وقولوا قولا سديدا
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبة الحاجة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. ثم يقرأ ثلاث آيات ( يا أيها الذين آمنوا أتقو الله حق تقاته… ) و( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة …. ) و(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً … ) ثم يذكر حاجته .رواه الإمام أحمد
التقوى جعلُ النَّفس في وقايةٍ من كلِّ ما قد يُصيبُها من مكروه أو أذى، وتقواه سبحانه هي أن تقوم بما أمرك الله تعالى به وتنتهي عما نهاك رغبة فيما عنده وخوفًا من عقابه.
ومعنى “اتقوا الله”أي أنَّ الله عزّ وجلّ هو أولى ما نتَّقيه ونخافه ونحذره ونخشى عقابه، ذلك لأنّه هو الّذي بيده مقاليد الأمور كلّها، يُصرِّفها كيف يشاء! وبالتالي فإنّ تقوى الله سبحانه وتعالى والخوفَ والحذر منه، هو سرُّ السعادة في الدُّنيا والآخرة.
وقد تردّدت في القرآن الكريم الوصيّةُ بالتَّقوى، على صورتين أساسيّتين:
في أولاهما تُضاف التقوى إلى اسم اللهِ -عز وجل-، فيكون المعنى: اتقوا سخط الله وغضبه، اللّذين ينشأ عنهما عقابه الدنيوي والأخروي، قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28و30]، وقال تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} [المدثر: 56]، فهو سبحانه الّذي ينبغي أنْ يُخشى ويُهاب ويُجلَّ ويُعَظَّمَ في صدورِ عباده حتَّى يعبدوه ويُطيعوه.
وفي الصُّورة الثَّانية تُضاف التّقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه، أو زمانه، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}، [البقرة: 24]، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} [البقرة: 281]، {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا} [البقرة: 48 ].
وصيَّة الرّسول صلّى الله عليه وسلم لأصحابه ولسائر المسلمين بالتّقوى:
وفي ظلال هذه المعاني جاءت -كذلك- وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه بالتقوى، وتردّدت في مختلف المناسبات، ممّا يدلُّ على عظم هذه الوصية، خاصَّةً وأنّها قد كانت وصيّة وداعه لأصحابه وللأمة، حينما وعظ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الناس فقالوا له: كأنَّها موعِظَةُ مودِّعٍ فأوصِنا، قال: (أُوصيكم بتقوى اللهِ والسَّمْعِ والطَّاعة).
وكانت وصيّته -صلى الله عليه وسلم- لكلِّ من يستوصيه من الصَّحابة هي الوصيّة بالتَّقوى، هكذا أوصى أبا ذرٍّ -رضي الله عنه-: (أوصيكَ بتقوى الله، فإنَّه رأسُ الأمرِ كلِّه) [خرَّجه ابنُ حبان]
وبمثلها أوصى أبا سعيدٍ الخدريِّ -رضي الله عنه- فقال له: (أوصيك بتقوى الله، فإنَّه رأسُ كُلِّ شيءٍ)، وفي رواية أخرى: (علَيكَ بتقوى الله فإنَّها جِماع كُلِّ خيرٍ).
إنّ كلمة العلماء متّفقة على أنّ تقوى الله عزّ وجلّ إنما تكونُ باتِّباع ما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه:
عن عمر بن عبد العزيز: التقوى: تركُ ما حرمَ الله وأداءُ ما افترضَ الله، وقيل: التقوى: تركُ ما لا بأسَ به حَذراً مما به بأس.
ألا، فلنتَّقِ الله حقَّ التَّقوى؛ لنكون من المهتدين إلى صراط الله المستقيم في الدنيا والآخرة.
” وقولوا قولا سديدا”
ثم ذكر يابا من أعظم ما يحصل به التقوى ويحقق للإنسان هذه الخصلة التي بها سعادة الدنيا والآخرة فقال جل شأنه : ﴿وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ .
ما معنى سديدا؟
أي: قولا مصيبا، يقال سددت الرمح إلى الهدف أي أصبته ، لذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «سددوا وقاربوا» فالمطلوب: السداد، وهو: إصابة الهدف والغاية فإذا لم تستطع فكن قريبا من الهدف والغاية.
فالقول السديد هو القول الذي من ورائه فائدة ، القول السديد هو الكلمة الطيبة ، هو القول الذي يبني ولا يهدم ، ومن القول السديد أيضا، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الناس العلم وبذل النصيحة والسلام مع البشاشة ، والسعي للإصلاح بين المتخاصمين .
وقد ورد هذا المعنى في عدة آيات من القرآن الكريم منها قوله تعالى “{وَقُولُوا۟ لِلنَّاسِ حسنا…}[سورة البقرة 83] فالإنسان لن يسع الناس بماله إنما يسعهم بحسن أخلاقه، فهذه الآية تضبط أقوال العبد في كلامه مع الناس فلا يخرج من لسانه إلا الخير والكلمة الطيبة، ومن لازم القول الحسن اجتناب قول السوء فيدخل في ذلك كل قول قبيح من شتم وفحش وبذاءة ولعن ومخاصمة ونميمة وغيبة وكذبا ودعوة إلى منكر، حتى ما يكون فيه أدنى أذية للناس،وغير ذلك من كل كلام باطل وقبيح.
وقال تعالى : (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[ النحل 125] ، أي: لتكن دعوتك للناس إلى سبيل ربك المستقيم { بِالْحِكْمَةِ } أي: كل أحد على حسب حاله ، ومن الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل وتبدأ بالأهم فالأهم، وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة، وإلا فينتقل معه بالدعوة بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب بذكر ما أعد الله للطائعين من الثواب العاجل والآجل وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل، فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق، أو كان داعية إلى الباطل، فجادله بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته لكن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصدها، ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها.
وقال تعالى : (َألَم تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصلُهَا ثَابِتٌ وَفَرعُهَا فِي السَّمَاء تُؤتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذنِ رَبِّهَا وَيَضرِبُ اللّهُ الأَمثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم:24-25] فهنا شبه الله – سبحانه – الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع، وجمهور المفسرين يقولون الكلمة الطيبة هي (شهادة أن لا إله إلا الله)، فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، فكل عمل يرضي الله – عز وجل – هو ثمرة هذه الكلمة، وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب وفروع هذه الشجرة هي الأعمال الصالحة، فهي صاعدة إلى السماء، ولا تزال تثمر الأعمال الصالحة كل وقت.
والشجرة الطيبة طيبة المنظر والصورة والشكل وهي طيبة الرائحة وطيبة الثمرة وطيبة المنفعة، وكذلك الكلمة الطيبة قد تهدي إنساناً إلى الخير وقد تغير مجتمعاً، وقد ينقذ الله بها قلوباً أو يعمر بها نفوساً، بل قد يحيي بها الله أقواماً من موات.
وفي حديث معاذ بين النبي -صلى الله عليه وسلم- لنا خطر اللسان فبعد أن بين لمعاذ ما يدخل به الجنة وما ينجو به من النار، قال «ألا أدلك على مِلاك ذلك كله»(يعني: الذي تملك به أبواب الخير وتدخل به الجنة وتنجو به من النار) قال: بلى يا رسول الله، قال: «كف عليك هذا أو أمسك عليك هذا» وأخذ بلسان نفسه -صلى الله عليه وسلم- قال معاذ -رضي الله عنه-: وإنا لمؤاخذون بما نقول يا رسول الله (يعني: هل الله سيحاسبنا ويؤاخذنا على مانتكلم به؟)
قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على مناخرهم أو على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟»
أي: هل يدخل أكثر الناس النار إلا بسبب ما جنته كلماتهم وما تكلمت به ألسنتهم! وهذا يبين خطورة هذا اللسان فإن إطلاقه يورد المهالك، وإمساكه يقرب الإنسان من كل خير ويفتح له كل باب من أبواب البر، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم- «كف عليك هذا»
وهذا أقل ما ينبغي أن يعامل به اللسان، اللسان إما أن يتكلم بخير وإما أن يتكلم بباطل وإما أن يصمت الإنسان، أقل الأحوال المطلوبة في اللسان أن تكفه وأن توقفه عن الفساد والشر فإن ذلك صدقة منك على نفسك والمرتبة الأعلى أن تستعمله في خير، وقد ورد هذا المعنى في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت» رواه البخاري ومسلم، فقوله صلى الله عليه وسلم: «فليقل خيرًا أو ليصمت» أمر بقول الخير، وبالصمت عما عداه، وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يستوي قوله والصمت عنه، بل إما أن يكون خيرًا، فيكون مأمورًا بقوله، وإما أن يكون غير خير، فيكون مأمورًا بالصمت عنه ؛فيتعبد المسلم لله بالصمت كما يتعبد له بالكلام .
وروى الطبراني من حديث أسود بن أصرم المحاربي، قال: قلت: يا رسول الله أوصني، قال: «هل تملك لسانك؟» قلت: ما أملك إذا لم أملك لساني؟! قال: «فهل تملك يدك؟!» قلت: فما أملك إذا لم أملك يدي؟! قال: «فلا تقل بلسانك إلا معروفًا، ولا تبسط يدك إلا إلى خير».
وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».
ولذلك فالله تعالى هنا أمرنا بأعلى المراتب فيما يتعلق باللسان فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ .
ثمرة القول السديد
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ إذا سددت قولك وحفظت لسانك من سيء العمل انفتح لك باب صالح الأعمال، يقول الله تعالى:
﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾
هذه ثمرة تحقيق التقوى وإمساك اللسان: (يصلح لكم أعمالكم) هذه أولى الثمار أي: يكون ذلك عونا لكم على صلاح الأعمال فتكون أعمالكم صالحة، وغالب ما يحصل الفساد في أحوال الناس بسبب ألسنتهم، لذلك تجد الذي يحفظ لسانه يحكم عمله، والذي يطلق لسانه تجد الفساد في عمله أكثر منه في لسانه؛ كلما أمسكت لسانك عن السوء والشر والفساد والقول القبيح كان ذلك عونا لك على صلاح عملك؛ لذلك كان ثواب القول السديد أن الله تعالى يصلح الأعمال لأصحابها .
﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾
أي: يحط عنكم الخطايا، وهذا ثواب القول السديد وإمساك اللسان عن قول السوء؛ فإنه إذا أمسك الإنسان لسانه وقال قولا سديدا، فتح الله له من العمل الصالح ما يكون موجبا لحط خطاياه وتخفيف ذنوبه ورفعة درجاته.
بعد ذلك رجع إلى إعطاء قاعدة في كل أوامر الله وفي كل نواهيه:
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾
من الذي يقول: فوزا عظيما؟
إنه الله جل جلاله الله العظيم!!!
وإذا قال العظيم عن شيء: إنه عظيم فاعرف أنه شيء يفوق الخيال، ويتجاوز ما يدور في البال، ولا يحيط به خاطر ولا فكر، العظيم رب الأرض والسماوات يصف فوز الطائعين بأنه فوز عظيم «ما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
وطاعة الله تتحقق بأمرين أن تفعل ما أمرك الله تعالى به، وأن تترك ما نهاك الله تعالى عنه، فالطاعة هي امتثال ما أمر الله جل وعلا به فعلًا، وامتثال ما نهى عنه تركا، تطلب منه العطاء وترجوا منه النوال، تخافه وترغبه، تخاف عقابه وترغب فيما عنده من جزاء وثواب عظيم.