هل الأعمال الصالحة تكفر الكبائر؟
هذه مسألة مهمة والبحث فيها واسع، وقد اتفق الفقهاء على أن صغائر الذنوب تكفر بالصلوات الخمس والصوم والحج وأداء الفرائض وأعمال البر، وهذا كله قبل الموت، فإن مات صاحب الكبيرة فمصيره إلى الله، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، فإن عذبه فبجرمه، وإن عفا عنه فهو أهل العفو وأهل المغفرة، وإن تاب قبل الموت وقبل حضوره ومعاينته وندم واعتقد أن لا يعود واستغفر ووجل كان كمن لم يذنب، وبهذا كله الآثار الصحاح عن السلف قد جاءت وعليه جماعة علماء المسلمين.
ثم اختلف أهل العلم هل الأعمال الصالحة تكفر كبائر الذنوب التي لم يتب صاحبها منها؟
وذلك على ثلاثة أقوال كالآتي:
القول الأول: الأعمال الصالحة تكفر صغائر الذنوب، وأما الكبائر فلا تُكَفَّر بمجرد فعل الأعمال الصالحة، بل لا بد من التوبة بشروطها حتى تُكَفَّر، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم.
واستدلوا بالآتي:
1 – في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر »، فهذا الحديث واضح الدلالة على أن الكبائر لا تكفرها هذه الفرائض بل لابد من توبة نصوح.
2 – عن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله ».
قال قتادة: “إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا الكبائر وسددوا وأبشروا ».
وقال القاضي عياض: هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة هو مذهب أهل السنة وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله والله أعلم.
وقال ابن العربي: “الخطايا المحكوم بمغفرتها هي الصغائر دون الكبائر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” ما اجتنبت الكبائر”
3 – إن الله أمر العباد بالتوبة، وجعل من لم يتب ظالماً، واتفقت الأمة على أن التوبة فرض، والفرائض لا تؤدى إلا بنية وقصد، ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء والصلاة وأداء بقية أركان الإسلام، لم يحتج إلى التوبة، وهذا باطل بالإجماع، فثبت أن الكبائر لا بد لها من التوبة. جامع العلوم والحكم ص214 – 215.
4 – يخشى أن يغتر بهذا القول جاهل فينهمك في الموبقات اتكالاً على أنها تكفرها الصلوات دون الندم والاستغفار والتوبة.
القول الثاني: الأعمال الصالحة تكفر الذنوب مطلقاً الصغائر والكبائر، وهو قول ابن المنذر وابن حزم، وجماعة من أهل العلم المتقدمين، ومن المتأخرين قال به الشيخ الألباني .
واستدلوا بالآتي:
1 – قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ قال الشوكاني: “إن الحسنات يذهبن السيئات، أي إن الحسنات على العموم ومن جملتها بل عمادها الصلاة يذهبن السيئات على العموم، وقيل المراد بالسيئات الصغائر، ومعنى يذهبن السيئات يكفرنها حتى كأنها لم تكن”. تفسير فتح القدير 2/ 532.
وحمل الجمهور هذا المطلق على المقيد في الحديث الصحيح: « إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر »، فقال طائفة: إن اجتنبت الكبائر كانت الحسنات كفارة لما عدا الكبائر من الذنوب وإن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئاً. فتح الباري 8/ 453.
2 – عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً ما تقول ذلك يبقي من درنه؟ قالوا: لا يبقي من درنه شيئاً. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا».
قال الشيخ الألباني: ” هذا الحصر ينافي الاستفهام التقريري في الحديث الذي قبله «هل يبقى من درنه شيء؟ » كما هو ظاهر، فإنه لا يمكن تفسيره على أن المراد به الدرن الصغير فلا يبقى منه شيء وأما الدرن الكبير فيبقى كله كما هو! فإن تفسير الحديث بهذا ضرب له في الصدر كما لا يخفى. فالذي يبدو لي والله أعلم أن الله تعالى زاد في تفضله على عباده فوعد المصلين منهم بأن يغفر لهم الذنوب جميعاً وفيها الكبائر بعد أن كانت المغفرة خاصة بالصغائر ولعله مما يؤيد هذا قوله تعالى:﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾[سورة النساء الآية 31.] فإذا كانت الصغائر تكفر بمجرد اجتناب الكبائر فالفضل الإلهي يقتضي أن تكون للصلاة وغيرها من العبادات فضيلة أخرى تتميز بها على فضيلة اجتناب الكبائر ولا يبدو أن ذلك يكون إلا بأن تكفر الكبائر والله تعالى أعلم؛ ولكن ينبغي على المصلين أن لا يغتروا فإن الفضيلة المذكورة لا شك أنه لا يستحقها إلا من أقام الصلاة وأتمها وأحسن أدائها “صحيح الترغيب والترهيب ص140 – 141.
القول الثالث: الحسنات الكبيرة التي قوي فيها الإخلاص قد تكفر الكبائر، ولكن ليس ذلك بالأمر اللازم المطرد، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم ، والحافظ ابن حجر العسقلاني.
واستدلوا بالآتي:
1 – قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾.[سورة المائدة الآية رقم (27).] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “إنه لا يجوز أن يراد بالآية إن الله لا يقبل العمل إلا ممن يتقي الذنوب كلها، لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقياً، فإن كان قبول العمل مشروطاً بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع قبول التوبة. بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة وهو حين شروعه في التوبة منتقل من الشر إلى الخير لم يخلص من الذنب بل هو متق في حال تخلصه منه، وأيضاً فلو أتى الإنسان بأعمال البر وهو مصر على كبيرة ثم تاب لوجب أن تسقط سيئاته بالتوبة وتقبل منه تلك الحسنات وهو حين أتى بها كان فاسقاً، وأيضاً فالكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم من قتل وغصب وقذف وكذلك الذمي إذا أسلم قبل إسلامه مع بقاء مظالم العباد عليه، فلو كان العمل لا يقبل إلا ممن لا كبيرة عليه لم يصح إسلام الذمي حتى يتوب من الفواحش والمظالم، بل يكون مع إسلامه مخلداً وقد كان الناس مسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم ذنوب معروفة وعليهم تبعات فيقبل إسلامهم ويتوبون إلى الله سبحانه من التبعات، ولا نعرف أحداً من المسلمين جاءه ذمي يسلم فقال له لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب وكذلك سائر أعمال البر من الصلاة والزكاة “.راجع: كتاب الإيمان الأوسط لابن تيمية ص23، مجموع فتاوى ابن تيمية (7/ 489 – 491).
2 – عن بلال بن يسار بن زيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال حدثني أبي عن جدي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول «من قال أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فر من الزحف » صححه الألباني في صحيح أبي داود
3 – عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أتاني آت من ربي، فأخبرني أو قال: بشرني أنه: من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ” قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق ». متفق عليه.
فجاء التصريح في كثير من الأحاديث بأن المغفرة قد تكون مع الكبائر.
4 – عن أبي أمامة، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ونحن قعود معه، إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً، فأقمه علي، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً، فأقمه علي، فسكت عنه، وأقيمت الصلاة، فلما انصرف نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: أبو أمامة: فاتبع الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف، واتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ما يرد على الرجل، فلحق الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً، فأقمه علي، قال أبو أمامة: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيت حين خرجت من بيتك، أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء؟» قال: بلى، يا رسول الله قال: «ثم شهدت الصلاة معنا » فقال: نعم، يا رسول الله قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فإن الله قد غفر لك حدك أو قال: ذنبك ».أخرجه مسلم في كتاب التوبة
فالله عز وجل أطلع نبيه على أن هذا الرجل قد غفر الله له كبيرته بسبب صلاته، وذلك لا يعني أن كل الكبائر من أي مرتكب لها تكفرها صلاتهم مع جماعة المسلمين، وإنما يمكن أن يقع ذلك لبعض العاصين غير هذا الرجل الوارد في الحديث.قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ” يحتمل أن يختص ذلك بالمذكور، لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد كفر عنه حده بصلاته، فإن ذلك لا يعرف إلا بطريق الوحي، فلا يستمر الحكم في غيره إلا في من علم أنه مثله في ذلك، وقد انقطع علم ذلك بانقطاع الوحي بعد النبي صلى الله عليه وسلم ” انتهى من ” فتح الباري ” 12/ 134.
وفي كلام ابن القيم رحمه الله ما يشير إلى أن الرجل إنما غفر الله له بسبب توبته الصادقة، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاته مع جماعة المسلمين كانت سبب مغفرة ذنبه لأنه صدق التوبة مع الله، وليس بسبب الصلاة المجردة.
قال ابن القيم رحمه الله: ” قالت طائفة: بل غفر الله له بتوبته، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وعلى هذا فمن تاب من الذنب قبل القدرة عليه سقطت عنه حقوق الله تعالى كما تسقط عن المحارب، وهذا هو الصواب ” إعلام الموقعين 4/ 281 – 282.
5 – عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها فغفر لها »، وفي رواية: « إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها، فاستقت له به، فسقته إياه، فغفر لها به » متفق عليه.
قال ابن تيمية: ” فلا يقال في كل بغى سقت كلباً غفر لها، لأن هذه البغي قد حصل لها من الصدق والإخلاص والرحمة بخلق الله ما عادل إثم البغى وزاد عليه ما أوجب المغفرة، والمغفرة تحصل بما يحصل في القلب من الإيمان الذي يعلم الله وحده مقداره وصفته وهذا يفتح باب العمل ويجتهد به العبد أن يأتي بهذه الأعمال وأمثالها من موجبات الرحمة وعزائم المغفرة ويكون مع ذلك بين الخوف والرجاء “مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية، ص261.
ثم يقول ” كذلك هذا الذي نحى غصن الشوك عن الطريق فعله إذ ذاك بإيمان خالص وإخلاص قائم بقلبه فغفر له بذلك، فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض وليس كل من نحى غصن شوك عن الطريق يغفر له، قال الله تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [سورة الحج الآية رقم (37).]، فإذا عرف أن الأعمال الظاهرة يعظم قدرها ويصغر قدرها بما في القلوب وما في القلوب يتفاضل لا يعرف مقادير ما في القلوب من الإيمان إلا الله عرف الإنسان أن ما قاله الرسول كله حق ولم يضرب بعضه ببعض “منهاج السنة النبوية لا بن تيمية 6/ 135.