمت عنها إلا خيرا “
أمسك لسانك احمِ سمعك وبصرك فإن ذلك لا يضرك ، فطهر القلب من الظن السيء أن تظن بأهلك وإخوانك خيرا ولا يكن الأمر مبني على الظن السيء دائما ، وقال تعالى : -( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم )- [الحجرات/12]
4- من علامات القلب السليم : الطهارة من الغل والحسد والغش :
الأخوة الصافية هي التي لا تتعلق بغرض دنيوي ، الأخوة الصادقة التي ليس فيها تنافس على دنيا حقيرة زائلة فانية .
الأخوة الحقيقية حينما أصافحك لا أصافحك بيدي ، إنما أصافحك بقلبي ، لا أبتسم في وجهك ثم أطعنك في ظهرك ، هذه ليست أخوة هذه خيانة ،
هذه خسة ، لا أبتسم في وجهك وفي نيتي أن ألحق بك السوء ،وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الصفة الذميمة بقوله: (تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه). متفق عليه.
ربما يحدث بيننا ما يحدث بين الناس جميعا لكن نتصافى ، نختلف نعم لكن لا نفترق ، ورحم الله الإمام الشافعي حينما تحاور مع أحد تلامذته اسمه يونس بن عبد الأعلى في مسألة ” قال ما رأيت أعقل من الشافعي, ناظرته يوما في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي ثم قال : ” ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة ؟ ”
بعض الإخوة ربما يقاطع أخاه من أجل فريق كرة قدم ………. من أجل النقاش حول اللاعب الفلاني كان جيدا أو سيئا !!!
بعض الأزواج يقاطع زوجته على كلمة تقولها في أمر من الأمور ، والعكس يحدث أيضا ، تقاطع زوجها أياما على كلمة لا قيمة لها ولاوزن ، ما علينا لو اختلفنا لكن لا تختلف قلوبنا ، بلا خصام ولا عداوة ولا شجار .
كيف نضبط حب الناس أو بغضهم ؟
البعض يظن أن علاقته بغيره إما علاقة حب وإما بغض …. ومن قال هذا ؟
هنالك من تحب وهناك من تبغض وهناك من لا تحبه ولا تبغضه .
والنبي صلى الله عليه وسلم لما قابل وحشي بن حرب قاتل حمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم أسلم ، وحشي أسلم في عام 8 هـ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أخبرني كيف قتلت حمزة ، فوصف له كيف ضربه بالحربة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : غيب عني وجهك .
النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتص أو ينتقم منه ، فقد صار الآن مسلم معصوم الدم ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كبشر حزين جدا على حمزة وبكى وقتها عليه بكاء مرا حينما رآه وقد فعلوا ما فعلوا به ، لكن حينما رأى قاتل عمه قال : غيب عني وجهك ؛ أنا لا أحبك ولا أبغضك .
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى قاتل أخيه فقال له : لا أحب أن اجتمع بك في مكان .
قال وهل هذا يمنعني حق لي ؟ قال لا .
قال إنما يبكي على الحب النساء .
والرسول صلى الله عليه وسلم قال : الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ”
فأنفس تجالسها فتستريح ، وأخرى لا تطيقها ، ولا تطيق حتى سماع اسمها ، سبحان الله العظيم ، فديننا دين توازن لم يقل لك كثّر أعداءك ، إنما يقول لك هنالك من لا تحبه ولا تبغضه لا قطيعة ولا عداوة ولا محبة ، أقصد بين بين .
وعبد الله بن المبارك قال الناس ثلاثة : من الناس من هم كالهواء لا يستغنى عنهم بحال ، ومنهم من هم كالدواء تحتاجه إذا طلبته ، ومن الناس من هم كالداء لا تحبه ولا تشتهيه .
فسلامة الصدر تقتضي منا أن نكون من الذين قال الله عنهم : -( والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم )- [الحشر/10]