شمس محمد تسطع على العالم
خطبة لفضيلة الشيخ “محمد الغزالي” بمسجد عمرو بن العاص
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريكَ له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فإن حاجة العالم إلى الرسل حاجة ملحة، ما يستطيع الناس أن يستغنوا بعقولهم عن هدايات السماء.
وفي عصرنا هذا تقدم العلم، وارتقى الفكر، ونضج العقل البشري، ووصل إلى آفاق رفيعة، ومع ذلك فإن الخلاف بين أولئك العقلاء عميق وواسع، وما يعتبر فضيلة في شرق العالم، يعتبر رذيلة في غرب العالم!!!
فإن كان العقل البشري المجرد تتفاوت أحكامه على هذا النحو في المعاملات المعتادة، وفي تقدير ما هو حق وباطل.. فكيف يعتمد عليه، أو يوثق به وحده؟!
لا بد للناس من رسل موفدين من قِبَل الله- جل شأنه-، يشرحون للناس الحق، ويلهمونهم ارشد، ويقودونهم إلى الصراط المستقيم.
والله- عز وجل – رحمةً منه بخلقه بعثَ رسلاً كثيرين إلى الناس.. بعض أولئك الرسل عرفنا أسماءهم، وبعض كثير لم نعرف أسماءهم، ولكن أولئك الرسل ظهروا في تاريخ الإنسانية الماضي كما تظهر النجوم في جوانب الليل الضارب.. هذه النجوم ترسل أشعتها الهاديةº ليستطيع الناس السرى، وليضعوا خطواتهم في مواقع آمنة.
كان أولئك المرسلون الأولون يضيئون جوانب التاريخ البشري بمصابيح خافتة، تشع بقدر ما أوتيت من فضل الله وإمداده، حتى طلعت شمس محمد- صلى الله عليه وسلم – على العالم، فكان النهار الذي أغنى عن كل مصباح، وأطفأَ كل شعلة!!.
وكما قال شوقي:
لا تذكر الكتب السوالف قبله *** طلع الصباح فأطفئ القنديلا
كان محمد- عليه الصلاة والسلام – الرسول الذي طلع صبحُه على الكون فأنار به، وأوضح ما كان مُبهمًا أو غامضًا في أرجائه!!، كل الرسالات التي سبقت الرسالة الأخيرة كانت رسالات محلية ومؤقتة، فلأولئك المرسلين أماكن معينة يعملون داخل نطاقها، ولرسالتهم أعمار محددة تنتهي بعدها، ولا توجد رسالة تشمل الزمان كله إلا رسالة محمد- عليه الصلاة والسلام -.
فإن هذا الإنسان الجليل هو الذي وضعه ربه في محراب الإمامة العامة لخلق الله في كل عصر وفي كل مصر، وأغنى برسالته عن أن يجيء بعده أحد!!
وكان الله قادرًا على أن يبعث في كل بلد نبيًا، ولكنه اكتفى برسول واحد للناس كافة: {وَلَو شِئنَا لَبَعَثنَا فِي كُلِّ قَريَةٍ نَذِيرًا} (الفرقان: 51).
لو شئنا.. لكنه جل شأنه غلق أبواب السموات فما ينزل ملك بوحي بعد الرسالة الخاتمة لأنه لن يقول جديدًا!! ماذا يصنع الوحي الجديد؟ لقد انتهت الهدايات كلها في هذا القرآن الكريم، وأودعت في صحائفه جميع الأشفية والأدوية التي تصح بها الإنسانية ما بقيت الأرض ومَن عليها، فلا حاجةَ إلى جديد بعد ذلك.
الرسالة الأخيرة رسالة عامة، وعموم الرسالة الإسلامية جاءت به آيات وسنن، ومن الملاحظات الجديرة بالذكر أن كل ما نزل يفيد عموم الرسالة كان في العهد المكيّ.
وربما تسأل بعض الناس: وما دلالة أن تكون بعض الآيات الدالة على عموم الرسالة في العهد المكي؟
والجواب: أن العهد المكي كان عهد اختناق الدعوة وعهد سجن مَن يؤمن بها، واضطهاده، ومنعه من الحركة والتنقل.. في هذا العهد الذي كان الإسلام يُعاني فيه من جبروت الوثنيين وضغطهم- البلاء الشديد، كان القرآن يتنزل بأن هذه الرسالة ليست لقطر بعينه، ولكنها لأقطار الخلق جميعًا.
ولو أن عموم الرسالة تنزلت به آيات في العهد المدني أو في أواخر أيام الرسالة لقال الناس: نبي نجح في أن يفرض نفسه على الجزيرة العربية، فأغراه النصر على قومه بأن ينتصر على الآخرين، وأن يوسع دائرة التبليغ بعد أن ضمن الجنس الذي أرسل فيه.
لكن العجب أن عالمية الدعوة تأكدت في سورٍ, مكيةٍ,، ففي سورة القلم وهي مكية، نقرأ قوله – تعالى -: “وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزلِقُونَكَ بِأَبصَارِهِم لَمَّا سَمِعُوا الذِّكرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجنُونٌ، وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكرٌ لِلعَالَمِين” (القلم: 52، 51).
ومعنى قوله: “ليزلقونك”.. أنهم يكادون- لفرط ما يخرج من غضب عيونهم- يكادون يزلون قدمك ويسقطونك!! هذا معنى الانزلاق.. “وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكرٌ لِلعَالَمِينَ” (القلم: 52)، وفي سورة الأنبياء، وهي مكية “وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ رَحمَةً لِلعَالَمِينَ” (الأنبياء: 107)، وفي سورة الفرقان، وهي مكية: “تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرقَانَ عَلَى عَبدِهِ لِيَكُونَ لِلعَالَمِينَ نَذِيرًا” (الفرقان: 1)، وفي سورة سبأ، وهي مكية: “وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ” (سبأ: 28)، وفي سورة الأنعام، وهي مكية تقرأ قوله – تعالى -، بعد أن ذكر ثمانية عشر نبيًا أحصى أسماءهم، وتحدث عن مناقبهم، قال: “أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقتَدِه قُل لا أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِن هُوَ إِلاَّ ذِكرَى لِلعَالَمِينَ” (الأنعام: 90)، وفي هذه السورة نفسها: “وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغ” (الأنعام: 19)º أي كل مَن بلغته آيات القرآن فهو منذَر به، مكلَّف أن يفكر فيه، وأن يتأمل وأن يتدبر آياته، وأن ينتفع بها.. هذا العموم للرسالة اقتضى أمورًا حتى يصح، أول ما اقتضاه: أن تكون المعجزات الشاهدة بصدق المبلغ عن الله ليست معجزات محلية، بل معجزات دائمة متجددة على مرِّ العصور، والواقع أن القرآن الكريم، وهو المعجزة الكبرى للنبي- عليه الصلاة والسلام – لا يزال إلى يوم الناس هذا، وإلى الغد القريب والبعيد، وإلى امتداد الحضارة البشرية على ظهر الأرض، لا يزال القرآن الكتاب الفذٌّ الذي يتحدث عن الله الحديث الصادق المقنع، والذي يشهد بما فيه من معارف، وتاريخ، ووصف للكون، وتأثير في النفس، وإعجاز في البيان، لا يزال هذا الكتاب معجزةَ العصور التي تتجدد مع تجدد الليل والنهار!!
يتبع هذا أن يكون الرسول الخاتم- عليه الصلاة والسلام – قد زود بما ينفع البشرية على امتداد تاريخها، وإلا قيل: لماذا تقيد البشرية بتفكير مضى عليه أربعة عشر قرنًا؟
وهذا كلام يقوله الناس الذين يعرقلون مسيرة الإسلام، ويرسلون شبهات تافهة حوله، والوقع أن القول بأن تبعية الناس لمحمد- عليه الصلاة والسلام -، واستمدادهم منه عودٌ إلى الماضي، ولون من الرجعية، ووقف للتطور الإنساني…، هذا القول من ناحية الشكل مردود، ومن ناحية الموضوع لابد أن نناقشهº حتى نبين لِمَ كان الإسلام رسالة خالدة؟
من ناحية الشكل مردود لأن الإسلام أحدث الرسالات السماوية الموجودة الآن، فإن الإسلام مضت على نبوته أربعة عشر قرنًا، بينما مضت على النبوات الإسرائيلية سبعون قرنًا، فكيف يكون التمسك باليهودية تقدمًا، وارتقاءً وتجديدًا؟!!.
كيف يكون قيام دولة لإسرائيل شيئًا في عالم الحضارات وفي منطق الدول الكبرى؟! كيف يكون هذا شيئًا لا بأسَ به، ولا حرج فيه، ولا يُسمى عودةً إلى الماضي، ولا رجعية إلى الخلف!!.
نسأل مَن يريد أن يعيش معاصرًا، وأن يتمشى مع التطور، نسأله ماذا تريد؟ فيقول: نخضع للعقل ونحتكم إليه.
والجواب الذي يقوله هذا الشخص يجب أن نمسك به لنقول له: أنت بهذا تتبع الإسلام طوعًا أو كرهًا!!
فإن الإسلام من أسباب صلاحيته الأولى السيطرة على العالم إلى قيام الساعة أنه دين جاء يبني اليقين على حركة العقل البشري بين الأشياء، والمواد، والخصائص والقوانين الكونية، وهو يقول للإنسان: لكي تؤمن بربك تأمل فيما خلق.. “فَليَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ” (الطارق: 5)، “فَليَنظُرِ الإنسَانُ إِلَى طَعَامِه” (عبس: 24)، “أَوَلَم يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيءٍ,” (الأعراف: 185).
إن هذا النظر أو هذا العمل العقلي، هو الذي بنى عليه القرآن الكريم الإيمان بالله رب العالمينº بل إن الله في هذا القرآن الكريم عرَّف نفسه للناس عن طريق حبس أبصارهم في ملكوته، وإرغامهم على أن يفكروا في نعمائه، وفي إبداعه، وفي مظاهر قدرته ونعمته، “اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ لِتَسكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضلٍ, عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَشكُرُونَ” (غافر: 61)، “اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُم فَأَحسَنَ صُوَرَكُم وَرَزَقَكُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبٌّكُم فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبٌّ العَالَمِينَ، هُوَ الحَيٌّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادعُوهُ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ” (غافر: 65).
إن الإسلام جاء بأمور ليس لمرور الزمن تأثير فيها، ولا دخل في حقائقها، وجاء بأمور تركها للزمن معه، وتتغير بارتقائه، وهذا شيء لا بد أن نعرفه بدقة، فإن التطور لا يدخل كل شيء، إذا كانت العقائد قائمة على أن الله واحد، فهل وحدانية الله تتغير مع الزمن؟!، الله الواحد من ألف قرن هو الواحد بعد ألف قرن، والتطور لا دخل له في العقائد!!، والأخلاق لا تخضع للتطور، العفة أو العدل، أو العلم، فضائل.. فهل مرور الزمن سيجعل الجهل أو الظلم، أو التشهي الحيواني المنطلق، هل سيجعل هذا فضائل؟ لا…
عندما يعلن أن الجسد الإنساني يتسخ لعمل الغدد فيه ونشاط الأجهزة به، ولأن الجو الذي يعيش فيه مترب يكسو الجسد بالتراب، فهل تنظيف الجسد بالماء يُستغنَى عنهº لأن الزمن تطور؟! لابد من التنظيف، لابد من الوضوء.
هل العلاقة بين المخلوق والخالق، بين المرزوق والرازق، بين مَن يمد يده ليأخذ، ومن يبسط يده ليعُطي، هل العلاقة بين القوي والضعيف، والقادر والعاجز، تتغير على مر الزمان؟!!، هل سيصبح الإله عبدًا أو العبد إلهًا؟!!، ما دخل التطور في هذا؟، سيبقى الناس ما داموا يتخلقون أجنة في بطون أمهاتهم، سيبقون شاخصين لمَن صوَّرهم وأحياهم شخصة العبد لسيده، الذي أضفى عليه الحياة ومنحه الوجود!!
إنما يسمح الإسلام بالتطور في الوسائل التي تحقق مثله، أو في الأساليب التي تبني قيمه، أو شئون الدنيا التي تركت للبشر، وقال صاحب الرسالة لهم: “أنتم أعلم بأمر دنياكم”.
إن الرسل لم يجيئوا للناس كي يعلموهم الغزل والنسيج، لم يجيئوا للناس كي يعلموهم استخراج البترول وصناعاته المشتقة منه، إنَّ هذا عمل الناس فليطوروه، وليبتكروا فيه، وليخترعوا ما أرادواه، ما دخل الدين في هذا؟
الوسائل التي لم يتدخل الدين فيها: مثلاً.. أمرك بالجهاد.. والجهاد باللسان قد يكون خطابة.. ندوات.. قد يكون إذاعات، والجهاد بالكتابة، قد يكون نشرات، قد يكون كتبًا، قد يكون لافتات، والجهاد بالسلاح، قد يكون برًا أو بحرًا أو جوًا.. الإسلام لا يتدخل في التطور عندما يكون التطور لا صلةَ له بحقائقه وأركانه التي رسمها وحددها، وهو ما رسم وما حدد إلا ما لا دخل للتطور فيه.
والقرآن الكريم كتاب، والسنة النبوية أيضًا كتاب، شرح وفصل، وعلى الناس أن يلتمسوا في هدايات السماء وحيًا من الله أو إلهامًا لنبيه- صلى الله عليه وسلم -، وعليهم أن يلتمسوا في ذلك ما يصلح شئونهم في كل زمان ومكان، وهم مطمئنون إلى أن الإسلام ظهير للعلم، ظهير للكفاح، ظهير للتطور المعقول، ظهير للنشاط الذي لابد منه، كي تبلغ الإنسانية ما تهفو إليه، وما تشتاق إليه، من كمالات وتقدم.. هذه حقيقة لابد منها، تعرف مع الرساله الإسلامية التي استوعبت وجمعت، والتي أحصت ما تحتاج البشرية إحصاءه.
إلى جانب هذا التقدم العلمي، كما يرسمه الإسلام، نجد أن التقدم العلمي قد يقع فريسة للشهوات العارمة، والأهواء الجامحة، والغرائز المنطلقة، وهنا كما بين الإسلام للإنسان أن تقدمه رهين بعقل بعيد عن الخرافة، بيَّن له كذلك أن تقدمه رهين بقلب نظيف من الهوى والشهوات الخسيسة.
وعلى الإنسان أن يرقى، أن يتزكى، أن يطهر نفسه، ويستحيل أن يلهمه الله الرشد إلا إذا سعى هو ليبلغ رشده، ولذلك يقول الله: “وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذِي آتَينَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنهَا فَأَتبَعَهُ الشَّيطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ* وَلَو شِئنَا لَرَفَعنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخلَدَ إِلَى الأَرضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ” (الأعراف: 176، 175).. ولو شئنا لرفعناه بها، لو أنه جاهد نفسه، لو أنه لبى أشواق الفطرة ونداءات الكمال في دمه وفي نفسه، وعندما يخلد امرؤ إلى الأرض، ويتبع هواه، فإن الله يتركه وشأنه … “قُل مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَليَمدُد لَهُ الرَّحمَنُ مَدًّا* حَتَّى إِذَا رَأَوا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعلَمُونَ مَن هُوَ شَرُّ مَكَانًا وَأَضعَفُ جُندًا* وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهتَدَوا هُدىً وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيرٌ مَرَدًّا” (مريم: 76، 75).
إن الحديث عن عالمية الإسلام يحتاج إلى التطرق لموضوعات كثيرة يجب أن نؤدي لها حقها في ساعتنا هذه، فنكتفي بهذا القدر لكي نقول: إن أهل الإسلام الأولين عرفوا عالمية رسالتهم، وبدأوا يتجاوبون مع مطالب هذه العالمية، وبدأت تخطيطًا نظريًا في مكة المكرمة، فلما انتقل الإسلام إلى المدينة المنورة، وكون بها مهجره العتيد، وأخذ المجتمع الإسلامي يتنفس في حرية، بدأ النبي- عليه الصلاة والسلام – يرسل كتبه إلى كل حاكم ذي شأن حوله، فأرسل إلى فارس، وإلى الروم، وإلى مصر، وإلى كل بلد يمكن أن يكون فيها مَن يفقه الدعوة، ومَن يستطيع تلبية الرسالة.
فكان المسلمون حيث تنقَّلوا يحطمون جبروت الاستعمار، الذي وضع الأغلال في أعناق الخلق.
كان المسلمون- وهم يحطِّمون جبروت الاستعمار شرقًا وغربًا- كانوا متجردين لله، كانت حياتهم بعضهم مع البعض، وكانت مسالكهم مع الآخرين سببًا في أن جماهير هائلة دخلت في الإسلام متعصبة له حانية عليه مدافعه عنه، وما لبثت بعد قليل من الزمن حتى أصبحت هذه الأجناس التي دخلت في الإسلام هي التي تملك كراسي التدريس في الأمصار الإسلامية الكبرى.
سأل “هشام بن عبد الملك” جلساءه مَن فقيه البصرة؟ مَن فقيه الكوفة؟ مَن فقيه المدينة؟ مَن فقيه مصر؟ مَن فقيه الشام؟ فلم يجد إلا عربيًا واحدًا هو “الأوزاعي” في الشام!! والباقون كانوا من الأجناس الأخرى التي دخلت في الإسلام، وبرزت في ثقافته، وتلقفت العلم من العرب كي تنشر الإسلام علمًا، إذا كانت قد عجزت أن تنشره عن طريق الحكم والخلافة والمناصب والوظائف!!
ومضت الرسالة الإسلامية إلى أن بلغت عهدنا الحالي بعد أربعة عشر قرنًا، ستبقى رسالة الإسلام عالمية إلى قيام الساعة!! وما أريد لفت النظر إليه، شيء يحتاج إلى لفت نظرٍ, حقًا، فإن بعض المتدنيين الجهلة، أو بعض الشيوخ القاصرين يدسون أصابعهم في كتب السنة، ويستخرجون أحاديث الفتن، وما يفهمونها وما ينبغي أن يتحدثوا بها ليرووها للناس، هذه الأحاديث فَهِم أولئك الناقلون منها أن عُمرَ الإسلام قصيرٌ، وأن الإسلام كالكائن الحيِّ يشيخ، وأنه كما بدأ غريبًا فسيموت أو ينتهي غريبًا، ووقع أولئك الجهلة على الأحاديث كما يقع الذباب على العسل، يوسخه وينال من قيمته، ومن الخير ذود هؤلاء الجهلة عن أحاديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم – فهم لا يعرفونها ولا يحسنون روايتها، وما أكثر الجاهلين بالإسلام في عصرنا هذا!! وما أيسر أن يمكَّنَ لهم، وأن يستمع الناس إليهم.
يجب أن نعلم ما يأتي: أن الرسالة العالمية التي حمل لواءها محمد بن عبد الله- عليه الصلاة والسلام – ستبقى ما بقيت الحياة، ولابد أن تسيطر على القارات الخمس، وأن تنتشر أنوارها في أرجاء العالمين شرقًا وغربًا، ومن أين جئت بهذا؟ من الكتاب والسنة!!
أما من الكتاب فإن الله جل شأنه يقول: “هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ” (التوبة: 33) ويقول: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَنِي لا يُشرِكُونَ بِي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُم تُرحَمُونَ” (النور: 56)، ثم يقول: مهما كان الكفر قويًا، ومهما كانت أعداده كثيفة، ومهما كانت أسلحته ماضية، فلا تكترث لهذا كله، ولا تنزعج.. “لا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعجِزِينَ فِي الأَرضِ وَمَأوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئسَ المَصِيرُ” (النور: 57)، لا تحسبنهم معجزين في الأرض، لن يغلبوا الله، لن يغلبوه!!، وشيء آخر أريد أن أقمع به المشتغلين بالقصص والحكايات والمرويات التي لا يعقلونها، وفي قرآننا يقول الله لعيسى بن مريم: “وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ” (آل عمران: من الآية: 55)، ومعنى هذا أن عبودية البشر كافة للواحد القهار، وأن هذه العقيدة ظاهرة إلى يوم القيامة وفوق غيرها!! ويقول- عليه الصلاة والسلام – في حديث طويل: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر”.
وفي حديث آخر يقول – عليه الصلاة والسلام -: “مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى أوله خير أم آخره” هذه الأمة باقية قد يُسأل.. فما الأحاديث التي تتحدث عن غربة الإسلام وضعفه؟!!، والجواب: هي أحاديث وردت بالفعل، ولكن معناها أن الخط البياني لسير الإسلام خط متعرج لا يرتفع باستمرار، ولا ينخفض باستمرار، إنه يرتفع وينخفض، إن الإسلام دين مدٍّ, وجزر، حتى في حياة نبيه- عليه الصلاة والسلام – فإن الذي نصر المسلمين في بدر هزمهم في أحد وقيل لهم “وَتِلكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاس” (آل عمران: 140)، كذلك إلى قيام الساعة… ?وَتِلكَ الأَيَامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاس?.
سننتصر وننهزم، وننتصر وننهزم، وسيكون الإسلام غريبًا في بعض الأوقات ثم يأنس ويعتز ويقوى، ثم يستوحش لضعف الناصر، وقلة العالم، وجهل العامل وما إلى ذلك!! ثم تذهب هذه العلل، وتنقشع هذه الغمم، ويعود الإسلام قويًا عزيزًا وهكذا إلى قيام الساعة، ولكن الكلمة الأخيرة للإسلام، “وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ” (آل عمران: 55).
هذا ما ينبغي أن يُعرف، فإذا كان الإسلام تمر به أيام عجاف، وإذا كانت كلاب الأرض وذئابها تنال من المسلمين، فإن السبب ليس من غيرنا، فإن النبي- عليه الصلاة والسلام – يقول: “إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامةٍ,، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامةٍ, ولا أسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا”.
وواقع أن أعداءنا ما يضربوننا قدر ما يضربوننا بأيدينا نحن!! إن الفرقة بين العرب والمسلمين حقيقة موجودة، وستبقى هذه الفرقة حقيقة موجودة، وستبقى هذه الفرقة حقيقة واقعةº حتى يعود العرب إلى الإسلام، وحتى يعود المسلمون إلى الإسلام وحتى تكون للقرآن مكانته العملية، وحتى تعود للسنة مكانتها التطبيقية، ويومئذٍ, يفرح المؤمنون بنصر الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
هؤلاء العرب الأقدمون دمَّر الله عليهم، وبعد أن ذكر الأنبياء العرب الذين حاولوا أن يرتفعوا بمستوى الجزيرة، وأن يصلوها بالسماء وأن يجعلوا حضارتها تشرب الروحانية بدل القسوة، والتواضع بدل الكبر، والعدالة بدل المظالم، والإنصاف الاقتصادي بدل الغش والاحتكار.
لمَّا أبى العرب هذا دمَّر كل ما بنوا.. قال جل شأنه في سورة هود “ذَلِكَ مِن أَنبَاءِ القُرَى نَقُصٌّهُ عَلَيكَ مِنهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ” (هود: آية100) كان العرب الكنعانيون في فلسطين، وكانوا جبابرة.. وكما قلت الجنس العربي في غرائزه قوة، وفي طباعه صلابة، وفي مواهبه امتداد، إذا سُخِّر للخير ارتفع بمواكب الحق إلى الأوج، وإذا سُخِّر للشر ركبته شهواته، ومضى به إبليس يمنة ويسرة فأسف وفعل المناكر!!
هذا هو الجنس العربي، وكما قال “ابن خلدون”- وهو من أدق الرجال وصفًا للجنس العربي- إنه لا يصلح إلا بنبوة، ولا يقوم إلا بدين، ولا ترقى مواهبه إلا بشرائع السماء.. فإذا ترك العرب النبوة والدين وشرائع السماء تحولوا إلى قطعان تعبد الشهوة، وتطلب المال لتبعثره ذات اليمين وذات الشمال تنفسيًا عن شهواتها.