فقه الجنائز : 10- زيارة المقابر ، آداب وأحكام
زيارة القبور
حكمها :
تشرع زيارة القبور للاتعاظ بها وتذكر الآخرة .
والمقصود من زيارة القبور شيئان :
أ – انتفاع الزائر بذكر الموت والموتى ، وأن مآلهم إما إلى جنة وإما إلى نار ، وهو الغرض الأول من الزيارة ، فعن عبد الله بن بريدة عن أبيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ” رواه أحمد ومسلم
وكان النهي ابتداء لقرب عهدهم بالجاهلية ، وفي الوقت الذي لم يكونوا يتورعون فيه عن هجر الكلام وفحشه ، فلما دخلوا في الإسلام واطمأنوا به وعرفوا أحكامه ، أذن لهم الشارع بزيارتها .
وعن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” استأذنت ربي أن استغفر لها ، فلم يؤذن لي ، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي . فزوروها ، فإنها تذكر الموت ” رواه مسلم.
ب – نفع الميت والإحسان إليه بالسلام عليه ، والدعاء والاستغفار له .
صفة الزيارة :
إذا وصل الزائر إلى القبر استقبل وجه الميت وسلم عليه ودعا له ، وقد جاء في ذلك :
1 – عن بريدة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم : ” السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، أنتم فرطنا ونحن لكم تبع ، ونسأل الله لنا ولكم العافية . ” رواه احمد ومسلم وغيرهما .
” أهل ” منصوب على الاختصاص أو النداء.
2 – وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبور المدينة ، فأقبل عليهم بوجهه فقال : ” السلام عليكم يا أهل القبور . يغفر الله لنا ولكم ، أنتم سلفنا ونحن بالأثر ” رواه الترمذي .
وأما ما يفعله بعض من لا علم لهم ، من التمسح بالأضرحة وتقبيلها والطواف حولها ، فهو من البدع المنكرة ، التي يجب اجتنابها ويحرم فعلها .
زيارة النساء للقبور:
للفقهاء قولان :
القول الأول : وهو مذهب المالكية والحنفية ورواية عن أحمد جواز زيارة النساء للقبور ، لحديث عائشة عن عبد الله بن أبي مليكة ، أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر ، فقلت : يا أم المؤمنين من أين أقبلت ؟ قالت : من قبر أخي عبد الرحمن فقلت لها : أليس كان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور ؟ قالت نعم . كان نهى عن زيارة القبور ، ثم أمر بزيارتها . رواه الحاكم وقال الذهبي : صحيح .
وفي الصحيحين عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بامرأة عند قبر تبكي على صبي لها ، فقال لها : ” اتقي الله ، واصبري ” ، فقالت : وما تبالي بمصيبتي . فلما ذهب قيل لها : إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذها مثل الموت ، فأتت بابه ، فلم تجد على بابه بوابين ، فقالت : يا رسول الله ، لم أعرفك . فقال : ” إنما الصبر عند الصدمة الأولى . ” ووجهة الاستدلال أن الرسول صلى الله عليه وسلم رآها عند القبر فلم ينكر عليها ذلك .
ولأن الزيارة من أجل التذكير بالآخرة ، وهو أمر يشترك فيه الرجال والنساء ، وليس الرجال بأحوج إليه منهن .
القول الثاني : مذْهَبُ الْشافعية والحنابلة كراهة زيارة النساء للقبور لقلة صبرهن وكثرة جزعهن ، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لعن الله زوارات القبور “
الترجيح :
قال القرطبي : اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة ، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج ، وما ينشأ من الصياح ، ونحو ذلك ، وقد يقال : إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لهن ، لان تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء .
قال الشوكاني – تعليقا على كلام القرطبي – : وهذا الكلام هو الذي ينبغي اعتماده في الجمع بين أحاديث الباب المتعارضة في الظاهر .
خلع النعال في المقابر:
ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا بأس بالمشي في المقابر بالنعال ،روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم ” وقد استدل العلماء بهذا الحديث على جواز المشي في المقابر بالنعل : إذ لا يسمع قرع النعل إلا إذا مشوا بها .
وكره الإمام أحمد المشي بالنعال السبتية في المقابر ، لما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة عن بشير مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى رجل يمشي في القبور عليه نعلان . فقال : ” يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك ” فنظر الرجل ، فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلعهما فرمى بهما . السبتية : أي النعال من جلد.
قال الخطابي : يشبه أن يكون إنما كره ذلك لما فيه من الخيلاء ، وذلك أن نعال السبت من لباس أهل الترفه والتنعم .
ثم قال : فأحب صلى الله عليه وسلم أن يكون دخوله المقابر على زي التواضع ولباس أهل الخشوع، والكراهة عند أحمد عند عدم العذر .
فإذا كان هناك عذر يمنع الماشي من الخلع كالشوكة أو النجاسة انتفت الكراهة .
النهي عن الجلوس على القبر والاستناد إليه والمشي عليه :
لا يحل القعود على القبر ولا الاستناد إليه ، ولا المشي عليه ، لما رواه عمرو بن حزم قال : رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على قبر . فقال : ” لا تؤذ صاحب هذا القبر . ” أو ” لا تؤذه ” ، رواه أحمد بإسناد صحيح .
وعن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لان يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر . ” رواه أحمد ، ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه .
والقول بالحرمة مذهب ابن حزم ، لما ورد فيه من الوعيد ، قال : وهو قول جماعة من السلف ، منهم أبو هريرة .
ومذهب الجمهور : أن ذلك مكروه .
قال النووي : عبارة الشافعي في الأم ، وجمهور الإصحاب في الطرق كلها : أنه يكره الجلوس ، وأرادوا به كراهة التنزيه ، كما هو المشهور في استعمال الفقهاء ، وصرح به كثير منهم ، قال : وبه قال جمهور العلماء منهم النخعي والليث وأحمد وداود ، قال : ومثله في الكراهة الاتكاء عليه والاستناد إليه .
وذهب ابن عمر من الصحابة وأبو حنيفة ومالك إلى جواز القعود على القبر .
قال في الموطأ : إنما نهى عن القعود على القبور فيما نرى ” نظن ” للذاهب يقصد لقضاء حاجة الإنسان من البول أو الغائط .
وذكر في ذلك حديثا ضعيفا ، وضعف أحمد هذا التأويل ، وقال : ليس هذا بشئ .
وقال النووي : هذا تأويل ضعيف أو باطل ، وأبطله كذلك ابن حزم من عدة وجوه .
وهذا الخلاف في غير الجلوس لقضاء الحاجة ، فأما إذا كان الجلوس لها ، فقد اتفق الفقهاء على حرمته ، كما اتفقوا على جواز المشي على القبور إذا كان هناك ضرورة تدعو إليه ، كما إذا لم يصل إلى قبر ميته إلا بذلك .
ما حكم وضع الزهور أو الجريد على القبور ؟
لا يشرع وضع الجريد ولا الزهور فوق القبر ، وأما ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال : ” إنهما يعذبان ، وما يعذبان في كبير ، أما هذا فكان لا يستنزه من البول ، وأما هذا فكان يمشي بالنميمة ، ثم دعا بعسيب رطب فشقه باثنين ، ثم غرس على هذا واحدا ، وعلى هذا واحدا ، وقال : ” لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ” فقد أجاب عنه الخطابي بقوله : وأما غرسه شق العسيب على القبر ، وقوله : ” لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ” فإنه من ناحية التبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالتخفيف عنهما ، وكأنه صلى الله عليه وسلم جعل مدة بقاء النداوة فيهما حدا لما وقعت به المسألة من تخفيف العذاب عنهما ، وليس ذلك من أجل أن في الجريد الرطب معنى ليس في اليابس ، والعامة في كثير من البلدان تفرش الخوص في قبور موتاهم ، وأراهم ذهبوا إلى هذا وليس لما تعاطوه وجه .
وما قاله الخطابي صحيح ، وهذا هو الذي فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه وضع جريدا ولا أزهارا على قبر سوى بريدة الأسلمي ، فإنه أوصى أن يجعل في قبره جريدتان . رواه البخاري .
ويبعد أن يكون وضع الجريد مشروعا ويخفى على جميع الصحابة ما عدا بريدة، قال الحافظ في الفتح : وكأن بريدة حمل الحديث على عمومه ، ولم يره خاصا بذينك الرجلين .
قال ابن رشيد : ويظهر من تصرف البخاري أن ذلك خاص بهما ، فلذلك عقبه بقول ابن عمر حين رأى فسطاطا على قبر عبد الرحمن : انزعه يا غلام فإنما يظله عمله .
وفي كلام ابن عمر ما يشعر بأنه لا تأثير لما يوضع على القبر ، بل التأثير للعمل الصالح .
هل الميت يأنس بزيارة أهله له ؟
عالم البرزخ من عالم الغيب الذي لا سبيل إلى العلم بتفاصيله إلا من جهة الخبر الصادق : الكتاب والسنة الصحيحة ، وقد جاء فيهما كثير من التفاصيل التي تتحدث عن ما يواجهه الإنسان بعد الموت ، ومن التفاصيل التي وردت في ذلك : أن الميت يتعرف إلى من يزوره من الأحياء إذا كان يعرفهم في الدنيا ، روى ذلك ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي الله صلى الله عليه وسلم : ما من أحد مر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا ، فسلم عليه ، إلا عرفه ورد عليه السلام ) الحديث صححه ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (24/173) ، والعراقي في تخريج “إحياء علوم الدين”
ومما يقوي هذا الحديث أيضا الآثار المتكاثرة الواردة عن السلف في هذا الباب ، حتى قال ابن القيم رحمه الله : ” والسلف مجمعون على هذا ، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف زيارة الحي له ويستبشر به ” انتهى. “الروح” (ص/5)
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه : الروح تشرف على القبر ، وتعاد إلى اللحد أحيانا ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ) ، والميت قد يعرف من يزوره ، ولهذا كانت السنة أن يقال : ( السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ) ” انتهى. “مجموع الفتاوى” (24/303-304)
وأما قوله تعالى: (وما أنت بمسمع من في القبور) أي لا يسمعون سمع إستجابة، فالأموات لا يستجيبون لك، وهذا خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام في دعوته للكفار إلى الإسلام، فإنهم لا يستجيبون لك وإن سمعوك بآذانهم، كمالا يستجيب لك الموتى في قبورهم، فالكفار كالموتى (لو سمعوا ما استجابوا) قال الله تعالى: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعائكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم). وذلك أن الكفار كانوا يصورون صوراً وأصناماً تمثل الأموات فيدعونها، فبين الله تعالى أن هذه الأصنام لا تسمع، وعلى سبيل الجدل، لو سمعت لما استجابت، كما لو دعوتم أصحابها عند قبورهم لا يستجيبون لكم وإن سمعوكم.
هل يجوز مخاطبة الميت بما حصل بعد وفاته؟
ليس من هدي النبي عليه الصلاة والسلام ولا الصحابة رضي الله عنهم مخاطبة الميت بالشكوى إليه وإخباره بما حصل من الأحداث في أهله فهذه من البدع، وهي من اللغو في حال الحياة يتأذى منه السامع بالرغم من قدرته على التصرف والعمل إذ لا فائدة منها، فكيف بالميت الذي لا يستطيع أن يعمل وهو مشغول عنهم بما هو فيه إما بنعيم أو بجحيم أعاذنا الله منها .
هل يستحب تحديد أيام للزيارة كيوم الجمعة ؟
تخصيص الزيارة بيوم الجمعة لم تثبت بدليل صحيح ، بل الزيارة في أي يوم وفي أي ساعة بلا تخصيص .
حكم زيارة القبور بعد صلاة العيد :
شرَع الله لنا العيدين؛ لكي نفرح ونبتعد عن الأحزان، ولذا فإنَّ قيام كثير من المسلمين – عقب صلاة العيدين – بزيارة المقابر وتجديد الأحزان، عملٌ مخالفٌ لسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يبلِّغ عن ربه سبحانه، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج مع الصحابة إلى الصحراء لصلاة العيد، وكان يَذهب من طريق ويرجع من أخرى، ولم يَثبت أنه زار قبرًا في ذَهابه أو إيابه، مع وقوع المقابر في طريقه، بل قال صلى الله عليه وسلم في عيد الأضحى: (إن أول ما نبدأ من يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمَن فعل فقد أصاب سُنتَنا) رواه البخاري