ثمرات الإخلاص

تاريخ الإضافة 22 أغسطس, 2023 الزيارات : 25991

للإخلاص ثمرات طيبة في النفس والحياة نجملها فيما يلي:

1- السكينة النفسية

فهو يمنح صاحبه سكينة نفسية، وطمأنينة قلبية، تجعله منشرح الصدر، مستريح الفؤاد، فقد اجتمع قلبه على غاية واحدة، هي رضا الله عز وجل، وانحصرت همومه في هم واحد، هو سلوك الطريق الذي يوصل إلى مرضاته.

وقد ضرب الله مثلا للمؤمن الموحد بالعبد الذي له سيد واحد، عرف ما يرضيه وما يسخطه، فجعل كل همه في إرضائه، واتباع ما يحبه وللمشرك بالعبد الذي يملكه شركاء متشاكسون، كل واحد يأمره بخلاف ما يأمره به الآخر، وكل يريد منه غير ما يريد صاحبه، فهمه شعاع، وقلبه أوزاع، قال تعالى: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا، الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون).

ومعنى “سلما” له: أي خالصا له لا يشاركه فيه أحد.

وبهذا تحرر الإنسان المؤمن ـ بإخلاصه العبودية لله ـ من تعاسة العبودية لغيره: “تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد القطيفة” وسعد بالعبودية لله وحده.

لقد جمع همومه في هم واحد هو رضوان الله تعالى، وجعل نيته وقصده في الآخرة، فهان عليه كل ما يلقى في هذه الدنيا.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من جعل الهموم هما واحدا، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبته الهموم، لم يبال الله في أي أدوية الدنيا هلك”. حسنه الألباني

ومعنى: تشعبته الهموم: توزعته وتقسمت قلبه وإرادته: بين المال والجاه والشهوات وما أكثرها، بخلاف المؤمن الذي ركز كل همه في إرضاء ربه.

ويقول عليه الصلاة والسلام: “من كان الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا، وهي راغمة”.صححه الألباني

 

2- القوة الروحية

 والإخلاص يمنح المخلص قوة روحية هائلة، مستمدة من سمو الغاية التي أخلص لها نفسه، وحرر لها إرادته، وهو رضا الله ومثوبته.

فإن الطامع في مال أو منصب أو لقب أو زعامة: ضعيف كل الضعف، إذا لاح له بادرة أمل في تحقيق ما يطمع فيه من دنيا، ضعيف أمام الذين يملكون إعطاءه ما يطمح إليه، ضعيف إذا خاف فوات مغنم يرجوه، أما الذي باعها لله، فهو موصول بالقوة التي لا تضعف، والقدرة التي لا تعجز، ولهذا كان في تجرده وإخلاصه أقوى من كل قوة مادية يراها الناس.

إن المخلص لله لا يلين للوعد، ولا ينحني للوعيد، لا يذله طمع، ولا يثنيه خوف، أسوته في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي عرض عليه الملك والشرف والمال وسائر أعراض الدنيا ليكف عن دعوته، فقال في إصرار وصلابة: “والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه”.

أما لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم شهوة خفية في مال أو ملك أو سيادة لضعفت مقاومته أمام العروض المغرية، يقدمها له سادة قريش، لكنه عرف غايته فأخلص لها، وعرف ربه فلم يشرك به شيئا.

وذكر الغزالي في “الإحياء” قصة ترمز إلى هذا المعنى، وهو: ما يمنحه الإخلاص من قوة غير عادية لصاحبه، لا توجد عند غيره.

إنها قصة العابد الذي سمع أن شجرة يعبدها الناس من دون الله، فحمل فأسه، وذهب مصمما على أن يقطعها، ويقطع معها دابر فتنة تقديسها وعبادتها، وفي الطريق قابله إبليس فأراد أن يثنيه فأبى، فتصارعا، فصرع العابد إبليس، وبدا كأنه ريشة في يده، وهنا بدأ إبليس في مفاوضة ماكرة مع العابد: أن يعود ويدع الشجرة، فإن قطعها لا يفيد، فقد يعبدون شجرة أخرى، وتعهد أن يعطيه كل يوم دينارا، يجده تحت وسادته، فينتفع به، وينفق منه على المساكين، ومازال إبليس بالرجل، حتى اقتنع، وسلمه مبلغا مقدما، ثم ظل مدة يتسلم فيها الدينار كل صباح وفق ما اتفقا عليه.

ولكن العابد فوجئ يوما بأنه لم يجد الدينار تحت الوسادة، كما اعتاد، فصبر عدة أيام، لعل صاحبه يفي له بما وعده، بيد أنه لم يفعل، فما كان من العابد إلا أن حمل فأسه، وذهب ليقطع الشجرة من جديد، فقابله إبليس، فتحداه، وتنازعا واصطرعا، فصرع إبليس الرجل هذه المرة، وكان كأنه عصفور بين رجليه!

وهنا سأله العابد: ما الذي جعله يغلبه هذه المرة، بعد أن انتصر على إبليس بجدارة في المرة الأولى؟ هنا قال له إبليس: لقد كان غضبك في المرة الأولى لله، فكان لديك من القوة ما لم يكن لي قبل بها، ولا طاقة لمواجهته، فهزمت أمامك بسرعة. أما هذه المرة فكان غضبك لانقطاع الدينار، فلم يكن عندك من القوة ما كان من قبل، وهزمت أمامي بسرعة البرق.

وهنا ظهر الفرق بين الغضب للدرهم والدينار، والغضب للواحد القهار.

 

3- الاستمرار في العمل

ومن آثار الإخلاص: أنه يمد العامل بقوة الاستمرار، فإن الذي يعمل للناس، والذي يعمل لشهوة البطن أو الفرج، يكف إذا لم يجد ما يشبع شهوته، والذي يعمل أملا في شهرة أو منصب، يتراخى ويتثاقل إذا لاح له أن أمله بعيد المنال، والذي يعمل لوجه الرئيس أو الأمير، ينقطع أو يتوانى إذا عزل الرئيس أو مات الأمير.

أما الذي يعمل لله فلا ينقطع ولا ينثني ولا يسترخي أبدا، لأن الذي يعمل له لا يغيب ولا يزول، فوجه الله باق إذا غابت وجوه البشر، أو هلك الخلق كل الخلق: (كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون).

ولهذا قال الصالحون: ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل! وهذا ما صدقه الواقع، وما رأيناه ولمسناه، ولازلنا نراه ونلمسه في كل زمان ومكان.

4- تحويل المباحات والعاديات إلى عبادات

والإخلاص هو “إكسير” الأعمال، الذي إذا وضع على أي عمل ولو كان من المباحات والعادات حوله إلى عبادة وقربة لله تعالى، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد: “إنك ما تنفق نفقة تبغي بها وجه الله تعالى إلا أثبت عليها، حتى اللقمة تضعها في في (أي فم) امرأتك”.

وقال تعالى في شأن الذين يجاهدون في سبيله: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون).

فجعل جوعهم وعطشهم ومشيهم ونفقتهم مما يسجل لهم في رصيد حسناتهم عند الله عز وجل، مادام ذلك في سبيل الله، ولن تكون هذه الأشياء في سبيل الله إذا أداها المسلم لتكون كلمة الله هي العليا.

وأكثر من ذلك ما جاء في مثوبة من ارتبط فرسا ليجاهد عليها في سبيل الله : ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أحتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله، وتصديقا بوعده، فإن شبعه وريه، وروثه وبوله، في ميزانه يوم القيامة”… يعني: حسنات!

وذلك أن الوسائل والآلات بحسب المقاصد والغايات، فكل ما يعين على الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته، ونصرة دعوته، من عدة وآلة وتدريب وكسب خبرة ومهارة، فهو قربة إلى الله، فبها الأجر والثواب.

5- إحراز ثواب العمل وإن لم يتمه أو لم يعمله

ومن بركات الإخلاص لله: أن المخلص يستطيع أن يحرز ثواب العمل كاملا وإن لم يقدر على إتمامه بالفعل، لنستمع إلى قول الله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله، وكان الله غفورا رحيما).

بل يستطيع المسلم بنيته الخالصة لله أن يدرك ثواب العمل كاملا، وإن لم يؤده ولم يشرع فيه، ولهذا أمثلة كثيرة جاءت بها الأحاديث.

روى البخاري عن أنس بن مالك قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: “إن أقواما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا، حبسهم العذر”.

وروى النسائي وابن ماجه عن أبي الدرداء يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: “من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل، فغلبته عيناه حتى أصبح، كتب له ما نوى، وكان صدقة عليه من ربه”.

وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه”.

وقال أيضا: “من طلب الشهادة صادقا، أعطيها، ولو لم تصبه”، والحديثان يؤكدان وصفا أو شرطا لابد منه، لمن يحصل على “الشهادة” وهو على فراشه، لم يقتل ولم يصب، وهو أن يكون سؤاله للشهادة “بصدق”، أن يطلبها “صادقا”، فما كل من يسأل الشهادة بلسانه، يكون صادقا في أعماقه، فالمدار على السرائر، والله أعلم بها.

وقد يتقرب المخلص إلى ربه بعمل فيخطئ في تأديته، ويضعه في غير موضعه، فتأتي نيته الصالحة شفيعا، فتصحح له خطأه، وتكمل له نقصه.

وفي هذا جاء حديث الصحيحين في الرجل الذي تصدق في ثلاث ليال فصادفت صدقته مرة رجلا سارقا، ومرة امرأة زانية، والثالثة رجلا غنيا، ولكنه حمد الله على كل حال، وأراد الله تعالى أن يثبت قلبه ويشرح صدره، فأتاه في المنام من يقول له: “أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله”، وتقبل الله صدقته ببركة نيته، ولم يضع أثرها في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك جزاء المخلصين.

6- النصر والكفاية الإلهية

ومن ثمرات الإخلاص: أن المخلص مؤيد من الله، مكفي به سبحانه، كما قال تعالى: (أليس الله بكاف عبده).

وعلى قدر إخلاص المرء لربه، وتجرده له، يكون مدد الله تعالى وعونه وكفايته وولايته، إن الإمداد على قدر الاستعداد: إمداد الله بالنصر والتأييد، أو بالتوفيق والتسديد، على حسب ما في القلوب من تجريد النية، وصفاء الطوية، يقول تعالى: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم).

ويقول: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا).

وعن عائشة قالت: من أسخط الناس برضاء الله عز وجل كفاه الله الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله وكله إلى الناس”. رواه الإمام أحمد و صححه الألباني

7- تأييد الله تعالى ومعونته في الشدائد والأزمات

ومن ثمرات الإخلاص: أن الله تعالى يمد المخلص بعونه، ويحرسه بعينه التي لا تنام، ولا يتخلى عنه إذا حلت بساحته الخطوب، وأحاطت به الشدائد والكروب، فهو سبحانه يستجيب دعاءه، ويلبي نداءه، ويكشف عنه الغمة.

ومن عجيب ما ذكره القرآن في ذلك: استجابة الله تعالى دعاء المشركين، إذا جرت بهم الفلك في البحر، وهاجت عليهم الريح، وأحاط بهم الموج من كل مكان، فيدعون الله في تلك اللحظات بصدق وإخلاص، فيستجيب لهم، وإن غيروا بعد ذلك وبدلوا، يقول الله تعالى: (هو الذي يسيركم في البر والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم، دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق).

وإنما أنجاهم واستجاب لهم، لأنهم (دعوا الله مخلصين له الدين) فقد رجعوا في تلك اللحظة إلى الفطرة، وسقطت الآلهة المزيفة، ولم يبق لديهم إلا الله يدعونه بإخلاص ويتجهون إليه.

ومن أبرز الأمثلة والوقائع في أثر الإخلاص في إنقاذ المكروب من كربته: قصة الثلاثة “أصحاب الغار”.

فمن رحمة الله تعالى: أن الأرض لا تخلو من المخلصين، فهم للحياة الروحية كالماء والهواء للحياة المادية، وقد عرف التاريخ نماذج رائعة، تجسد الإخلاص في وقائع مضيئة، تضرب المثل، وتبرز الأسوة للناس يحسن هنا أن نذكر بعضا منها، لنتخذ منه عظة وقدوة.

كيف نحقق الإخلاص ؟

هناك أمور تعين المسلم السالك طريق الله على إخلاص النية والعمل لله تعالى ، وتدفعه إلى الأمام في طريق المخلصين، وتساعده على تحرير نفسه، وتنقية دواعيه من الشوائب الذاتية والدنيوية.

1-  العلم الراسخ

أن يعلم ما هو الإخلاص وأهمية ، وثمراته في الدنيا والآخرة، وأن الله تعالى لا يقبل عملا إلا بإخلاص، مهما تكن صورته، وأنه تعالى مطلع على ما في قلبه، فهو يعلم السر وأخفى، ولا تخفى عليه خافية، كما قال إبراهيم عليه السلام: (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء).

ولا يتم ذلك إلا بأن يقرأ ويكرر ما جاء في القرآن والسنة في ذلك، وما جاء في كلام الصالحين، ويستيقن من خطر الرياء، وحب الجاه والشهرة، وحب الدنيا.. وتأكد هذه المعارف في النفس ورسوخها يعينها على أن تتخلص من أهوائها الذاتية، ومن شهواتها الدنيوية.

وكلما قويت المعرفة، ورسخ العلم، حتى وصل إلى درجة اليقين، كان تأثيره في الوجدان أقوى وأعمق، فالمرء يعرف أولا، فيتأثر ثانيا، فيتحرك ثالثا. وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (وليعلم الذين أوتوا العلم إنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم).

كان العطف هنا بحرف “الفاء” للدلالة على الترتيب والتعقيب، فهؤلاء الذين أوتوا العلم يعلمون أن القرآن هو الحق من عند الله، فيترتب على هذا العلم الإيمان به، ويترتب على هذا الإيمان: حركة قلوبهم بالإخبات والخشوع لله تعالى.

2-  صحبة أهل الإخلاص

ومما يعين على الإخلاص: صحبة أهل الإخلاص ومعايشتهم، والحياة في رحابهم، ليتأسى بهم، ويأخذ عنهم، ويتخلق بأخلاقهم، فإن التأسي بهم صلاح، والتشبه بهم فلاح.

هؤلاء الذين أمر الله رسوله الكريم أن يصبر نفسه معهم، ولا تعدو عيناه عنهم، وذلك في قوله سبحانه: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا).

إن الذي يصحب هؤلاء يتأثر بهم، ويأخذ عنهم، ويقتبس منهم فضائلهم، بالأسوة الحسنة، وبالحال المؤثرة، ولهذا قال السلف: “حال رجل في ألف رجل، أبلغ من مقال ألف رجل في رجل”. يعنون بحاله: سلوكه وخلقه وعمله.

وقد صور النبي صلى الله عليه وسلم أثر الصحبة والمجالسة في الصاحب والمجلس تصويرا بليغا معبرا، فقال: “إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل حامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك (أي يعطيك) وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير أما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة”.

ومن رحمة الله بالناس: أن الأرض لا تخلو من هؤلاء، فليجتهد سالك طريق الآخرة في البحث عنهم، والاقتباس منهم، فهم كما جاء في الصحيح: “هم القوم لا يشقى بهم جليسهم”.

وقد جاء عن سلمان رضي الله عنه: “مثل الأخوين المؤمنين كمثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى، وما التقى مؤمنان قط إلا أفاد الله أحدهما من صاحبه خيرا”.

المهم ألا تعيش وحدك، ولا تخلد إلى صومعة العزلة، وحياة الرهبنة، فلا رهبانية في الإسلام، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، والخير والرحمة مع الجماعة، والهلاك والضياع مع الانفراد والشذوذ عن الجماعة. ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، والشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، فهي مع القطيع محمية به، محروسة ببركة التجمع، وهي إذا شردت عنه التهمها الذئب منفردة، والشيطان هو ذئب الإنسان. والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، والجماعة قوة على الطاعة، وعون على الحماية من المعصية.

فتعرف على إخوانك في الله، وضع يدك في أيديهم، وتعلم منهم وعلمهم، وتعاون معهم على البر والتقوى، وتواص معهم بالحق والصبر، تعرف عليهم في المساجد، وفي مجالس الخير، وفي حلقات العلم، وفي ميادين الدعوة، ولا تخلو الأرض ـ إن شاء الله ـ منهم. قال تعالى: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) وقال تعالى: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، فأوص غيرك بالحق، وتقبل الوصية من غيرك به، وليس هناك مؤمن أصغر من أن يوصى، ولا أكبر من أن يوصي .

3- قراءة سير المخلصين

ومما يعين على الإخلاص، ويبعث عليه: قراءة سير المخلصين، والتعرف على حياتهم، للتأثر بهم، والاهتداء بهداهم، فإذا لم يستطع السالك إلى الله أن يجد المخلصين الأحياء ليصاحبهم، فلا أقل من أن يصحب المخلصين الأموات، فإن الأخلاق كالأفكار لا تموت بموت أصحابها.

فهذه القراءة لون من الصحبة والمعايشة، ولكنها صحبة فكرية ونفسية، ومعايشة روحية وإيمانية.

ومن فضل الله تبارك وتعالى: أن في تراثنا كثيرا من “النماذج المخلصة” التي لا يملك من قرأها إلا أن يتأثر بها.

من هذه النماذج نموذج الثلاثة “أصحاب الغار” الذين قص علينا قصتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. حين أطبقت عليهم الصخرة، فلم ينجهم منها إلا أعمال صالحة كانوا قدموها خالصة لوجه الله تعالى، فتوسلوا إلى الله بها، وقال كل واحد منهم: “اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه”. ففرج الله عنهم، وأخرجهم من ورطتهم بسبب إخلاصهم. وقد مر بنا هذا النموذج مفصلا فليرجع إليه.

ومن هذه النماذج ما جاء في الحديث الذي رواه النسائي في سننه عن شداد بن الهاد رضي الله عنه: أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به وابتعه، ثم قال: أهاجر معك، فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه.

فلما كانت غزاته غنم النبي صلى الله عليه وسلم فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: “قسمته لك”.

قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا ـ وأشار إلى حلقه ـ بسهم، فأموت، فأدخل الجنة، فقال: “إن تصدق الله يصدقك”.

فلبثوا قليلا: ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحمل، قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أهو هو”؟ قالوا: نعم، قال: “صدق الله فصدقه”.

ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبته التي عليه، ثم قدمه فصلى عليه، وكان بما ظهر من صلاته: “اللهم هذا عبدك، خرج مهاجرا في سبيلك، فقتل شهيدا، أنا شهيد على ذلك”.

ومن ذلك: ما حفل به التاريخ الإسلامي من روائع البطولات، ووقائع المخلصين الذين نذروا أنفسهم لله، وجعلوا حياتهم كلها لله، وجهادهم كله لله، فلم يشركوا به أحدا.

من هؤلاء: “صاحب النقب”، وتتلخص قصته في أن المسلمين في إحدى معاركهم وقفوا أمام حصن منيع من حصون عدوهم، وطال حصارهم لهذا الحصن، ثم فكر أحد الجنود في فتح ثغرة أو نقب في جدار الحصن، يتسلل منه، ويفتح الباب للمقاتلين المسلمين.

فعل ذلك الجندي المسلم، ونقب النقب وحده في هدوء وصمت، مما مكن المسلمين من تحقيق النصر المنشود بأقل التضحيات.

المهم أن قائد المعركة بحث عن “صاحب النقب” الذي كان وراء هذا النصر، ولم يتقدم أحد يقول: أنا هو. فخطب في جنوده قائلا: أقسمت بالله على من نقب النقب أو عرف صاحبه إلا دلني عليه.

وبينما القائد في خيمته دخل عليه رجل، وقال له: هل تريد أن تعرف صاحب النقب؟ قال: نعم والله.

قال: أنا أدلك عليه، ولكن له شروطا يطلبها، قال: له كل ما يشترط، فما شروطه رحمك الله؟ قال: ألا تسأله عن اسمه، ولا تعلن عنه في الناس أو إلى الخليفة، ولا تكافئه على عمله، قال: له ذلك، فأين هو؟ قال: أنا هو! فقام القائد وعانقه. فطالبه بالوفاء بالشرط، فلم يملك القائد إلا الاستجابة، وذاب هذا الجندي المجهول في المحيط الكبير، فلم يره أحد بعد ذلك.

فكان القائد يدعو الله أن يحشره مع صاحب النقب، وأن ينصر دينه به وبأمثاله من أهل الإيمان والإخلاص: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين).

ملحوظة : النقب فتحة يخرج منها فضلات أهل الحصن من بول وبراز .

4- المجاهدة للنفس

ونعني بالمجاهدة توجيه الإرادة إلى جهاد النفس الأمارة بالسوء، ومقاومة رغباتها الذاتية والدنيوية، حتى تخلص لله تعالى.

ولا يستطيع أحد أن يسلك طريق القوم، وهو مستسلم لأهواء نفسه، وحبها للجاه والظهور، وطموحها إلى الشهرة والثناء، أو للثروة والمال، أو لغير ذلك من شهوات النفس، وزخارف الدنيا. وإنما يسلك الطريق من اصطحب معه إرادة قوية، وتصميما على المجاهدة، و”الإرادة” هي الأساس، و”المجاهدة” هي المحور.

وإن أخطر شيء على سالك الطريق هو اليأس من الانتصار في هذه المعركة، وإلقاء السلاح اعترافا بالهزيمة النفسية، أو إقرارا بالعجز أو باستحال الوصول.

وقد كان بعض الحكماء يكره من أصحابه وتلاميذه كلمات ثلاثا، هي: لا أقدر، لا أعرف، مستحيل.

فأما من قال له: لا أقدر، فيقول له: حاول.

وأما من قال له: لا أعرف، فيقول له: تعلم.

وأما من قال له: مستحيل، فيقول له: جرب.

ولاشك أن في مجاهدة النفس صعوبة ومعاناة ومشقة، يجدها من يريد طريق الآخرة، وخصوصا في أول الأمر، ولكن بالاجتهاد والمحاولة والتكرار والصبر، والاستعانة بالله تعالى، يسهل الصعب، ويتيسر العسير.

وهذه سنة الله في خلقه: أن من جد وجد، ومن زرع حصد، ومن سار على الدرب وصل، وهذا وعد الله سبحانه لمن جاهد فيه: أن يهديه سبيله وينير له طريقه، كما قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين).

وهذه الآية مكية، أي أنها نزلت قبل أن يشرع الجهاد بالمعنى العسكري، فهي أحق بأن تكون في ألوان الجهاد الأخرى، وفي مقدمتها: جهاد النفس، وهو أول مراتب الجهاد وأولاها.

وفي الحديث الشريف: “المجاهد من جاهد نفسه لله”، أو قال: “في الله عز وجل”.

5- الدعاء والاستعانة بالله

ومما يقوي ذلك كله ويشد عضد سالك الطريق إلى الله: أن يستعين بالله تبارك وتعالى على أمره كله، فمنه وحده العون، وبه التوفيق، وإليه يرجع الأمر كله. وقد علمنا الله تعالى أن نقول في صلواتنا أبدا: (إياك نعبد وإياك نستعين).

فهذه هي حقيقة التوحيد: إفراد الله عز وجل بالعبادة والاستعانة، فلا عبادة إلا له، ولا استعانة إلا به تبارك وتعالى، وفي الصحيح: “استعن بالله ولا تعجز”.

والدعاء سلاح المؤمن، وسبب من الأسباب الروحية التي شرعها الله للإنسان ليحقق مطالبه، ويسد حاجاته.

وعندما تعجز وسائل الإنسان المادية، أو تضعف قدرته، أو تهن إرادته، فليس أمامه إلا باب الله الكريم، يطرقه بالدعاء، ويسأله من فضله، وهو أهل الإجابة، وقد مر بنا الحديث الذي عمله لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه”.

ملحوظة : هذا الموضوع مقتبس من كتاب النية والإخلاص

للشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله – مع تصرف واختصار –


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود

 رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود   ما أجمل أن يتلمس الدعاة في عصرنا الحاضر السير على خطى الأنبياء، والتخلق بأخلاقهم، والاقتداء بهم في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، من خلال المنهج القرآني في عرض قصصهم، وأحوالهم مع أقوامهم؛ من خلال دراستي لأحد سور القرآن (سورة هود)

تاريخ الإضافة : 24 أبريل, 2024 عدد الزوار : 28 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع