بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ “.التوبة 128
أكرم الله هذه الأمة بأن جعلها خير الأمم ، وشرفها بأن أرسل إليها خير الرسل وخاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنزل عليها خير الكتب القرآن الكريم .
في هذه الآية المباركة يبين الله عز وجل صفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتس سنتناولها بالشرح في هذا اللقاء بعون الله وتوفيقه.
قوله تعالى : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) لها تفسيران:
1-بشراً مثلكم وليس ملكا ، ليكون قادراً على أن يتفاهم مع البشر، وتكون الأسوة به سهلة.
2- من نفس القبيلة التي تنتمون إليها معشر قريش، فتعلمون تاريخه، ولقد سميتموه الصادق الأمين.
إذن فالرسول كان من أنفسهم بشرا مثلهم تتحقق به القدوة الكاملة ، لم يأت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من السماء ملكا رسولا ولم يسقط على الناس من كوكب آخر ،إنما هو رسول يعرفهم ويعرفونه ،عاش بينهم أربعين سنة قبل البعثة يلقبونه بالصادق الأمين ، لم ينقبوا في تاريخه أو لم يبذلوا جهدا كبيرا لتفحص سيرته قبل الأربعين قبل أن يوحى إليه إنما هو من أنفسهم ولذلك سماه في القرآن في العديد من المواضع بالصاحب فقال تعالى : -( وما صاحبكم بمجنون )- [التكوير/22] و -( ما ضل صاحبكم وما غوى )- [النجم/2]
فهو صاحبكم الذي طالت حياته فيكم وصحبته لكم تعرفونه وتعرفون أهله وأصله ؛ فهو من أنفسكم ؛ بشر تقتدون به ليس ملكا معصوما أو له قدرات ملائكية لا يستطيع البشر أن يقتدوا به ، فالملائكة منهم من هو قائم يسبح الله ومنهم من هو راكع ومنهم من هو ساجد -( يسبحون الليل والنهار لا يفترون )- [الأنبياء/20] أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه بشر مثلنا يصيبه ما يصيب البشر من الألم ويصح ويمرض ويجوع ويعطش ويشبع ويرتوي.
ولما جاء الثلاثة إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: ” أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني” ورغب عن الشيء : تركه .
فمن أعرض عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليس على سنته .
كان من أعقلهم ثم وصفوه بالجنون :
ولذلك لما بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقالوا فيه ما قالوا كانوا هم أدرى الناس بكذب ما يدّعون عليه ، قالوا إنه مجنون وهم يعلمون أنه كان من أعقلهم وأحكمهم ،بدليل قصة الحجر الأسود.
قصة وضع الحجر الأسود :
لما بلغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خمساً وثلاثين سنة ـ قبل بعثته بخمس سنوات ـ، اجتمعت قريش لتجديد بناء الكعبة لِما أصابها من تصدع جدرانها، وقد تم تقسيم العمل في بناء الكعبة بين القبائل، وتولت كل واحدة منها ناحية من نواحي الكعبة، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود دبَ الشقاق بين قبائل قريش، فكل يريد أن ينال شرف رفع الحجر الأسود إلى موضعه، وكادوا أن يقتتلوا فيما بينهم، حتى جاء أبو أمية بن المغيرة المخزومي فاقترح عليهم أن يحكّموا فيما اختلفوا فيه أول من يدخل عليهم من باب المسجد الحرام، فوافقوا على اقتراحه وانتظروا أول قادم، فإذا هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما إن رأوه حتى هتفوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمد، وما إن انتهى إليهم حتى أخبروه الخبر، فقال : ( هلمّ إليَّ ثوبا )، فأتوه به فوضع الحجر في وسطه ثم قال : ( لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ) ففعلوا، فلما بلغوا به موضعه أخذه بيده الشريفة ووضعه في مكانه
وقالوا أيضا: جاء بالقرآن من عند نفسه وأنه افترى هذا القرآن ،وهم يعلمون أنه الصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم- ، وقالوا عنه كاهن وهم يعلمون أن كلامه ليس سجع الكهان ، وقالوا عنه أنه شاعر هم يعلمون أن القرآن ليس فيه أوزان الشعر ولا قوافي الشعر ،إنما هو كلام رب العالمين .
أخ كريم وابن أخ كريم:
ولذلك بعد سنوات لمارجع النبي إلى مكة وفتحها ، وأصبح أهل مكة بين يديه بإشارة واحدة منه يقتل من يقتل ممن يستحق القتل من هؤلاء ، قال لهم ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم !!!
هؤلاء هم الذين كانوا من عدة سنوات يقولون ساحر وكاهن وشاعر ، فهم يعرفون النبي ويعرفون أصله وفصله .
فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ؟
والنبي لما وقف على جبل أبي قبيس ليجهر بالدعوة بعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية قال: يا معشر قريش ، أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ ؟ ” قالوا : نعم ؟ ما جربنا عليك كذبا قط . هذا كلامهم ما جربنا عليك كذبا قط .
و في حديث طويل لأبي سفيان في حوار له مع هرقل عظيم الروم لما أرسل النبي له رسالة يدعوه فيها للإسلام سأل هرقل أبا سفيان عدة أسئلة منها :قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟
قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ.
قَالَ هرقل: فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا
قال: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟
قُلْتُ: لاَ.
فقال هرقل لَمْ يَكُنْ لِيَترك الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ .
وصف خديجة لأخلاق النبي قبل البعثة:
وانظروا لأخلاق النبي قبل البعثة لما أوحى الله تعالى إليه، ورأى النبي جبريل أول مرة لم يكن يدري ما جبريل ولا الوحي ولا الرسالة ، فذهب فزعا إلى خديجة رضي الله عنها فأخبَرَها الخبر وقال: (لقد خشيتُ على نفسي!)، والإنسان لو تجمل على الدنيا كلها لا يستطيع أن يتجمل على زوجته فهي أدرى وأخبر الناس بحاله ، فقالت له رضي الله عنها: “كلَّا! والله لن يخزيك الله أبدًا؛وتروى لن يحزنك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق””
تَحمِل الكَلَّ: أي تتحمَّل مؤونة الكَلِّ، وهو الضعيف واليتيم وذو العيال، فتُنفِق عليه، وتقوم على حاجته.
تَكسِب المعدوم: أي تكسب المالَ وتبذُل من هذا المال للمحتاج أو المعدوم (المعدم).
تقري الضيف: والقِرى هو ما يُقدَّم للضيف من طعام وشراب، أي: أنت تكرم الضيف.
تعين على نوائب الحق: النوائب جمع نائبة، وهي الحادثة أو المصيبة، أي تُعين الناس فيما يصيبهم من خير أو شر.
فهي رأت من زوجها هذه الأخلاق الكريمة ، وهذا كله قبل البعثة تدري من هو محمد وما أخلاقه فقالت مقسمة : كلَّا! والله لن يخزيك الله أبدًا ، ولذلك خديجة -رضي الله عنها- كانت أول من آمن به -صلى الله عليه وسلم-
زيد بن حارثة :
واعجبوا معي لهذه القصة زيد بن حارثة ما قصته ؟
زيد بن حارثة كان حرا في ديار قومه بني كلب أحد بطون قضاعة،فذهبت أمه لزيارة لأهلها،فأغارت قبيلة على أهلها وأخذ زيد أسيرا فباعوه في سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام ثم أهداه لعمته خديجة بنت خويلد ، فلما تزوجها النبي محمد وهبته له.
ثم مر زمن، وحج أناس من قبيلته كلب، فرأوه فعرفهم وعرفوه، ثم عادوا وأخبروا أباه بمكانه، فخرج أبوه وعمه يفتدونه، والتقوا بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وطلبوا فدائه، فدعاهما إلى تخيير زيد نفسه إن شاء بقي، وإن شاء عاد مع أهله دون مقابل.
ثم دعاه النبي ، وخيره فقال زيد: «ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، أنت مني بمكان الأب والأم»، فتعجّب أبوه وعمه وقالا: «ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟!»، قال: «نعم. إني قد رأيت من هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي اختار عليه أحدًا أبدًا»، فلما رأي النبي محمد منه ذلك، خرج به إلى الحِجْرعند الكعبة، وقال: «يامعشر قريش اشهدوا أن زيدًا ابني أرثه ويرثني» فصار زيد يُدعي «زيد بن محمد»،ثم حرم التبني كما نعلم فيما بعد .
الشاهد : أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانوا يعرفونه ويعرفون أخلاقه، والإنسان فينا ربما يتجمل أمام الناس بطريقة كلامه بأفعاله ، لكن لن يستطيع أن يتماسك أربعين سنة في وسط أهله بين زوجته بين خدمه ، سبحان الله العظيم!!! فهذا كلام زوجته ثم كلام صاحبه ثم كلام خادمه فهو من أنفسكم تعرفونه وتعرفون أخلاقه .
عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ:
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ} أي يعز عليه مشقتكم . والعنت : المشقة ; أصل التعنت التشديد ; فإذا قالت العرب : فلان يتعنت فلانا ويعنته فمرادهم يشدد عليه ويلزمه بما يصعب عليه أداؤه .
والعزيز : الغالب . والعزة : الغلبة . يقال عزّه إذا غلبه . ومنه { وعزني في الخطاب } [ ص : 23 ] ، فإذا عُدي بعلى دل على معنى الثقل والشدة على النفس .
والمعنى : يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها.
ولذلك يقول تعالى في تصوير هذه المسألة : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً} [الكهف: 6] ومعنى باخع نفسك أي مهلكها لشدة حرصه على هداية الناس .
وفي الحديث يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مثلي كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها. وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها. قال: فذلكم مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار. هلم عن النار. هلم عن النار. فتغلبوني تقحمون فيها.»
وعن أبي ذر قال . تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علما – قال : وقال صلى الله عليه وسلم : ” ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم ” .
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ:
معنى الحِرص : توجُّه الإرادة مع التصميم الشديد . فلان يريد أن ينجح ، وفلان حريصٌ على أن ينجح ، الحرص أشدّ من الإرادة، أيْ حريصٌ على هُداكم ، حريصٌ على سلامتكم ، حريصٌ على سعادتكم ، حريصٌ على فوزكم بالجنة .
بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ :
وقوله الحق: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} رءوف : الرأفة أشد الرحمة.
فكان صلى الله عليه وسلم يدعو لأمته في صباحه ومسائه، كان يدعو لهم في كل حاله، أي إنسان منا أول ما يحمل يحمل هم أولاده، يحمل هم أهله ؛ لكن سبحان الله الرسول كان يحمل هم أمة بأكملها!!
وكما يحكي عبد الله بن عمرو بن العاص (والحديث في صحيح الإمام مسلم ) قام ليلة كاملة يردد قول الله تعالى حكاية عن إبراهيم :” رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ۖ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” وقول الله جل وعلا حكاية عن عيسى : ” إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ “. قال يا ربي وماذا عن أمتي؟
بكى رسول الله. إبراهيم يدعو لأمته وعيسى يدعو لأمته فماذا عن أمتي؟
بكى رسول الله ليلة كاملة يردد هاتين الآيتين ويردد هذا الدعاء ، فأوحى الله تعلى إليه (أمر جبريل أن ينزل إليه) قال : (أخبره يا جبريل بأنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.)
دعاء النبي لعائشة ولأمته ؟
ودعا رسول الله يوما لعائشة رضي الله عنها قال : اللهم اغفر لعائشة ما قدمت وما أخرت وما أسرت وما أعلنت فضحكت عائشة،( فرحت فرحا شديدا لأن الرسول يدعو لها بهذا الدعاء) فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها.
فقال رسول الله : أسرك دعائي؟
قالت وكيف لا يسرني دعاءك يا رسول الله.
قال والله إني لأدعو به في كل صلاة لأمتي.
طبت حيا وميتا يا رسول الله ! يدعو لنا صلى الله عليه وسلم، (بالمؤمنين رؤوف رحيم )
يا رب أمتي، يا رب أمتي :
حتى في أشد ساعات الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل، لما كل الأنبياء يخافون من هيبة وجلال رب العالمين، كلهم يقول نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري. حتى يأتي العباد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم …. يقول : ( فانطلق، فأسجد تحت العرش، فيفتح الله علي بمحامد يعلمنيها، فيقول الله جل وعلا لنبيه ومصطفاه يا محمد ارفع رأسك واشفع تشفع وسل تعطى، (اسأل ما شئت واطلب الشفاعة فيمن شئت.) فلا يزيد صلى الله عليه وسلم على قوله:
يا رب أمتي، يا رب أمتي.
في هذا الموقف العظيم، لا يسأل لأبنائه أو لأهله أو لخاصته، يسأل لأمته (يا رب أمتي) فيقول الله جل وعلا يا محمد أدخل من لا حساب عليهم من أمتك من الباب الأيمن من الجنة وهم شركاء الأمم فيما سوى ذلك من الأبواب. والذي نفسي بيده ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر. (المصراعين أحد جُزْأيه ؛ دَرْفَة ، وهما مصراعان أحدهما إلى اليمين والآخر إلى اليسار) لا إله إلا الله! لا إله إلا الله!
فكان صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوف رحيم. كان لا ينسى أبدا هذه الرحمة التي كانت سمة من سماته في تعامله مع كل من حوله.
شوق النبي لمن آمن به ولم يره :
بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين شوقه إلينا قبل أن نراه ويرانا فقد كان جالسا في أصحابه يوما فقال : وددت أني قد رأيت إخواننا) فقالوا : يا رسول الله ألسنا بإخوانك قال : ( بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض ) فقالوا : يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك قال : ( أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله) قالوا : بلى يا رسول الله قال : ( فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض…”
والمعنى لو أن رجلا عنده ( خيل غر ) الغرة بياض في جبهة الفرس ( محجلة ) من التحجيل وهو بياض في ثلاثة قوائم من قوائم الفرس ( في خيل دهم ) جمع أدهم والدهمة السواد ( بهم ) الذي لا يخالط لونه لون آخر اي أنها سوداء شديدة السواد.
( قال : فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين ) والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمته صلى الله عليه وسلم .
( وأنا فرطهم ) أنا من اسبقهم على الحوض .اللهم اسقنا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبدا .
فكان معلما نعم المعلم ، وكان رفيقا نعم الرفيق ، وكان حبيبا للقلوب نعم الحبيب صلى الله عليه وسلم .
رحمة النبى صلى الله عليه وسلم بالمخالفين :
روى البخارى ومسلم من حديث عائشة أنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم : هل مر عليك يا رسول الله يوم أشد عليك من يوم أحد ؟ فقال المصطفى:” والله لقد لاقيت من قومك ما لقيت يا عائشة، وكان أشد ما لاقيت منهم حينما يوم العقبة إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كلال”- وأنتم تعلمون ما فعله أهل الطائف بالنبى طردوه وسبوه وضربوه بالحجارة- يقول :” فعدت وأنا مهموم على وجهى ولم استفق إلا وأنا بقرن الثعالب”.
تأملوا كم كان الهم الذى حمله النبى فى قلبه لدرجة أنه مشى ما يزيد على سبعة كيلو مترات لم يشعر بشئ ولم يستفق من كثرة الهموم فى قلبه إلا بسحابة قد أظلته فرفع رأسه فرأى فى السحابة جبريل عليه السلام يسلم عليه يقول-: السلام عليك يا رسول الله لقد سمع الله قول قومك لك وقد أرسل الله إليكم ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم”.
يقول صلى الله عليه وسلم :” فسلم على ملك الجبال وقال: يا رسول الله لقد سمع الله قول قومك لك ولقد أرسلنى فمرنى بما شئت فيهم ثم قال ملك الجبال: لو أمرتنى أن أطبق الأخشبين لفعلت”- والأخشبان جبلان عظيمان يقال للأول: أبو قبيس ويقال للثانى: الأحمر-” لو أمرتنى أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت”.
والله لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن ينتقم لذاته ولنفسه لأمر ملك الجبال فتتحطم هذه الرؤوس الصلدة والجماجم المتعنته العنيدة ، ولكن رسول الله ما خرج ليثأر لنفسه قط وما انتقم لذاته أبدا، قال ملك الجبال:” لو أمرتنى أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت” فقال الرحمة المهداة: ” لا ياملك الجبال إنما أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً”. .
إنه الرحمة المهداة هذه رحمته بمن رموه بالحجارة وقذفوه، لأنه فى مقام دعوة والدعوة تحتاج إلى رفق وإلى رحمة.
وجاءه الطفيل بن عمرو الدوسى إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله: كفرت دوس،ادع الله عليهم فرفع النبى يديه إلى السماء والله لو دعا عليهم لهلكوا إلا أنه الرحمة فرفع يديه وقال:” اللهم أهد دوسا وأت بهم”.
فاستجاب الله دعاء حبيبه صلى الله عليه وسلم فهدى الله دوسا وأتى الله بهم وعلى رأسهم الطفيل وأبو هريرة رضوان الله عليهم جميعاً.
رسول الله رحمة للعالمين :
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء – 107) قال ابن عباس: رسول الله بعث رحمة للبار والفاجر، فمن آمن بالنبى صلى الله عليه وسلم تمت له الرحمة فى الدنيا والآخرة مصداقا لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (33) سورة الأنفال، فرسول الله رحمة لكل العالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }
وروى مسلم فى صحيحه من حديث أبى هريرة أنه قيل للنبى : ادع على المشركين…. فقال :” أنى لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة” وقال: ” إنما أنا رحمة مهداة” صححه الحاكم
رحمة النبي رحمة شاملة وعامة وعالمية، وليست عنصرية تقوم على الأعراق أو الألوان أو المذاهب .. بل رحمة لكل البشر، رحمة عامة ومجردة للعالمين جميعاً، ليست رحمة للعرب دون العجم أو للمسلمين دون غيرهم، أو للشرق دون الغرب .. بل هي رحمة للعالمين..
فمعنى الآية : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ “.التوبة 128
يمتن تعالى على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الذي هو من أنفسهم، يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه، ولا يأنفون عن الانقياد له، وهو صلى الله عليه وسلم في غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم.
عزيز عليه ما عنتم أي: يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم ويعنتكم.
حريص عليكم فيحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه.
بالمؤمنين رءوف رحيم أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم.
ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه وتوقيره وتعزيره.