شرح أسماء الله الحسنى: 73- البر
أولا / المعنى اللغوي
البَرُّ اسْمُ فَاعِلٍ للمَوْصُوفِ بِالبِرِّ(بالكسر)، والبر: هو الإحسان والاتساع والصلة والخير، وقيل: البر هو خير الدنيا والآخرة، فِعْلُه بَرَّ يَبَرُّ فَهُو بَارٌّ وجَمْعُه بَرَرَةٌ، والبِرُّ هو الإحْسَانُ، والبِرُّ في حَقِّ الوَالِدَينِ والأَقْرَبِينَ مِنَ الأَهْلِ ضِدُّ العُقُوقِ وهو الإسَاءَةُ إليهم والتَّضْييعُ لحقِّهم، والبَرُّ والبَارُّ بمعْنَى وَاحِدٍ، لَكِنَّ الذي ثَبَتَ في أسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى البَرُّ دُونَ البَارِّ، والأسْمَاءُ كَمَا عَلِمْنا تَوْقِيفِيَّةٌ على النَّصِ.
أما البُرّ بضمّ الباء: الحنطة أو القمح، ومفرده بُرّة بمعنى قمحة، ومن معاني البَرّ: خلاف البحر، والبرّية هي الصحراء، سًميت كذلك لاتساعها، وتطلق أيضاً نقيضاً لمعنى الفجور.
ثانيا / المعنى في حق الله تعالى
هو البر بعباده أي العطوف عليهم، المحسن إليهم، عم بره جميع خلقه، فلم يبخل عليهم برزقه – وهو البر بالمحسن في مضاعفة الثواب له، والبر بالمسيء في الصفح والتجاوز عنه.
ثالثا / ورود الاسم في القرآن
وقد ورد هذا الاسم مرة واحدة في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور: 25-28]
رابعا / تأملات في رحاب الاسم الجليل
البَرُّ سبحانه وتعالى هو العَطوف على عبادة، فهو أهل البر والعطاء يحسن إلى عباده في الأرض أو في السماء، روى البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ،) وَقَالَ: (يَدُ اللهِ مَلأَى لاَ تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ)
وإذا تأملنا مقاصد هذا الاسم الإلهي العظيم ودلالاته، تبيّن بجلاءٍ أن برّه سبحانه وتعالى بخلقه على نوعين:
البرّ العام: وهو الإحسان الإلهي الذي وسع الخلائق كلّها في البرّ والبحر، والسماوات والأرض، وما من مخلوقٍ إلا وقد أسبغ عليه نعمه وإحسانه ظاهراً وباطناً، فهيّأ له رزقه وقوته، وكساه الجمال وأحسن خلقه، وأعطاه ما ينفعه ودفع عنه ما يضرّه، بحسب ما تقتضيه حكمته، ومن دلائله قوله تعالى: { ورحمتي وسعت كل شيء} (الأعراف:156)، وقوله تعالى: { وما بكم من نعمة فمن الله} (النحل:53)، وقوله سبحانه: { الذي أحسن كل شيء خلقه} (السجدة:7)
البرّ الخاص: وتعني ما خصّ به المؤمنين المتقين دون غيرهم، بتوفيقهم إلى الطاعة وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، وتثبيتهم على الاستقامة، والأمن والطمأنينة النفسيّة، والعفو عن السيئات، ومضاعفة الحسنات: { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} (الأعراف:156)، وغيرها من الخصائص التي أكرمهم بها، أما في الآخرة فقد خصّهم بالجنة وبرؤيته سبحانه وتعالى: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس:26)، ويالهما من نعمة.
لماذا يدعو أهل الجنة ربهم سبحانه وتعالى بالبر الرحيم ؟
عند دخول أهل الجنة في الجنة تختلف مراتبهم ومنازلهم ودرجاتهم ونعيمهم بحسب أعمالهم وحسناتهم ورحمة الله وفضله عليهم هناك يشتاق بعضهم إلى ذريته الصالحة الذين دخلوا الجنة ولكن بسبب اختلاف الدرجات في الجنة لم يتمكنوا من الجلوس معهم وتبادل الحديث فيعلم ربهم سبحانه وتعالى ذلك فيمن عليهم برحمته وفضله وبره فيلحق بهم ذريتهم رغم أن أعمالهم قد لا تصل إلى هذه الدرجات والمنازل العالية وذلك لتقر أعينهم بالجلوس مع آبائهم وذرياتهم في الجنة فيفرح أهل الجنة بهذا الفضل جعلنا الله منهم ويثنون على الله ويدعونه باسم البر، ذكر الله تعالى لنا هذا في سورة الطور فقال: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ *وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ* فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ* إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) سورة الطور 21:28
فأكثر الناس معرفة باسم الله تعالى (البر)هم أهل الجنة لأنهم يعيشون أسمى وأعلى درجات البر من البر سبحانه وتعالى ويعرفون حقاً ما أعد لهم من فضله وإحسانه وكرمه وامتنانه ورحمته ولطفه بعباده.
بر الله تعالى للمسيئين والمذنبين:
بر الله تعالى لعباده المسيئين والمذنبين يكون بالستر عليهم وقبول توبتهم ومسح ذنوبهم ويبدلهم بالسيئات إحسانا وعفوا عند التوبة، قال الله تعالى: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) سورة الزمر53
(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)
لَنْ يَنَالَ العَبْدُ بِرَّ اللهِ تَعَالَى بهِ في الآخِرَةِ إلا باتِّبَاعِ ما يُفْضِي إلى برِّه ومَرْضَاتِهِ ورَحْمَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92].
قَالَ ابنُ جَرِيرٍ: “لَنْ تُدْرِكُوا أَيُّها المُؤْمِنُونَ (البِرَّ)، وهو البِرُّ مِنَ اللهِ الذي يَطْلُبُونَهُ مِنْهُ بِطَاعَتِهم إياه، وعِبَادَتِهم لَهُ، ويَرْجُونَهُ مِنْهُ، وذلك تَفَضُّلُهُ عَلَيهم بإدْخَالِهم جَنَّتَهُ، وصَرْفِ عَذَابِهِ عَنْهم، ولذلك قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: البِرُّ: الجَنَّةُ؛ لأنَّ بِرَّ الرَّبِّ بِعَبْدِهِ في الآخِرَةِ، وإكْرَامَهَ إياه بإدْخَالِهِ الجَنَّةَ”
ومِمَّا يَدْخُلُ في هذا المَعْنَى قَوْلُه صلى الله عليه وسلم: “إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا، وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا” أخرجهُ البخاريُّ ومسلمُ
قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ: “البِرُّ أَصْلُه التَّوَسُّعُ في فِعْلِ الخَيْرِ، وهو اسْمٌ جَامِعٌ للخَيْرَاتِ كُلِّها، ويُطْلَقُ عَلَى العَمَلِ الخَالِصِ الدَّائِمِ”[ الفتحُ (10/ 508).].
وقال ابن القيم : “لا تَظُنَّ أَنَّ قَوْلَه تَعَالَى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13، 14] مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ المَعَادِ، بَلْ هَؤُلَاءِ في نَعِيمٍ في دُورِهمُ الثَّلَاثَةِ، وهَؤُلَاءِ في جَحِيمٍ في دُورِهمُ الثَّلَاثَةِ، وأَيُّ لَذَّةٍ وأَيُّ نَعِيمٍ في الدُّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ بِرِّ القَلْبِ، وسَلَامَةِ الصَّدْرِ، ومَعْرِفَةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وتَعَالَى ومَحَبَّتِهِ، والعَمَلِ عَلَى مُوَافَقَتِهِ؟
خامسا / ثمرات الإيمان بهذا الاسم الجليل
1- الله تبارك وتعالى بَرّ رحيم بعباده، عطوف عليهم، محسنٌ إليهم، مُصلح لأحوالهم في الدنيا والدين، أما في الدنيا فما أعطاهم وقسم لهم من الصحة والقوة والمال والجاه والأولاد والأنصار، مما يخرج عن الحصر، قال سبحانه: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34]، فيدخل في ذلك كلُّ معروف وإحسان، لأنها ترجع إلى البر، ويشترك في ذلك المؤمن والكافر.
وأما في الدين فما منَّ به على المؤمنين من التوفيق للإيمان والطاعات، ثم إعطائهم الثواب الجزيل على ذلك في الدنيا والآخرة، وهو الذي وفَّق وأعان أولاً، وأثاب وأعطى آخرًا.
2- من برِّه سبحانه بعباده إمهاله للمسيء منهم، وإعطاؤه الفرصة بعد الفرصة للتوبة، مع قدرته على المعاجلة بالعقوبة، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ﴾ [الكهف: 58].
3- الله تبارك وتعالى بارٌّ بأوليائه، صادقٌ فيما وعدهم به من الأجر والثواب:{ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ } [الأعراف: 44].