وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم الشيخ محمد إسماعيل المقدم
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي؛ فإنها أعظم المصائب). هذا الحديث رواه ابن سعد و الترمذي مرسلاً، ورواه أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً، وله شواهد، منها: عند ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً بينه وبين الناس في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم، فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر ، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم، ورجا أن يخلفه الله فيهم، فقال: يا أيها الناس! أيما أحد من الناس -أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي).
فمقتضى هذا المعنى أن المصاب بموت النبي صلى الله عليه وسلم هو أعظم مصيبة مرت على المسلمين؛ لأن بموته انقطع الوحي والرسالة، فيرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الإنسان إذا أصيب في أي شيء من فقد عزيز عليه بموت أو غيره فإنه يتعزى بالمصاب الأكبر الذي أصاب الأمة، ألا وهو موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول صلى الله عليه وسلم: ( فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي ).
وقال بعضهم:
اصبر لكل مصيبة وتجلد
واعلم بأن المرء غير مخلد
فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها
فاذكر مصابك بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم.)
وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه السورة: (إنه قد نعيت إلي نفسي) يعني أن الله عز وجل يخبره بأنه قد اقترب أجله صلى الله عليه وآله وسلم. يقول بعض الصحابة: (فكان بعد نزول هذه السورة يفعل فعل مودع، وامتثل أمر الله عز وجل: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ[النصر:3]، فما كان يصلي بعد نزول هذه السورة صلاة إلا دعا فيها في الركوع والسجود: سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، اللهم! اغفر لي. يتأول القرآن).
فهذه السورة -كما ذكرنا- كانت توطئةً وإرهاصاً بين يدي ذلك المصاب الجلل، وهو أول قاصمة أصيبت بها الأمة الإسلامية، وهي موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وسنعيد تذكر الأيام الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فما أن عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بعد حجة الوداع حتى أمر المسلمين بالتهيؤ لغزو الروم، واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم لإمرة هذا الغزو أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان أسامة رضي الله عنه شاباً حدثاً، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إلى موضع مقتل أبيه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وأن يوطِئ الخيل أرض البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وذلك مع بدء شكواه ومرضه الذي توفي فيه، فانتهز المنافقون هذه الفرصة وقالوا: أمرّ النبي صلى الله عليه وسلم حدثاً على جلة المهاجرين والأنصار. فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام الذي أثاره المنافقون والمرجفون عصب رأسه الشريف وخرج إلى الناس وخطب فيهم قائلاً: (إن تطعنوا في إمارة أسامة بن زيد فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله إن كان لخليقاً بها -يعني أن أباه زيد بن حارثة كان خليقاً بالإمارة- وايم الله إن هذا لها لخليق -يعني: أن أسامة بن زيد رضي الله عنه جدير بالإمارة- وايم الله إن كان لأحبهم إلي من بعده، فأوصيكم به فإنه من صالحيكم)
فتجهز الناس وأوعب مع أسامة المهاجرين والأنصار، وخرج أسامة بن زيد بالجيش إلى ظاهر المدينة فعسكر بالجرف، وهو مكان قريب من المدينة، فلما تجهز المسلمون للخروج لغزو الروم اشتدت برسول الله صلى الله عليه وسلم علته التي قبضه الله فيها، فأقام الجيش هناك ينتظر ما الله قاض في هذا الأمر. ……
أحداث في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم:
وكان بدء شكواه ما رواه ابن إسحاق و ابن سعد عن أبي مويهبة -وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فقال: يا أبا مويهبة قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي، فانطلقت معه، فلما وقفنا عليهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنأ لكم، لا أصبحتم فيما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن مثل قطع الليل المظلم يتبع آخرها أولاها، الآخرة شر من الأولى، ثم أقبل عليّ، فقال: إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد فيها فخيرت بين أن أمتلك مفاتيح خزائن الأرض والخلود في هذه الأرض والجنة وبين لقاء ربي والجنة. فقلت: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا وتخلد فيها ثم الجنة! قال: لا -والله- يا أبا مويهبة، قد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف).
فابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي قبض فيه، وكان أول وجعه صداعاً شديداً في رأسه، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من البقيع استقبلته وهي تقول: وارأساه -كانت رضي الله عنها تشتكي رأسها- فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا -والله- يا عائشة وارأساه)، وكان بدء مرضه ذلك في أواخر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة، وكانت عائشة رضي الله عنها ترقيه خلال ذلك بمعوذات من القرآن.
روى البخاري و مسلم عن عروة رضي الله عنه أن عائشة رضي الله عنها أخبرته (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات) وهذا دليل من أدلة مشروعية الرقية.
والفرق بين الرقية والدعاء أن الرقية يكون فيها نفث في اليد ومسح على الجسد، تقول رضي الله عنها: (فكان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه لم يطق صلى الله عليه وسلم ذلك، فطفقت أنفث على نفسه بالمعوذات وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه)
فشعرت نساؤه صلى الله عليه وسلم برغبته في أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها لما يعلمن من محبته لها وارتياحه إليها، فأذنَّ له في ذلك، فخرج إلى بيتها من عند ميمونة يتوكأ على الفضل بن العباس و علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وفي بيت عائشة رضي الله عنها اشتد به وجعه، وكان قد شعر بقلق أصحابه وحزنهم عليه فقال: (أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس) وهذا يشبه الكمادات بالماء البارد حتى تخف الحمى فيستطيع أن ينهض إلى الناس ويعهد إليهم ويوصيهم.
قالت عائشة رضي الله عنها: (فأجلسناه في مخضب ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن: قد فعلتن. ثم خرج صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه فجلس على المنبر، فكان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم، ثم قال: عبد خيره الله بين أن يأتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر رضي الله عنه؛ لأنه علم ما يقصده النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وناداه قائلاً: فديناك بآبائنا وأمهاتنا.
فقال صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا أبا بكر ، ثم قال: أيها الناس! إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام)
لأن مرتبة الخلة لا تنبغي إلا لله سبحانه وتعالى، ولأن الخلة أعلى درجات المحبة، كما قال: الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح مني وبها تمنى الخليل خليلاً
أي: بلغت المحبة إلى حيث تبلغ الروح في جسد الإنسان، فهذه المرتبة من المحبة لا تليق إلا بالله سبحانه وتعالى، ولو كانت جائزة لكان أولى الناس بها أبا بكر رضي الله عنه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر) والخوخة هي باب صغير بين البيتين، فأمر بسد كل باب يؤدي إلى المسجد ما عدا الباب الذي يؤدي إلى بيت أبي بكر، ثم قال: (وإني فرط لكم -يعني: أنا أسبقكم إلى الله سبحانه وتعالى- وأنا شهيد عليكم، وإني -والله- لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني -والله- ما أخاف أن تشركوا من بعدي، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها)
وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته ثم اشتد به وجعه وثقل عليه مرضه، تقول عائشة رضي الله عنها: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، وهذا رواه البخاري و مسلم واللفظ لـمسلم .
قوله: (ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ) هذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة أبي بكر ، وأنه أولى الصحابة بالإمامة، ثم تلا ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض قال لرجال كانوا في البيت: هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا كتاباً يكتب لكم، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا) رواه البخاري .
إذاً: الخلاف والمجادلة يرفعان البركة دائماً، فلما رآهم اختلفوا أمرهم بأن يقوموا وأن ينصرفوا، وكذلك لما تخاصم رجلان وقد علم من الوحي بتعيين ليلة القدر، فلما تخاصم هذان الرجلان رفع علم ليلة القدر، فبسبب الجدل والاختلاف والتنازع ترفع البركة وتمحق. ……
شدة مرضه صلى الله عليه وسلم وصبره على ذلك:
كان عليه الصلاة والسلام بين يديه ركوة فيها ماءٍ، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) فمن السنة إذا احتضر الميت أن يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأن يقول مثل ما يقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات) فيجعل آخر كلامه (لا إله إلا الله).
وكانت فاطمة رضي الله عنها إذا رأت منه ذلك قالت: (وا كرب أباه)، فيقول لها صلى الله عليه وسلم: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم)، قالت عائشة رضي الله عنها: (إن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، فقد دخل عليّ عبد الرحمن وبيده سواك وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن: نعم. فناولته فاشتد عليه، فقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن: نعم. قالت: فلينته) أي: لينته بريقها.
(فكان بين يديه ركوة، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، ثم رفع يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى. حتى قبض ومالت يده صلى الله عليه وسلم).
أمره صلى الله عليه وسلم لأبي بكر بالصلاة بالناس في مرض وفاته
ولم يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق الخروج إلى الصلاة مع الناس، فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف -تعني: رجل رقيق القلب- وأنه إذا قام مقامك لم يكد يسمع الناس من شدة بكائه، فقال: إنكن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس) فـعائشة رضي الله عنها، خشيت أن يتشاءم الناس من أبيها، فتعللت بشيء ليس هو العلة التي في نفسها، فمن أجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس ) فكان أبو بكر هو الذي يصلي بالناس بعد ذلك، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة وقد شعر بخفة فأتى وأبو بكر قائم يصلي بالناس، فاستأخر أبو بكر لما أحس بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك في الصلاة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر ، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر رضي الله عنه، واستبشر الناس خيراً لخروجه صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، ولكن البرحاء اشتدت عليه، وكان ذلك آخر مرة يصلي فيها مع الناس.
موته صلى الله عليه وسلم لأصحابه
دخل فجر يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من العام الحادي عشر من الهجرة، وبينما الناس في المسجد يصلون خلف أبي بكر رضي الله عنه إذا بالستر المضروب على حجرة عائشة قد كشف، وبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبه إلى الصف، فقد ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يصلي، ولكن كان يلقي عليهم هذه النظرة الأخيرة ليطمئن على أصحابه، فهمَّ المسلمون حينئذ أن يفتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار بيده أن: أتموا صلاتكم.
ثم دخل الحجرة وأرخى الستر، وانصرف الناس من صلاتهم وهم يحسبون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد برئ من مرضه، ولكن تبين أنها كانت نظرة وداع منه صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فقد عاد صلى الله عليه وسلم فاضطجع إلى حجر عائشة رضي الله عنها وأسندت رضي الله عنها رأسه إلى صدرها، وجعلت تتغشاه سكرة الموت. وفي بعض الأحاديث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام نطق بوصيتين في آخر لحظة من حياته حيث قال: (الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم) فكانت هذه وصيته الأخيرة لأصحابه وأمته صلى الله عليه وسلم.
موقف أبي بكر والصحابة من وفاته صلى الله عليه وسلم
لقد انتشر خبر وفاته صلى الله عليه وسلم في الناس، وأقبل أبو بكر رضي الله عنه على فرس من عوالي المدينة، فقد كان له منزل في ذلك المكان، ذهب وهو على أمل أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد شفي من مرضه، فأتى فدخل المسجد ولم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها ورسول الله صلى الله عليه وسلم مغطى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: (بأبي أنت وأمي لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها)
ثم خرج رضي الله عنه و عمر يكلم الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه، وهنا يظهر مقام أبي بكر وثباته وصموده أمام هذه المحنة الشديدة، وهكذا ينبغي أن يكون المسلمون على بصيرة وعلى فطنة في تلقي مثل هذه المصائب الكبيرة.
أقبل أبو بكر يقول له: على رسلك يا عمر ، أنصت، ولكنه استمر في كلامه.
فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس فأقبلوا إليه وتركوا عمر ، فقال أبو بكر : أما بعد: أيها الناس! من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ) [آل عمران:144]
فكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فتلقاها منه الناس كلهم، فما سمعها بشر من الناس إلا وأخذ يتلوها، قال عمر رضي الله عنه: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت -أي: كأنه قطعت ساقاه- لا تحملني رجلاي، فأهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات.
هكذا توفي النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة وستين عاماً من العمر، قضى أربعين منها قبل البعثة، وثلاثة عشر عاماً يدعو إلى الله في مكة، وعشر سنين قضاها في المدينة بعد الهجرة، وكانت وفاته في أول العام الحادي عشر للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة و أتم التسليم.
روى البخاري عن عمرو بن الحارث قال: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة، إلا بلغته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة)، فهذه قصة وداع النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الدنيا وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.