التحرر من العبودية لغير الله
أهمية الحرية :
جعل الإسلام “الحرية” حقاً من الحقوق الطبيعية للإنسان، فلا قيمة لحياة الإنسان بدون الحرية، وحين يفقد المرء حريته، يموت داخلياً، وإن كان في الظاهر يعيش ويأكل ويشرب، ويعمل ويسعى في الأرض.
ولقد بلغ من تعظيم الإسلام لشأن “الحرية” أن جعل السبيل إلى إدراك وجود الله تعالى هو العقل الحر، الذي لا ينتظر الإيمان بوجوده بتأثير قوى خارجية، كالخوارق والمعجزات ونحوها قال تعالى:(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) فنفي الإكراه في الدين، الذي هو أعز شيء يملكه الإنسان، للدلالة على نفيه فيما سواه وأن الإنسان مستقل فيما يملكه ويقدر عليه لا يفرض عليه أحد سيطرته، بل يأتي هذه الأمور، راضياً غير مجبر، مختاراً غير مكره.
مفهوم الحرية:
يقصد بالحرية قدرة الإنسان على فعل الشيء أو تركه بإرادته الذاتية ،بعيداً عن سيطرة الآخرين لأنه ليس مملوكاً لأحد.
وأعلى مفاهيم الحرية في توحيد الله عز وجل، حيث تتحرر النفس البشرية والعقل الإنساني من القيود الوثنية وعبادة الفرد لغير الله، والحرية في الإسلام ضد العبودية، وضد الرق والوثنية والظلم.
ولذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص رضي الله عنه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار اً .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حر اً .
وقال ربعي بن عامر رضي الله عنه، لما سأله رستم قائد جيش الفرس عن سبب مجيء المسلمين إلى الفرس؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من
نشاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
الإسلام وتحرير الإنسان:
بدأ الإسلام بتحرير الإنسان من داخله، فحرره من العبودية لغير الله، وجعل العبودية لله وحده، ووفق ذلك لا يهون ولا يذل ما دامت عزته بالله، فمن أراد العزة بغير الله فقد أذله الله، فهذه الحرية هي الأساس لعزة المؤمنين المستمدة من عزة الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك:
يقول الله عز وجل: ” وَلِلهّ العِزَّة وَلِرَسُولِه و للمؤمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لَا يَعلَمُونَ “المنافقون ، آية 8
وقال تعالى: “مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا إِليهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ ُ “فاطر ، آية 10
والإسلام حرر الإنسان من أمور منها:
(1) تحرير النفس الإنسانية من الخوف على الحياة:
إن الإنسان في أي زمان ومكان يخاف الموت، ولا يريده، وهذا قد يؤدي به إلى الاستعباد للأقوياء والمذلة أمام الطغاة الجبابرة، لأنه لا يضعف نفس الإنسان شيء كالحرص على الحياة، والخوف من الموت، فهما يحميان الرأس ويذلان عنقه،وهذا ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بين السبب الرئيس لضعف أمته وهوانها عند أعدائها مع كثرتهم وهو:خوف الموت.
عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: “يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها، قال: قلنا يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن، قال: قلنا وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت” . مسند أحمد وإسناده حسن
أما الإنسان الذي يعلم علم يقين أن الله هو الخالق وأن الآجال بيده، ويعلم أن لكل إنسان أجلاً محدوداً لا يزيد ولا ينقص فإذا جاء وقته لا يؤخر،
قال تعالى:” وَلَن يُؤَخِّرَ اللهَّ نفسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللهَّ خَبِير بِمَا تَعمَلُونَ ” المنافقون،آية 11
كل هذا يجعل المسلم قوياً شجاعاً، يأبى الذل والهوان لأي مخلوق مهما كانت الظروف والأحوال لاسيما عندما يوقن في داخل نفسه أن شجاعته لا يمكن أن تنقص من عمره لحظة واحدة، وأن الخوف والذل لا يزيد في عمره لحظة ومن هنا يتخلص المسلم من الخضوع للمتجبرين الذي يحاولون إخضاع الناس وملء قلوبهم بالرهبة وهذا ما نراه في سحرة فرعون حين آمنوا بالله الإيمان الحقيقي الذي جعلهم يستهينون بالدنيا ولم يخافوا الموت، قال تعالى:” قَالُوا لَن نُّؤثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقضِ مَا أَنتَ قَاض إِنَّمَا تَقضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنيَا“طه، آية 72
فهم لا يحرصون على شيء ولا يخافون من شيء وبذلك تحرروا من الذلة والعبودية لفرعون .
(2)تحررها من الخوف على الرزق:
إذا كان الخوف من الموت هو السبب الأول في ذلة الإنسان واسترقاقه، فإن السبب الثاني هو الخوف على الرزق من الانقطاع وبإلقاء نظرة على بعض الذين لم يحققوا التوحيد تحقيقاً كاملاً على أنفسهم نجدهم يسكتون عن قول كلمة الحق،ويتملقون ويداهنون ويلجأون إلى وسائل لا تليق بكرامتهم، مما يصل بهم الأمر إلى أن يعبدوا المال ويصيروا له أرقاء وعندما نبحث عن السبب نجده الحرص على رزقهم ولقمة عيشهم ظناً منهم أن عدم مناصرة الحق وأهله وذلتهم لمن هم ساكتون من أجله سيبقى لهم هذا الرزق وهذا العيش ونسوا بأن الرزق بيد الله ولذلك نجد القرآن الكريم ينكر على أولئك الذين ينتظرون الرزق من غير الله تعالى، قال تعالى:” قُل مَن يَرزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرضِ أَمَّن يَملِكُ السَّمعَ والأَبصَارَ وَمَن يُخرِجُ ا لحَيَّ مِنَ ا لمَيِّتِ وَيُخرِجُ ا لمَيَّتَ مِنَ ا لحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمرَ فَسَيَقُولُونَ اللهّ فَقُل أَفَلا تَتَّقُونَ ” يونس، آية 31
أما الإنسان الذي حقق التوحيد فهو يعلم أن الرزق بيد الله وحده، قال تعالى:” إِنَّ اللهَّ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ ” الذاريات، آية 58
وقال تعالى “وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ “هود، آية 6
فالمسلم لا يستعبده المال، ولا يسترقه، لأن ما يحتاجه من طعام وشراب ومسكن وغيره من الأمور التي يحتاج إليها يطلبها من الله ويرغب إليه فيها، وذلك بفعل الأسباب والسعي في طلب الرزق ومواجهة الآخرين بقلب شجاع وضمير حي، وليس معنى هذا أن يبذر، وإنما المقصود لا يستعبده هذا المال، فلا يكون هلوعاً عليه، ولا يغلق قلبه فيما لا يحتاج إليه، لأنه إذا علق قلبه بطلب المال الكثير صار عبداً له .
يقول صلى الله عليه وسلم: تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي الله وإن لم يعط لم يرض .
(3) تحررها من الخوف على المنصب:
إن السبب الثالث لاستعباد الناس وذلتهم إنما هو الحرص الشديد على المنصب أو المكانة الاجتماعية، فنجد بعض الناس يصب كل اهتمامه على الاحتفاظ بوظيفته مهما كانت الوسيلة مما يجعله يتزلف ويرائي من يظن أن بيده إقالته، فيعيش منحني الرأس ذليلاً مهاناً ، وإعجابه بمنصبه يؤدي به إلى تقديس هذا المنصب والخوف من زواله، فتصير نفسه ذليلة لمن بيدهم سلطة عليه ويستطيعون إبقاؤه أو إسقاطه، وبذلك تستعبده نفسه، وما درى في الحقيقة أن هؤلاء الذين بيدهم السلطة هم مثله .
يقول ابن تيمية: وكذلك طالب الرياسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عما يجترحونه ليطيعوه ويعينوه، وهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم . انتهى من رسالة العبودية ص15
إن المسلم الموحد يعلم أنه سبحانه وتعالى هو الحاكم وحده، وهو القاهر فوق عباده بيده الملك، قال تعالى ” قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ” (26)آل عمران
وبذلك تتربى العزة في قلبه فلا يذل مخلوق ولا يعبد إلا الله .
(4) تحريرها من شهواتها:
لما فطن أعداء الله إلى الكيفية التي يستعبدون بها البشر أوقعوهم في أنواع من العبوديات غير قضية أن يكون في رقبته غل، ويساق بالسلاسل ليعمل في مزرعة فلان، ومصنع فلان، تلك كانت صور سابقة، كانت مشهورة بالعبودية، ولكن ابتكر هؤلاء طرقاً جديدة في فتح أبواب العبودية، بأن يكون الناس عبيداً لأفكارهم بما يهيمنون عليه من وسائل البث، عبيداً لشهواتهم بما يثيرونه فيهم من الغرائز، عبيداً للدرهم والدينار بما يجذبونهم إليه من ألوان، استعباد المال لصاحبه……
وهكذا انتشرت حريات هي في الحقيقة عبوديات، حرية الغريزة فصار بعض الناس عبيداً للشهوات، فالشهوة هي التي تحركه، هي التي تقيمه، وهي التي تقعده، وهي التي تؤزه، وهي التي تسكنه، وهي التي تجعله يدفع، وتجعله يحجم، فأطلقوا للبشر عناناً في أنواع المحرمات والشهوات، فصار هذا عبداً لامرأة، وهذا عبداً لكأس ومخدر يدفع من أجله شبابه وثروته، بل ويسرق لأجل تحصيله، فصار هنا عبيد للنساء، وهناك عبيد للمخدرات والمسكرات، وفي ذاك التوجه عبيد للمال، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم)، وهنالك من هو عبد للثياب والقماش: (تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة) ، فيظن هذا الإنسان أنه حر ليس بعبد لأنه ليس ملكاً لفلان يسوقه من رقبته بسلسلة، ولكنه في الحقيقة عبد لهذه الشهوة، وهذه المادة.
لم يترك الإسلام الإنسان لأن يكون عبداً لنفسه واتباع شهواتها ورغباتها وملذاتها ، فتدفع به إلى المهاوي والطغيان، إنما حرره من هذه الشهوات ودعاه إلى الزهد مع القدرة دون العجز، وبالمقابل أباح له الاستمتاع بالملذات الدنيوية المباحة، ولكن بين له أن هذا المتاع قليل بمقابل متاع الآخرة، وهذا لمن اتقى ربه وعقل ذلك، قال تعالى: ” وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَي ء فَمَتَاعُ ا لحَيَاةِ الدُّ نيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللهَّ خَير وَأَ بقَى أَفَلَا تَعقِلُونَ “القصص ، آية 60
ووازن سبحانه بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة، لتحرير نفس الإنسان لشهواته، وقال تعالى: “زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ ا لمُسَوَّمَةِ وَالأَنعَامِ وَالحَرثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنيَا وَاللهّ عِندَه حُسنُ المَآبِ * قُل أَؤُنَبِّئُكُم بِخَير مِّن ذَلِكُم للَّذِينَ اتَّقَوا عِندَ رَبِّهِم جَنَّا ت تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزوَاج مُّطَهَّرَة وَرِضوَا ن مِّنَ اللهّ وَاللهّ بَصِير بِا لعِبَادِ “آل عمران ، آية 14 15
فالآيات الكريمة تدل على أن نظرة الإنسان في الغالب آنية وقتية، لا ينظر إلى المستقبل البعيد، ولا يقارن بين الباقي الدائم والمنقطع المؤقت، فالخالد المستمر أفضل من الزائل بسرعة، فجاء الخطاب في هذه الآيات لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم وبما فيها من توبيخ لهم، لأن الأهواء والشهوات صرفتهم عن اتباع دعوة الإسلام، والشهوات التي ذكرت في الآية الكريمة هي التي يحدث فيها الإفراط والمغالاة أو تكون سبباً في التفريط في الواجبات الدينية،فإن قصدت ضمن الحدود المعتدلة والمعقولة لم تكن وبالاً على صاحبها، وقد تكون سبباً للثواب وزيادة الأجر، وإن قصد بها الخير والصون والعفاف وتسخيرها لمرضاة الله، فلا بد من الموازنة بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة حتى تتحرر النفس من الشهوات فلا يطغى جانب على الآخر
.كذلك حرره من الغلو والتكبر، ففرض عليه الصلاة تدريباً على التواضع
والخشوع وفرض عليه الزكاة ليحرره من عبودية المادة ولتطهيره نفسه من لوثة طبقات المال وحبه.
وفرض الصيام لكسر شهوة الجسد والطعام ولتعويد نفسه على التحمل وقوة العزيمة، وغرساً للخشية والمخافة من الله ومراقبته في السروالعلانية ، وفرض عليه الحج ليجمع هذا الخير كله، وبين له أن الفلاح حامل
تزكية النفوس وتطهيرها وتحريرها من كل الماديات والطغيان والفسوق
والعصيان، قال تعالى: ” قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا” الشمس ، آية10:9
فذلك كله لم يكن إلا لبنائه من الباطن ؛ حتى يرتفع ويسمو إلى القمة العالية ؛ فلا يركع أمام الطغاة والظلمة، ولا يركع أمام الشهوات والرغبات ، ولا يستبعد لمنزلة أو مكانة .
من فوائد العبودية لله:
ومن فوائد العبودية لله: أنها تحرر الناس من هذه العبوديات لغير الله، فإذا صرت عبداً لله تحررت من عبودية الشهوة، وإذا صرت عبداً لله تحررت من عبودية الدرهم والدينار، فصار الدرهم والدينار يخدمك لا أنت الذي تخدمه، ولما سئل بعض أهل العلم متى يكون الإنسان عبداً للدرهم والدينار ومتى لا يكون؟ فقال: إذا كان المال عنده بمثابة الحمار الذي يركبه، وبيت الخلاء الذي يدخله، فليس عبداً للدرهم والدينار.
فأما إذا صار المال بالنسبة له هو الذي يرضى من أجله، ويسخط من أجله، ويحب من أجله، ويبغض من أجله، ويعطي من أجله، ويمنع من أجله، ويعيش لأجله، فعند ذلك يكون عبداً له؛ ولذلك فإن العبودية لله تخلص شاباً من فتاة عشقها، والعبودية لله تخلص مدمناً من مخدر سقط في وحله، والعبودية لله تخلص سكراناً من خمر قد لعب بكليته ودخل في جسده، والعبودية لله تخلص الناس من التعلق بغير الله، فتجعلهم أحراراً.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده الأخيار، وجنده الأبرار، ومن الذاكرين له آناء الليل وأطراف النهار، إنه هو الرحيم الغفار.