شرح حديث (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة

تاريخ الإضافة 16 أغسطس, 2023 الزيارات : 2495

شرح الأحاديث الواردة بعنوان (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة)

1- عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ)، قال: فقرأها رسول الله ثلاث مرارٍ، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: (المسبل إزاره، والمنان، والمُنَفِّقُ سلعته بالحلف الكاذب) رواه مسلم.

2- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، وملكٌ كذابٌ، وعائلٌ مستكبرٌ)؛ رواه مسلم.

3- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليمٌ: رجلٌ على فضل ماءٍ بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجلٌ بايع رجلًا بسلعةٍ بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه، وهو على غير ذلك، ورجلٌ بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفَى، وإن لم يُعْطِه منها لم يَفِ).

شرح ألفاظ الأحاديث

(ثلاثة لا يكلمهم الله): العدد ثلاثة في الأحاديث لا يراد به الحصر، بدليل أن مجموع من يدخل في هذا الوعيد في الأحاديث الثلاثة تسعة أصناف، وجاء غيرهم في أدلة أخرى؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174]؛ فالوعيد في هذه الأحاديث جاء مثله من الوعيد في كتاب الله جل وعلا.

(لا يكلمهم الله يوم القيامة): جمهور المفسرين على أنه لا يكلمهم كلامًا ينفعهم ويسرهم ويرضى به عنهم، وهناك أقوال أخرى، هذا أصحها والله أعلم؛ لأن الله عز وحل يكلم أهل النار وهم في النار، لكنه كلام ليس على سبيل الرضا، فيقول تعالى: ﴿ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ﴾ [المؤمنون: 108].

(ولا ينظر إليهم)؛ أي: لا ينظر إليهم نظرًا خاصًّا، بل يعرض عنهم، فلا ينظر إليهم نظر رحمة ولطف، وإنما النظر العام؛ فإن الله ينظر إلى كل شيء سبحانه.

(ولا يزكيهم)؛ أي: لا يطهرهم من الدنس، ولا يُثني عليهم خيرًا.

(ولهم عذابٌ أليمٌ)؛ أي: مؤلم وموجع.

(خابوا وخسروا)؛ أي: من الخيبة، وهي الخذلان في ذلك الوقت، وهذه خسارة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية.

ما تقدم هو بيان لألفاظ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليمٌ))، وهي ألفاظ كررها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثلاثة، وأما الأصناف الذين يدخلون تحت هذا الوعيد فسيأتي ذكر كل واحد منهم على حدة كما يلي:

شرح الأصناف التسعة الواردة في الأحاديث

 أحاديث الباب دليل على عظم جرم من وقع في واحد من الأصناف المذكورة، وهذا يدل على أنها من كبائر الذنوب، وعقابه من الله عز وجل بأن يحرم من ثلاث، ويعطى واحدة؛ فيُحرَم من تكليم الله عز وجل له، والنظر إليه، وتزكيته، وله واحدة وهي عذاب أليم، فيا لها من خسارة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية؛ ولذا قال أبو ذر – كما في حديثه -: (خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟)، ولعظم وفظاعة هذه الخسارة كررها النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث أبي ذر ثلاث مرات.

أولًا: المسبل إزاره:

يقال: أسبل إزاره؛ أي: أرخاه وأرسله إلى الأرض؛ ويدخل في ذلك الثوب والسراويل – ومنه البنطال لمن لبسه من الرجال – والقميص والعباءة)؛ لأنها جميعًا تندرج تحت أصل واحد.

أحاديث النهي عن الإسبال على قسمين:

قسم مطلق: ومنه ما رواه البخاري في صحيحه مرفوعًا: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار).

وقسم مقيد بمن يجره خيلاء: ومنه ما رواه الشيخان البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا).

وقسم ورد في حادثة معينة اختلفت فيها وجهات النظر من حيث الاستدلال، منه ما رواه البخاري في صحيحه، وروى مسلم بعضه، من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، قال أبو بكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لستَ ممن يصنعه خيلاءَ).

ويستثنى من الخلاف أربعة أصناف:

الأول: من أسبل متقصدًا الخيلاء، فهذا بالإجماع أنه محرم، وأنه من كبائر الذنوب.

الثاني: من أسبل لضرورة لحقت به، فلا حرمة حينئذٍ، فهذا كمن أسبل إزاره على قدميه لمرض فيهما، ونحوه، وهذا كالترخيص في لبس الحرير للحكة ونحو ذلك، والقاعدة أن الضرورات تبيح المحظورات.

الثالث: إسبال النساء؛ فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم لهن بإرخاء ذيول ثيابهن شبرًا، استحبابًا، لستر القدمين، ويرخين ذراعًا إن احتجن لذلك، وإسبال النساء جائز بالإجماع، بل هو مشروع لستر القدمين.

عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: (يرخين شبرًا)، فقالت: إذن تنكشف أقدامهن، قال: (فيرخينه ذراعًا لا يزدن عليه)؛ رواه الترمذي وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، ورواه النسائي.

الرابع: الإسبال لعارض عرَض له وليس قصدًا، فلا بأس حينئذٍ بإسباله حتى يزول ما عرض له من نسيان، أو استعجال، أو فزع، أو حال غضب، أو استرخاء مع تعاهد له برفعه، كما في قصة استرخاء إزار أبي بكر – رضي الله عنه؛ إذ كان يسترخي لنحافة جسمه – رضي الله عنه – فينجر، فيتعاهده برفعه.

ويدل على ذلك: ما جاء في صحيح البخاري عن أبي بكر – رضي الله عنه – قال: خسفت الشمس ونحن عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام يجر ثوبه مستعجلًا حتى أتى المسجد؛ الحديث.

وما جاء في صحيح مسلم عن عمران بن حصين – رضي الله عنه – في قصة حديث ذي اليدين في سهو النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العصر – وفيه: وخرج صلى الله عليه وسلم غضبانَ يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس؛ الحديث.

وما جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، فقال أبو بكر – رضي الله عنه -: يا رسول الله، إن أحد شقَّيْ إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لست ممن يصنعه خيلاء)، ففي هذا الحديث أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر – رضي الله عنه – على ما قد يحصل منه من استرخاء إزاره من غير قصد عند عدم تعاهده، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك الاسترخاء لا يدخل في الخيلاء، وليس بذريعة إليه، فلم يدخل في النهي.

الخلاف في حكم الإسبال:

اختلف العلماء في حكم الإسبال من دون خيلاء على قولين:

القول الأول: أن الإسبال بدون قصد الخيلاء ليس محرمًا، وهذا قول جمهور العلماء من المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، على خلاف بينهم هل يكون مكروهًا أو جائزًا، ولكن لا يصل إلى حد التحريم.

واستدلوا:

1- بالأدلة السابقة ذكرها، وحملوا المطلق من الأحاديث في الإسبال – كحديث الباب مثلًا والأحاديث السابقة المطلقة – على الأحاديث المقيدة بمن يتخذه خيلاء، فقالوا: إن من يتخذه خيلاء هو المخاطب في جميع الأحاديث التي تنهى عن الإسبال.

2- الحديث الوارد في قصة أبي بكر؛ حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لست ممن يصنعه خيلاء).

ووجه الدلالة: أن المحرم من الإسبال هو ما كان للخيلاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر.

قال ابن قدامة في: “المغني” (2/ 298): “ويكره إسبال القميص والإزار والسراويل، فإن فعل ذلك على وجه الخيلاء حرم”؛ انتهى.

وقال النووي في “شرح مسلم” (14/ 62): “لا يجوز إسباله تحت الكعبين إن كان للخيلاء، فإن كان لغيرها فهو مكروه، وظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء تدل على أن التحريم مخصوص بالخيلاء، وهكذا نص الشافعي على الفرق”؛ انتهى، [وانظر في ذلك: الآداب الشرعية لابن مفلح (3/ 521)، والتمهيد لابن عبدالبر في (3/ 244)، والمجموع للنووي (3/ 177)، وشرح العمدة لشيخ الإسلام ابن تيمية ص (361 – 362)].

والقول الثاني: أن الإسبال محرم مطلقًا، فإن كان خيلاء فهو أشد حرمة.

واختار هذا القول ابن العربي والقَرافي من المالكية، والذهبي وابن حجر من الشافعية، واختاره الصنعاني، وكتب في ذلك كتابًا سماه “استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال”، وهو اختيار بعض علمائنا المعاصرين؛ كالألباني وابن باز، وابن عثيمين  وغيرهم.

واستدلوا: بالأحاديث السابقة؛ حيث جاء بعضها مطلقًا بدون خيلاء، وبعضها مقيدًا بالخيلاء، قالوا: ولا يصح حمل المطلق على المقيد؛ لأن لكل حال عقوبته الخاصة به.

وأما الحديث الوارد في قصة أبي بكر فهي حادثة عين وقعت لأبي بكر، فهي خصوصية له، من جهتين:

الأول: أن أبا بكر – رضي الله عنه – ذكر أن ثوبه بنفسه يسترخي، وهو مع ذلك يتعاهده، ومن يسبل إزاره اليوم يتعمد الإسبال، فلا يلحق هذا بهذا، فالذي يسترخي ثوبه من غير قصد كأبي بكر لا يدخل في هذا الوعيد، بخلاف من تعمد ذلك.

الثاني: أن أبا بكر شهد له النبي صلى الله عليه وسلم وزكَّاه بأنه لم يصنع ذلك خيلاء، ومن يسبل اليوم من الذي يزكيه؟

قال ابن العربي في “عارضة الأحوذي” (7/ 238): “لا يجوز لرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أتكبر فيه؛ لأن النهي تناوله لفظًا، وتناول علته، ولا يجوز أن يتناول اللفظ حكمًا فيقال: إني لست ممن يمتثله؛ لأن العلة ليست فيَّ؛ فإنها مخالفة للشريعة، ودعوى لا تسلم له، بل من تكبره يطيل ثوبه وإزاره، فكذبه معلوم في ذلك قطعًا”؛ انتهى.

وقال ابن حجر في الفتح (10 / 263):“وأما الإسبال لغير خيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه..، وإن كان الثوب زائدًا على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف، فينتهي إلى التحريم، وقد يتجه المنع من جهة التشبه بالنساء، وهو أمكن فيه من الأول، وقد صحح الحاكم من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الرجل يلبَس لِبسة المرأة، وقد يتجه المنع من جهة أن لابسه لا يأمن من تعلق النجاسة به”، [وانظر في ذلك سير أعلام النبلاء للذهبي (3/ 234)، والمصدرين السابقين في عارضة الأحوذي والفتح، ومحاضرة للألباني تحت عنوان: الألبسة والأزياء في الإسلام، وأيضًا فتاوى ابن عثيمين 12/ 252، وفتاوى اللجنة الدائمة فتوى رقم (3826)، وفتوى رقم (9390)].

مما سبق يتلخص ما يلي:

أن الأحاديث الواردة فيها نوعان من العقوبة:

الأول: تعذيب المسبل في النار، وهذا التعذيب يتناول جزأه الأسفل من الكعبين الذي وقع فيه الإسبال.

ويدل عليه: ما رواه البخاري في صحيحه مرفوعًا: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار).

الثاني: حرمانه من نظر الله له يوم القيامة وتكليمه وتزكيته له، وله مع ذلك عذاب أليم.

ويدل عليه: حديث الباب، وأيضًا ما رواه الشيخان البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا).

وموطن الخلاف بين القولين سببه: هل يحمل المطلق على المقيد فتكون العقوبتان تتناولان حالًا واحدة، وهي من أسبل خيلاء (وهذا هو القول الأول)، أو أن العقوبتين تتناولان حالين مختلفتين: الأولى من أسبل بلا خيلاء، والثانية من أسبل مع خيلاء، فلا يحمل المطلق على المقيد لاختلاف الحكم والسبب، (وهذا هو القول الثاني).

ثانيًا: المنان:

المن لغة: مصدر منَّ عليه منًّا، وله في اللغة أصلان: أحدهما القطع والانقطاع، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ [التين: 6]؛ أي: غير مقطوع، والأصل الثاني: اصطناع الخير، ومنه قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 164].

والمن في الاصطلاح له ثلاثة معانٍ:

المعنى الأول: المن في الحرب، وهو: أن يترك الأميرُ الأسيرَ الكافر من غير أن يأخذ منه شيئًا؛ أي: إطلاقه بلا عوض، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ﴾ [محمد: 4]، وهذا المعنى غير مراد في حديث الباب.

والمعنى الثاني: المن الفعلي، وهو أن يثقل الإنسان بالنعمة، وذلك في حقيقته لا يكون إلا لله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 164]، وقوله: ﴿ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ﴾ [النساء: 94]، ومنه اسم الله عز وجل (المنان)

والمعنى الثالث: أن يكون ذلك بالقول، بأن يذكر الإنسان ما أنعم به على أخيه، وهذا هو المراد في حديث الباب، مثاله: كمن يعطي أحدًا عطاءً أو يشفع له في أمر ما أو يسدي له أي نوع من أنواع المعروف ثم يذكر هذا المعروف ويدلي به ويمن به، فيتأذى المعطى له، والمن أيًّا كان كبيرة من كبائر الذنوب، وصاحبها لا يكلمه الله يوم القيامة، ولا يزكيه، ولا ينظر إليه، وله عذاب أليم.

ومن هذا النوع قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ﴾ [المدثر: 6] 

لا يجوز المن بالصدقة، وهذا يبطلها ويضيع اجرها؛ لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى﴾ [البقرة: 264].

ثالثًا: المُنفِّق سلعته بالحلف الكاذب:

المُنفِّق: بتشديد الفاء؛ أي: المروج، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب: هو الذي يحلف كذبًا على سلعته من أجل زيادة الثمن.

كأن يحلف بأن هذه السلعة جيدة وهي ليست كذلك، أو يحلف بأنه اشتراها بكذا، أو رأس مالها كذا، وهو اشتراها بأقل، أو كأن يعرض سلعة مخفضة ويحلف بأن سعرها قبل التخفيض كذا وهي ليست كذلك، وما أشبه هذا من الأيمان التي تزيد في قيمة السلعة.

حكم من حلف على سلعة كذبًا ليُنفِّقَها:

حكمه: محرم، وكبيرة من كبائر الذنوب؛ لحديث الباب، فلا يكلمه الله يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم، وهو مع ذلك جمع في يمينه أربعة أشياء:

1- استهانته باليمين ومخالفته أمر الله عز وجل بحفظ اليمين حيث قال: ﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89].

2- كذبه.

3- أكله المال الذي أخذه على هذه اليمين بالباطل.

4- أن يمينه من أعظم الأيمان جرمًا؛ فهي تسمى اليمين الغموس؛ فقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان)

حكم الحلف في البيع والشراء مطلقًا:

الأصل فيه أنه مكروه؛ لعموم قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77]، وقوله: ﴿ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ﴾ [المائدة: 89]، وقوله: ﴿ وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ ﴾ [البقرة: 224]، وحديث أبي قتادة مرفوعًا: (إياكم وكثرةَ الحلف في البيع؛ فإنه يُنفِّقُ ثم يمحق)؛ رواه مسلم، ولحديث أبي هريرة مرفوعًا: (الحلف منفقة للسلعة.. ممحقة للبركة)؛ متفق عليه.

وإن كان الحلف لحاجة من غير إكثار، فلا بأس، والله أعلم.

رابعًا: شيخ زانٍ:

المقصود بالشيخ هو الرجل الذي تخطى سن الخمسين، حيث يبدأ جسده في الضعف، وهو في هذه الحال قد ضعفت الدواعي لارتكاب الزنا ، ولا شك أن الزنا محرم على الجميع، وهو فاحشة، وساء سبيلا، لكن الناس يتفاوتون أيضاً في الفاحشة كما يتفاوتون أيضاً في الطاعة المعينة، فهذا الإنسان قد ضعفت قوته الغريزية، وحصل له من كمال العقل والمعرفة والتجربة، ومر به من الحياة أمورٌ تجعله يتريث ، ولا يستعجل، ولا يقدم على شيء فيه ضرر محض عليه.

إذن مع ضعف الداعي، ويفعل هذه الجريمة فصارت عظيمة في حقه، كبيرة، ولهذا قال النبي ﷺ: (أعذَرَ اللهُ إلى رجل أمهَلَه حتى بلغ ستين سنة).   

خامسًا: ملك كذاب:

الملِك: بكسر اللام المقصود به: الإمام الذي يتولى الأمر.

 يكذب الإنسان عادة لضعفه، فالكذب هو ضعف وجبن في النفس، فلا يستطيع أن يواجه الآخرين بالحق، والصدق، فيضطر إلى أن يقول غير الحقيقة خوفاً منهم فيكذب، أما الملك فلا يخاف من أحد، فالناس كلهم رعيته ، فإذا صار يكذب فمعنى ذلك أن السوء والفساد متغلغل متجذر داخل نفسه، فلا شيء يدعوه إلى الكذب، ولكن الانحراف إذا تمكن في النفس صار سجية للإنسان، فالكذب منه غريب؛ لضعف الدواعي إليه.

سادسًا: عائل مستكبر:

العائل: هو الفقير، يقال: عال الرجل فهو عائل إذا افتقر، والعَيلة: الفقر، وأعال، فهو معيل إذا كثر عياله.

والعائل وهو الفقير على ماذا يتكبر؟

فإن غالب من يتكبر إنما يتكبر من أجل ما عنده من مال أو جاه، والثروة في الدنيا، وهذا سبب ليس عند الفقير، فكان الاستكبار منه شيئًا غريبًا؛ لقلة الدواعي لذلك؛ فهو المحتاج والناس ربما يكونون سببًا في سد حاجته، فكيف يتكبر عليهم ولا شيء لديه يتكبر من أجله؟ 

والمستكبر: من الاستكبار، وهو الترفع والتعاظم، وهو على نوعين:

1- استكبار عن الحق بأن يرده أو يترفع عن القيام به.

2- واستكبار على الخلق بأن يحتقرهم، وهذا هو تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للكبر، كما روى مسلم حيث قال النبي: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس)، وتقدم معنا شرح الحديث.

وفي الحديث دلالة على فضل أضداد الأوصاف الثلاثة، وهذا يفهم من الحديث:

أ. فالشاب معلوم أنه يتمتع بحرارة غريزية وتغلبه الشهوة، إلا أن يحكمها، لا سيما مع صغر السن، فعقله لم ينضج ولم يستوِ، فحين تتوفر له دواعي الزنا يكون من أفضل الناس عند الله، ومصداق ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. (وذكر منهم)..، رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).

ب. وكذلك الملك حين يكون صادقًا ناصحًا لرعيته أفضل عند الله عز وجل.

ج. وكذلك الغني حينما يتواضع للناس وللفقراء على وجه الخصوص، ولا يصده ما عنده من الثروة فيترفع على الناس، فهذه الأوصاف الثلاثة أوصاف فاضلة وأعلى شأنًا من غيرها فيمن كانت حالهم مثل حال الشاب لكنه متعفف والملك الصادق والغني المتواضع.

سابعًا: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل:

(رجلٌ على فضل ماءٍ)؛ أي: ماء فاضل عن حاجته وكفايته.

(بالفلاة): هي المفازة، وهي القفر من الأرض؛ سميت بذلك لأنها فليت عن كل خير، وقيل: الصحراء الواسعة، وقيل: هي المستوية التي ليس فيها شيء.

(ابن السبيل): هو المسافر، والسبيل: الطريق، وسمي المسافر بذلك: لأن الطريق تبرزه وتظهره، فكأنها ولدته، وقيل: سمي بذلك لملازمته إياه.

في الحديث دلالة على تحريم منع فضل الماء، وأن من منع منه ابن السبيل دخل في الوعيد الشديد في حديث الباب، وهذا إذا كان ابن السبيل غير مضطر، وإذا كان مضطرًّا ومنعه فالحال أشد.

وجاءت أحاديث في معنى حديث الباب تختص بأحكام فضل الماء، منها: حديث جابر عند مسلم: “أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء”، وما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ)؛ لأن منع من أراد أن يشرب وينتفع بهذا الماء هو وبهائمه سبب في منعه أن تأكل بهائمه من الكلأ والعشب الذي حول هذا الماء الفاضل؛ لأنه لن يرعى بهائمه عند ماء يمنع منه.

من العلل التي من أجلها دخل مَن منع فضل الماء في هذا الوعيد ما رواه أبو داود وأحمد وابن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار)، ولهذا الحديث شواهد يتقوى بها، والكلأ العشب رطبه ويابسه.

ظاهر الحديث أن الماء الفاضل عن الحاجة إذا كان بفلاة،وهل إذا كان ملكًا لشخص يدخل في هذا الوعيد؟

قال ابن عثيمين: “فإن قال قائل: إذا كان هذا الماء الفاضل في حوزة صاحبه، يعني في التانكي (خزان الماء الحديدي) مثلاً، فهل يلحقه هذا الوعيد إذا منعه ابن السبيل؟

أما عند الضرورة، فالظاهر أنه يلحقه؛ لأن في هذه الحال يجب أن يبذله، أما في غير الضرورة، فالظاهر أنه لا يلحقه”؛ [انظر: التعليق على صحيح مسلم (1/ 356)].

ثامنًا: رجلٌ بايع رجلًا بسلعةٍ بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه، وهو على غير ذلك.

(رجلٌ بايع رجلًا): جاء في رواية أخرى في الصحيحين (رجل ساوم رجلًا) والمقصود عقد البيع بين الرجلين.

(بعد العصر)؛ أي: بعد صلاة العصر، وسيأتي سبب اختصاصه.

(فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا)؛ أي: كذب فزاد في الثمن الحقيقي الذي اشترى به؛ لقوله: (وهو على غير ذلك).

(فصدقه)؛ أي: إن المحلوف له صدق الحالف.

في الحديث دلالة على تحريم الحلف على السلعة كذبًا لينفِّقها، وسبق بيان ذلك في حديث أبي ذر السابق، وبيان أن من فعل مثل ذلك فقد جمع عدة كبائر عظيمة.

في الحديث تقييد هذا الوعيد بمن بايع بعد العصر وهو على تلك الحال من الكذب.

فاختلف في سبب تقييده بعد العصر على أقوال:

قيل: لشرف هذا الوقت بسبب اجتماع ملائكة الليل والنهار فيه.

وقيل: لأن العصر وقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها.

وقيل: لأنه وقت ارتفاع الأعمال.

تاسعًا: رجلٌ بايع إمامًا لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفَى، وإن لم يعطه منها لم يَفِ:

(لا يبايعه إلا لدنيا)؛ أي: من أجل الدنيا.

(فإن أعطاه منها)؛ أي: إن أعطى هذا الإمام من بايعه من أغراض الدنيا ومصالحها.

(وفى)؛ أي: جاء بما عليه من الطاعة والواجبات من أجل ما ناله من أغراض الدنيا، فجعلها معيارًا للمبايعة.

في الحديث دلالة على أن من جعل مبايعته لإمام المسلمين من أجل مصالح وأغراض دنيوية فإن أعطي منها وفى ما للإمام من طاعة، وإن لم يعط منها خرج عليه، فإنه يدخل في الوعيد الشديد في حديث الباب، والعلة في دخوله في هذا الوعيد الشديد؛ لأنه غاشٌّ لإمام المسلمين، والغش للإمام غش للرعية؛ لأن في ذلك سببًا لإثارة الفتن.

في الحديث دلالة على أن الأصل في مبايعة الإمام أن يبايعه على الكتاب والسنة، لا على أغراض دنيوية، فيبايعه على أن يعمل بالحق ويقيم الحدود ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يبايعه لحظوظ الدنيا من مال وغيره من المتاع؛ لِما في ذلك من الخسران الشديد، وفي هذا دلالة على أن كل عمل لا يقصد به وجه الله وأريد به عرض الدنيا، فهو فاسد وصاحبه آثم.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 14 مايو, 2024 عدد الزوار : 1036 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع