(سوء الفهم آفة) للشيخ : محمد الدويش

تاريخ الإضافة 22 أغسطس, 2023 الزيارات : 1049

(سوء الفهم آفة) محاضرة للشيخ : محمد الدويش

تحدث في مجتمعاتنا كثير من المشاكل والأزمات بسبب سوء الفهم المرتكز على خلفيات سابقة أو الناتج عن سوء نية أو سوء ظن أو غير ذلك، وهذا بدوره يزيد التفكك في المجتمع ويزرع الأحقاد، ولكن يمكن تداركه بعلاج المشكلة من أساسها وقطع الشر من جذوره.
مقدمات بين يدي الموضوع
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد: فسيكون عنوان حديثنا هو: (سوء الفهم آفة).

مقدمة سريعة بين يدي الموضوع.

ثم سوء الفهم متى يكون آفة ومتى لا يكون آفة؟

وأخيراً: أسباب سوء الفهم.

وبعد ذلك مقترحات للعلاج.

نسمع كثيراً أن فلاناً قال كذا، وفلاناً فيه كذا، وذلك في الحكم على الأشخاص، والحكم على الكتب، والحكم على الجماعات، والحكم على المجتمعات، والحكم على الأعمال والجهود. نسمع أحكاماً متناقضة ومتباينة، بل نسمع من يقول: إن فلاناً يقول كذا وكذا، ويعتقد كذا وكذا، فيقول الرجل بأعلى صوته: إني لا أقول كذا، إني لا أعتقد كذا، إني براء من كذا، فيقال له: كذبت، بل أنت تقول كذا، أو بعبارة أخرى: نحن أعلم منك بكلامك، وربما نحن أعلم منك بما في قلبك، ونحن أعلم منك بنيتك! إن هذا لسان حال كثير من الناس الذين يحاكمون الآخرين إلى أفهامهم، وإلى نظراتهم وقناعتهم. ثمة ظاهرة عادية تحصل بيننا كثيراً في الاتفاق على موعد أو مناسبة، أو في نقاش قضية من القضايا، فنفترق وكل منا في ذهنه أن الاتفاق قد تم على كذا وكذا، ونختلف في الموعد، ثم يحصل النقاش والجدل، يقول أحدهما: اتفقنا على كذا، والآخر يقول: لا. إنها مظهر من مظاهر سوء الفهم، فأحدنا قد أساء الفهم إما أنا وإما أنت، المهم أنه مظهر تقف فيه أنت أمام الشخص، فتقول له: كان الموعد في الوقت الفلاني، فيقول: لا، الموعد قبله أو بعده، ولا يوجد احتمال للكذب ولا الروغان، فهو زميلك وصديقك، وقد تكون هناك مصلحة مشتركة، فليس هناك إلا احتمال واحد هو سوء الفهم. وحينئذٍ نحكم العقل أحياناً، ونحكم المنطق؛ لأننا نحتاج إليه، وتنتهي هذه المشكلة.

لكن سوء الفهم قد يمتد إلى ذلك، وأحياناً تنتج عنه مواقف ونتائج سلوكية أخرى، ومن ثم كان لابد من الحديث عن سوء الفهم.
 
متى يكون سوء الفهم آفة؟ آفة سوء الفهم الإلزام به:

 سوء الفهم أمر لابد أن يقع المرء فيه لأنه بشر، ولأن المتحدث قد لا يزن حديثه، أو قد يكون حديثه أحياناً ملتبساً، أو مدعاة لسوء الفهم.

فأن نطالب الجميع بالتخلي عن سوء الفهم، أو نحاكم الجميع على سوء الفهم، ونرى أن الجميع يجب أن تصح أفهامهم بنسبة 100%، أتصور أنه مطلب غير معقول.

فلابد أن يقع المرء في الخطأ في الفهم، لكن متى يكون سوء الفهم آفة؟

ونحن لن نتحدث عن هذه القضية جملة، فلن نتحدث عن سوء الفهم وما يتعلق به، ولكن عن جانب من الجوانب، وعن مرض يحصل كثيراً في الساحة، وسببه سوء الفهم، ومن ثم سيتركز حديثنا حول هذه الظاهرة.

يكون آفة حينما يكون قاعدة يحكم بها على الآخرين، أي: أن أحكم على الآخرين من خلال فهمي لكلماتهم، أو أقوالهم، أو أعمالهم، أو مواقفهم، وتسمع هذه الكلمات التي تعبر عن أعمال القلوب: هو يقصد كذا، يريد كذا، يظهر خلاف ما يريد، يتظاهر بكذا، وكلها أمور تدور حول قضية قلبية، يعني: أننا قد تجاوزنا الظاهر إلى ما يخفيه ويعتقده صاحبنا، فقد أصبحنا نملك وسيلة نستطيع بها أن نحكم على نوايا الآخرين، وأن نطلع على نوايا الآخرين.

إذاً: فحينما يكون قاعدة تجعلني أحاكم الآخرين دائماً إلى ما أفهمه من مواقفهم وأعمالهم وجهودهم، وما يقومون به، فهذه آفة، وحينئذٍ نقول لمن يكون كذلك: لا يسوغ لك أن تحاكم الآخرين إلى فهمك، قد تقول: ها أنت عرضت لي قائمة وأمثلة طويلة من أمور اجتهد فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخطئوا الفهم مع نص شرعي، فكيف لا أخطئ في الفهم أنا. أقول: نعم، من حقك أن تخطئ الفهم، وبعض الناس عقله لا يؤدي به إلا إلى الفهم السقيم، لكن هذا شيء وأن تجعل فهمك قاعدة تحاكم الآخرين إليها شيء آخر.

حين أنقل عن الآخرين بناء على فهمي أيضاً هذا خطأ، وحينما أنقل يجب أن أكون دقيقاً في النقل، فأقول: قال: كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا، وفهمت أنا أنه يقصد كذا، أو أنه يريد كذا، فمن حقك أن تقول هذا الكلام، لكن لا تنقل عن الآخرين شيئاً فتقول: إن فلان يقول كذا، أو إن فلان يعتقد كذا، أو يريد كذا، وتقتصر على هذا الكلام، ومعيار النقل وأساس النقل هو فهمك أنت.

وبعض الناس عنده منطق عجيب، مرة كان يناقشني شاب في مقال كتبته، فقال لي: إن الناس الذين تقصدهم في هذا الكلام عندهم كذا وكذا، فقلت له: يا أخي! أنا لا أقصد أحداً بعينه، وهذا وهم في ذهنك، فيقول: بل أنت تقصد! يعني: أنت الآن تخبرني بما أقصد وبما لا أقصد وبما أريد، إذا كنت أنا متهماً عندك بالكذب فليس هناك داع أن تناقشني، لأنني أصبحت كذاباً! فأنت من حقك أن تفهم أني أقصد شخصاً، لكن يجب أن يبقى فهماً لك ولا تلزمني به، لأنه حينما يكون سوء الفهم وسيلة للإلزام يصبح آفة، وسنأتي إلى الحديث عن الإلزام.
أسباب ظاهرة سوء الفهم
ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن أسباب هذه الظاهرة، وقد نتحدث عنها بالتفصيل:

السبب الأول: سوء النية:

أحياناً يكون الرجل صاحب نية سيئة أصلاً، فهو مثلاً يسمع لفلان، لا لأجل أن يسمع له، ويقرأ لفلان وينظر إلى عمل فلان ويسأل، كل هذه الأمور لا لأجل أن يستفيد، وليس عنده استعداد أن يستفيد، إنما يبحث عن مدخل للطعن.

فهو إذاً سيئ النية ابتداءً، لكنه يقول لك: أنا لست بسيئ النية، أنا أعتقد أن هذا عدو للإسلام والمسلمين، أنا أعتقد أن هذا رجل سيئ، فمن باب الدفاع عن الدين سأقرأ له وسأسمع حتى أكتشف أخطاءه وأحذر منه الناس.

أحياناً يأتي شخص من المسلمين عالم أو طالب غيور، فيريد أن يقرأ لكاتب من الكتاب، ولنفترض أنه كاتب سيئ أو عنده انحراف، فيبدأ يقرأ بالمناقيش، وهنا لابد أن يقع أحياناً في سوء الفهم؛ لأنه يبحث عن الخطأ، بغض النظر عن موقفه هنا هل هو سليم أم لا.

لكن لماذا وقع في سوء الفهم هنا؟

لأنه يقرأ لأجل أن يبحث عن الخطأ، كما لو كنت تريد أن تقرأ ورقة مثلاً، فتبحث عن خطأ نحوي فيها، أو خطأ إملائي، فأنت لا يهمك الصواب ولا يهمك أي شيء، إنما تقرأ لتبحث عن الخطأ، وأن تصحح.

المهم أنك أصبحت تريد الخطأ وتبحث عنه، ومن ثم فستقع على الخطأ قطعاً، لكنك قد تقع على ما ليس خطأ، فمثلاً: لو كان الأخ مدرساً للغة العربية، فعندما أعطيه هذه الكلمة وأقول له: قيمها، فيمكن أن يقرأ الآن ويقول لك: هذه الكلمة فيها خلاف بين النحويين، وهذه لا تجوز، وهناك رأي يمنع هذا الشيء، أو هذه فيها احتمال، لماذا؟ لأنه يبحث عن خطأ.

لكن لو كان يقرؤها قراءة عادية متجردة قد يجد أنها لا إشكال فيها، وأن استعمالها سائغ، لكن عندما يقرأ ليبحث عن خطأ، سيجد أشياء هي أصلاً محتملة، لكنه سيحملها على المحمل الخاطئ لغة، أو الخاطئ في أي باب نبحث فيه ونناقش.

فيأتينا الآن مثلاً هذا الشخص فيقرأ، أو يسمع، أو يقيم عملاً معيناً، وهو يبحث عن الأخطاء، فسيقع على أخطاء، ويجب ألا نكون عاطفيين، فنقول: إن كل ما يتحدث عنه ليس أخطاء، بل سيقع على أخطاء، لكن هذا سيقع على كلمة تحتمل وجهين.

أنت عندما تسمع أو تقرأ ستجد الكلام يحتمل وجهين، ويحتمل عدة احتمالات، فعندما تقرأ وأنت تبحث عن الخطأ، فستحمل الكلام على الوجه الخاطئ وربما لا يحتمل.

وكم نجد من الناس من يقول كلاماً في كتاب، أو في مجلس، أو في مناسبة، ثم في مجال آخر يأتينا كلام يحتمل أنه يريد هذا الشيء، ثم في مجال آخر يصرح تصريحاً قاطعاً بخلاف هذا، ومع ذلك نرفض هذا الكلام، فنسلط الضوء على هذه العبارة الصغيرة، أو على هذا الموقف الصغير، وما سواه نرفضه.

وقد يقول: أنا لا أقصد كذا، وأنا لا أريد كذا، فيقال: لا، أنت تقصد كذا، وتريد كذا، يعني: بعبارة أخرى: نحن أعلم منك بما في نفسك، وأعلم منك بما تريد، وأعلم منك بما تقول، وإذا شككت في نيتك فعليك أن تسألنا، فنحن قد أصبحنا على مستوى من الاطلاع على النوايا.

إن هناك فئة ممن يأتي بسوء نية، قد لا يكون سوء النية قصد القضاء على الإسلام والمسلمين، وقد لا يكون الحرب على الدين، فقد يكون دفعه إلى ذلك حسده لفلان من الناس، وكم واجه شيخ الإسلام ابن تيمية وعبد الغني المقدسي وغيرهم من أئمة أهل السنة من مضايقات، ومن تحميل كلامهم ما لا يحتمل، وقالوا: خالف الإجماع في هذه القضية، وفعل كذا، وفعل كذا، حتى عندما ناظروا شيخ الإسلام في الواسطية قالوا له: لماذا قلت: من غير تكييف ولا تمثيل، ولم تقل: ولا تشبيه؟ يعني: لك مقصد في هذه العبارة!

فأولئك منهم من كان صاحب علم، لكنه يحمله الحسد، ويحمله البغي، فصار عنده هذا الشعور، وكون نظرة معينة فصار يبحث لأجل هذه القضية.

ومن هذا القبيل النتائج التي يصل إليها المستشرقون في أبحاثهم، فالمستشرقون مثلاً يقرءون نصوص الكتاب والسنة والتاريخ الإسلامي، ويخرجون لنا بأقوال مضحكة، ويدعون تناقضات وأخطاء، إلى غير ذلك.

هناك عدة أسباب تحول بين المستشرقين وبين الفهم الصحيح، من هذه الأسباب: سوء النية، لأنه يقرأ ويبحث بنية معينة، فصار تلقائياً يفهم هذا الفهم، وينصرف إلى ذهنه مباشرة هذا الفهم السيئ، لأنه صاحب نية سيئة.

السبب الثاني: سوء الظن:

صاحبنا الأول يقصد النقد، ويسعى إلى النقد، ويهدف إلى النقد، ويهدف إلى سوء الفهم، لكن صاحبنا الآخر قد لا يكون كذلك، لكنه إنسان سيئ الظن، ولهذا سيسيء الفهم.

فبعض الناس الحساسين يقول زميله كلمة، فيقول: يقصد كذا وكذا، يريد كذا، ويحلل الكلمة ألف تحليل، فيسيء الفهم.

والله عز وجل ينهانا ويأمرنا باجتناب الكثير من الظن؛ حتى لا نقع في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، فليس كل الظن إثماً، وإنما بعض الظن إثم، لكن يجب أن نجتنب كثيراً من الظن حتى لا نقع في هذا البعض من الظن الذي هو الإثم.

فعندما يسيء الإنسان الظن في شخص فلابد أن يسيء الفهم تلقائياً.

أنا أذكر شخصاً حساساً كان يناقشني في مشكلة، فقلت له: أسألك سؤالاً هل تعرف أنك حساس؟ قال: لا، لكن أنا عندي ظن وظن وظن وظن، فصارت يقيناً، قلت: عندك وهم ووهم ووهم ووهم فصارت يقيناً، والقضية كلها أوهام.

وتأتي إلى صاحبك فتقول له: أنت تسيء الظن، يقول لك: لا، فلا أحد يعترف أنه يسيء الظن أبداً، يقول لك: لا، هذا أصلاً إنسان سيئ.

فلماذا دائماً نحمل الكلمة على المحمل السيئ؟ ولماذا نحمل مقاصد الناس على المحمل السيئ؟ وأعمال الناس على المحمل السيئ.

إن المنطق العقلي البحت، ومنطق العدل المجرد مع الناس، يجعلني أتجرد من كل هذه القضايا، وأنظر إلى الكلام مجرداً عن كل الأوهام والتحليلات التي عندي، ثم أحاكم هذا الكلام إلى ما يقوله هو في مناسبة أخرى، وإلى أعماله الأخرى، فسأصل إلى نتيجة سليمة قطعاً.

أما عندما يكون عندي صورة متخيلة في الذهن عن فلان أنه يقصد كذا ويريد كذا، فلا بد أن أصل إلى هذه النتيجة السيئة، ولهذا كان الظن أكذب الحديث، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث).

كيف يكون الظن أكذب الحديث؟ يكون الظن أكذب الحديث لأنك تتوهم أن هذا صدق لا شك فيه ولا نقاش، وهو كذب، ويتجاوز الكذب إلى إخبار عن النوايا، فصار أكذب الحديث فعلاً.

السبب الثالث: وجود خلفية سابقة سواء كانت حقيقية أو متوهمة:

فمثلاً: أنت تأتي تريد أن تصلي الجمعة مع شخص، أو شخص يأتي إلى المجلس، أو مدرس يأتي إلى الفصل، أو إنسان يتحدث مع مجموعة في مناسبة، فيأتيك شخص قبل ذلك يقول: إن هذا عنده كذا وكذا وكذا، ويعطيك خلفية معينة عنه، فإنك عندما تسمع تنتظر الشواهد لهذه الخلفية التي وجدت عندك، فعندما يقول كلاماً، تقول: نعم، هذا أولاً.. ثانياً.. ثالثاً، إذاً صدق، وتصبح القضية مجزوماً بها، وهي مجرد خلفية كانت عندك، وقد تصل الخلفية عندك إلى حد اليقين، وليس لها أصل ولا مصدر في الواقع.

عندك نظرة عن فلان من الناس مثلاً أنه إنسان سيئ، أو إنسان مغرض، فعندما يتكلم، أو عندما تقرأ له، ستسمع وتقرأ بروح النقد.

أنا أجزم أني الآن لو آخذ كتاباً واحداً فيه أخطاء، وأعطيه لاثنين متساويين في الفهم والإدراك والتربية، فأعطيه للشخص الأول فأقول: خذ هذا الكتاب واقرأه، وأعطيه للشخص الثاني وأقول له: اقرأ هذا الكتاب لكن احذر، فالكاتب عليه ملاحظات؛ فأنا أجزم أن الشخص الثاني سيصل إلى نتائج وأخطاء لا يصل إليها الأول الذي أتى بدون خلفية مسبقة. ثم إن الثاني قد يتكلف أخطاء ليست أخطاء في الحقيقة، ويصل إلى نتائج متوهمة أصلاً، لأنه كان عنده خلفية سابقة مبنية على أوهام.

إذاً: فيجب أن أتعامل مع الناس تعاملاً مجرداً، فأزيل هذه الخلفية، لأن الأوهام تتطور أحياناً حتى تصل إلى يقين لا نناقش فيه، وهو أصلاً ليس عنده استعداد أن يناقش في هذه الخلفية المسبقة أن هذا الكاتب -مثلاً- ينتمي إلى جماعة معينة، ويتبنى فكر هذه الجماعة وما تدعو إليه، وأن هذه الجماعة من الجماعات تقصد كذا، وأن هذا الرجل عنده كذا، وأن هذا الرجل له هذا الاتجاه الفكري، أو هذا الاتجاه العلمي، أو المذهبي، .. وإلى غير ذلك.

فلماذا هذه الخلفية تعشعش في ذهني، وتكون قاعدة انطلق منها في الحكم على الآخرين؟

السبب الرابع: إهمال الظروف المتعلقة بالشخص:

فبعض الناس حاد الطبع، ولهذا قد يقول كلاماً لا يعبر عن حقيقة ما في نفسه، ما في قلبه يخرج على لسانه، وقد يغضب فيغلظ عليك الكلام، وحتى كأن الأرض لن تحملك بعد ذلك، وليس في قلبه أي شيء.

أنا أذكر أستاذاً لنا لا أدري ما أخباره غفر الله له وجزاه عنا خيراً، وهو رجل فاضل، لكن كان شديد الغضب بشكل عجيب، وأحياناً يغضب عليك حتى تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتتخيل أنه سيهم بالبطش بك، وفي نفس المحاضرة تخرج معه وتسلم عليه، فيحدثك ويبتسم لك، وما في القلب أي شيء، وتذهب أنت وهو إلى القسم وليس في قلبه أي شيء إطلاقاً.

نحن ما عندنا مشكلة عندما يتكلم معنا، وعندما يقول لنا هذا الكلام، لأننا نعرف أن طبيعة الشخص حادة، والإنسان الحاد يقول كلاماً غير مدروس ولا موزون، فطبيعته أنه يتعجل، ويغضب، والمهم أننا يجب أن نعرف شخصيته؛ حتى نزن كلامه.

الشخص الآخر: إنسان بارد، وهادئ الانفعال، هذا الآخر أيضاً قد يكون في خاطره شيء، لكنه لن يقوله لي؛ لأن الرجل غير صريح، فطبائع الناس تختلف.

وهنا لا بد أن أضع في الذهن أن طبيعة الشخص نفسه تؤثر على كلامه، وعلى حديثه، وعلى أعماله، وعلى قراراته، وعلى مواقفه، وعلى نظراته، فالحكم المتزن هو الذي يأخذ في الذهن طبيعة الشخص.

أيضاً ظروف الزمان والمكان: فمثلاً قد يقول كلاماً في مكان معين فيه ملابسات معينة، وفيه أوضاع معينة، فيدعوه إلى أن يتحمس لهذه القضية أكثر، أو العكس، فقد يتجنب بعض الأمور مراعاة لعامل المكان، أو عامل زمان معين.

المهم أنه يجب ألا تأخذ الكلام مجرداً عن هذه الظروف التي قد تؤثر على كلام الرجل، وعلى ما يريده.

كذلك نقطة ثالثة وهي الموضوع الذي يتحدث عنه، فمثلاً: الآن أنا لو أتحدث معكم عن القراءة، وأهمية القراءة لطالب العلم، فسأتحدث بالتفصيل عن أهمية القراءة، وأنك يجب أن تقضي وقتاً طويلاً في القراءة، وسيدور الكلام كله حول هذا الموضوع.

أنا أجزم أنه في نهاية المحاضرة سيأتيني سؤال يقول: نفهم من كلامك أنك تقلل من شأن مجالس العلم، وماذا عن دروس العلماء؟

يا أخي! أنا لا أتكلم عن منهج طالب العلم، أنا أتكلم عن موضوع معين.

مثلاً: عندما أتحدث عن الدعوة إلى الله، وأهمية الدعوة، والحاجة إليها، وأحث الناس عليها، ويجب أن نوظف طاقاتنا وجهدنا في الدعوة، إلى غير ذلك.

أجزم أنه سيأتيني سؤال آخر، هذا السؤال الذي يأتيني عبر عن فهمه، لكن يوجد ناس ما عبروا عن فهمهم، وهو أن معنى المحاضرة أنك تقلل من العلم الشرعي.

أنا لم أتحدث الآن عما يجب على الشاب أن يعمله، ولم أتحدث عما يجب على المسلم، فأنا أتحدث عن موضوع وعن جزئية من الجزئيات.

عندما أتحدث مثلاً عن أهمية طلب العلم والحرص عليه، فيأتيني شخص آخر يقول: أين الحقوق الخاصة للإنسان؟ هل نفهم من كلامك أن الإنسان يعطل مصالح أهله لأجل طلب العلم؟ ونفهم من كلامك أن الإنسان يترك الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتفرغ للعلم؟ إلى غير ذلك.

قد أتكلم عن أهمية رعاية الموهوبين والتركيز عليهم، وأن الطلبة الأذكياء الذي يجب أن نعتني بهم، وننظم لهم برامج خاصة، وأتكلم كل كلامي حول الموضوع هذا، فيمكن أن يأتيني سؤال يقول: وهل يعني هذا أن الناس الذين هم أقل كفاءة غير مكلفين شرعاً؟ وهل يعني أن الدعوة خاصة بهؤلاء، فالإسلام عام للجميع، والدعوة عامة للجميع؟

يا أخي أنا لم أتكلم عن الدعوة أصلاً، أنا أتكلم عن جزئية وعن قضية من القضايا، فيجب أن تفهم بالضبط ما أريد، وهذه كثيراً ما نقع فيها.

ومن الطبيعي أن الذي يتكلم عن موضع يبالغ فيه نوعاً ما.

فمثلاً: نفترض أنني أتحدث عن موضوع رعاية الموهوبين، والعناية بالأذكياء، والحرص على استصلاحهم وتربيتهم، فأنا أنزل بثقلي حول هذا الموضوع؛ لأجل أن أقنعكم بالقضية.

فقد يكون عندي مبالغة في الألفاظ، وقد أعطي الموضوع زخماً؛ لأجل أن أقنعك به؛ لكن عندما أجلس معك ونتناقش بهدوء، أقول لك: أنا لا أقصد هذا، ولا أريد هذا، فأنت يجب أن تضع في الذهن أنني أتحدث عن موضوع معين.

إذاً: الحديث عن موضوع معين لا يعني بالضرورة أنني أهمل ما سواه، أو أنني أخطئ ما سواه، ثم أيضاً طبيعي جداً أن الإنسان الذي يتحدث عن موضوع معين ينزل فيه بزخم، ويتحدث فيه بقوة، وقد يأتي أحياناً بعبارات فيها مبالغة، أو يأتي بكلام فيه نوع من المبالغة التي لا ينجو منها بشر، فالبشر من الطبيعي أن يقعوا في الخطأ.

السبب الخامس: تنزيل الكلام على معين:

فأنا أتحدث عن قضية من القضايا فأقول: إن بعض الكتاب، أو بعض الدعاة، أو بعض الخطباء -فأتكلم كلاماً عاماً- يريد كذا، أو يفعل كذا، ويقول كذا، ويقع في هذا الخطأ، والخطأ الفلاني، فمباشرة بعض الناس يبدأ يقول: يقصد فلاناً، أو فلاناً، أو فلاناً، أو فلاناً.

وقد قلت لكم: إني بذلت جهداً حتى أقنع شخصاً أني لا أقصد أناساً بعينهم، فقلت له: ليس عندي أشخاص، فأنا أتحدث عن ظاهرة من الظواهر، فقال: لا، الناس الذين تقصدهم فيهم كذا، ولا يقعون في هذا الخطأ، فقلت له: يا أخي! أنا ليس عندي أشخاص أقصدهم، وقلت له: يا أخي الكريم! مشكلتك معي مشكلة واحدة أنك تنزل الكلام الذي أقوله على أشخاص معينين، فلو أزلت هذه القضية لما صارت بيني وبينك مشكلة، فالنتائج نحن متفقون عليها كلنا، لكن المشكلة هي أنك نزلت هذا الكلام على شخص معين، أو على جهة معينة.

فأنت حين يكون عندك شعور بهذه القضية، فعندما آتي أتكلم تقول: إذاً من يقصد هو الآن؟ احتمال أنه يقصد رقم (أ) ننظر هو وارد أو غير وارد؟ احتمال أنه يقصد (ب)، واحتمال أنه يقصد (ج)، وأخيراً بعد البحث والتحليل والمناقشة وصلنا إلى نتيجة أنه يقصد فلاناً رقم (ج) مثلاً، ومن ثم خذ ما يترتب على ذلك.

فعندما ننزل الكلام على معين لابد أن نسيء الفهم، أما عندما نأخذ الكلام ككلام عام ولا ننزله فإن الأمر يكون سهلاً.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، فكان كثيراً ما يقول: (ما بال أقوام نستعمل أحدهم على عمل، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي)، وكان صلى الله عليه وسلم يقصد شخصاً معيناً ومعروفاً.

ولما قال صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) كان يقصد أقواماً معينين.

لكن هذا شيء، وأن تكون القاعدة عندنا أن ننزل الكلام على معينين، وبناءً عليه نسيء الفهم؛ فهذا شيء آخر لا يصح.

السبب السادس: القول باللازم:

يعني أن أقول: يلزم من كلامك كذا وكذا، فعندما أقول مثلاً: إن الأساتذة في المدارس هم البوابة لهذا المجتمع، وهم الذين يصنعون الجيل، ويتحملون المسئولية عن صياغة الجيل، وإلى غير ذلك، فيأتيني إنسان يقول: يلزم من كلامك أن العلماء ليس لهم قيمة، وأن خطباء الجوامع ليس لهم قيمة، وأن القضاة ليس لهم قيمة، وهكذا يرتب على كلامك لوازم معينة.

وتعرفون أنتم القاعدة الشرعية عند أهل العلم في التعامل مع اللازم، فيقولون: لازم الكتاب والسنة حق، أما لازم المذهب فمسألة يبحثها العلماء، فلازم المذهب هل هو مذهب أم لا؟ يعني: لازم قولي أنا هل هو قول لي أم لا، حتى أفترض أنه فعلاً يلزمني.

فباختصار: ليس هذا وقت تقرير هذه المسألة، لكن نقول: هذا اللازم له ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن تلزمني به فألتزم، أي: أن تقول لي مثلاً: إنه يلزم من كلامك كذا وكذا، أقول: نعم، أنا أعتقد كذا وكذا، الآن صار هذا قولاً لي بلا إشكال.

الحالة الثانية: أن تلزمني به فلا ألتزم، بأن تقول مثلاً: إن كلامك يلزم منه كذا وكذا، فأقول لك: لا يلزم من كلامي كذا وكذا، أو أنا لا أقصد كذا، فالآن لا إشكال أنه ليس قولاً لي.

لكن هناك شخص ليس عنده قاعدة، تقول له: أنا لا أريد كذا، أنا أعتقد كذا، فيقول لك: بل أنت تعتقد كذا، وتريد كذا، فهؤلاء ليس لنا معهم حديث، هذا إنسان سيئ النية، أو إنسان مغرض، أو عنده مشكلة ثقة، وأزمة ثقة، وليست القضية قضية فهم.

الحالة الثالثة: وهي التي يقع فيها النقاش الآن، وهي أن يفتي فلان بفتوى، أو يذكر في كتاب رأياً أو قولاً فيلزم منه كذا، فهل يمكن أن نقول: إنه يعتقد كذا، أو يرى كذا، فأفتى في مسألة فقهية معينة، كأن قال مثلاً: من فعل كذا فإن طهارته باطلة، فنقول: إنه يلزم منه مثلاً أن صلاته باطلة، ويلزم منه كذا وكذا، فهل نلزمه بهذه الفتوى؟

فنقول مثلاً: عندما يفتي الإمام أحمد بفتوى، فيلزم منها فتوى أخرى أو رأي آخر، هل نقول: إن الإمام أحمد يرى هذا اللازم فنجعله مذهباً له أم لا، وذلك بدون أن يلتزمه أو ينفيه؟

الصحيح أن لازم القول ولازم المذهب ليس مذهباً؛ لأن الإنسان بشر، قد تقول: إن كلامك يلزم منه كذا، فأقول: أنا أعترف لك أن كلامي يلزم منه كذا، لكني لا أعتقد هذا، فنتيجة حماس إنسان، أو نتيجة موقف مناظرة، أو نقاش مثلاً قد يقول كلاماً غير موزون، فيغيب عنه اللازم؛ لأن الإنسان بشر، أو قد لا يسلم لك، فيقول: لا أسلم لك أصلاً أن هذا يلزم منه كذا وكذا.

على كل حال ليس هذا مجال تقرير هذه المسألة الأصولية، المقصود منها: أن لازم المذهب ليس مذهباً، وأن لازم القول ليس قولاً، خاصة أننا نفرط في اللوازم.

السبب السابع: عدم إدراك أطراف الموضوع:

إنسان يتكلم في موضوع لم يدرك أطرافه إدراكاً كاملاً، فمثلاً: شخص كتب كتاباً عن مشكلة من المشاكل، فأتيت أنت وقرأت مقطعاً منه، وانتزعت المقطع، ففصلته عما قبله وما بعده فتعطيني إياه، فأقول لك: نعم، ما في شك أن هذا يحتمل كذا وكذا، لكن لو كنت أعرف الموضوع الذي يتحدث عنه، وأدركت أطراف الموضوع كله، سأفهم القضية فهماً آخر.

دعونا نضرب مثالاً في هذه المحاضرة: واحد ما حضر معنا الجزء الأول، عندما يأتي يقول: أنت الآن تشن حملة على من يسيء الفهم، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقعوا في خطأ في الفهم، وكلامك يلزم منه أنك تنتقص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أنك سيئ المعتقد لأن قلبك ليس سليماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

فهذا لو أدرك أطراف الموضوع كله؛ لعلم أني تحدثت عن هذه القضية، وإذا كان يلزم من كلامي هذا فأنا لا ألتزم، فهو أحياناً لا يعرف ما هي المشكلة، فكم يثار نقاش حول قضية من القضايا بين عالمين فيدخل فيها أفواج لا يعرفون ما هي القضية أصلاً، ولا يستطيع الواحد منهم أن يستوعب القضية موضع الخلاف.

السبب الثامن: الربط المتكلف:

أن يقول كلاماً هنا وكلاماً هناك، فيربط بينها برابط، فيقول مثلاً: أنا عندما آخذ كلامك في هذه المحاضرة، وكلامك الآخر الذي قلته في خطبة الجمعة، والكلام الذي قلته في الفصل، والكلام الذي قلته في المجلس، سأحصل على نتيجة معينة.

أو أنت قلت كلاماً، وفلان قال هذا الكلام، إذاً: هذا دليل على أن بينكما ارتباطاً وتنسيقاً، وهذا يعني أنك توافق فلاناً على هذا الاتجاه.

بعض الناس عنده استعداد أنه يربط مباشرة افترض أني أقول: قال فلان من الناس، فعندما تقول: قال فلان، فهذا يعني أنك لك به علاقة، أو أنك تقول بأخطائه، ففلان يقول كذا وكذا، وحين تستشهد بكلامه فهذا يعني أنك تقره، أو أن بينك وبينه علاقة.

وكم نرى أحياناً من اتهامات ليس لها أساس، مثل أن فلاناً له علاقة مع فلان، أو أن فلاناً ينتمي إلى مدرسة فكرية أو مذهبية، أو إلى توجه معين، وفي النهاية كلها أوهام مع أوهام حتى تصل إلى قناعة عندنا.

السبب التاسع والأخير: التصحيف، وركاكة الفهم:

فالتصحيف مثلاً أن يقرأ كلمة قراءة خاطئة، أو يسمعها سماعاً خاطئاً، وهو مشهور عند أهل الحديث، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم احتجر موضعاً في المسجد، فرواه أحد الرواة: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد) فجعل بدل الراء ميماً.

ومن التصحيف في اللفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال)، رواه أحد الرواة فصحفت عليه فرواه: وأتبعه شيئاً من شوال. وهذا مبحث مشهور عند المحدثين.

ومن التصحيف التصحيف في المعنى، فمثلاً: أبو موسى العنزي قال: صلى إلينا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من قبيلة عنز، وذكر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنزة، فتوهم أنه صلى إلى قبيلة عنزة، بينما العنزة معروفة وهي العصا، فهذا الآن ما تصحف عنده اللفظ، لكن تصحف عنده الفهم والمعنى، وهذا مشهور في كتب مصطلح الحديث.

بل هناك كتب خاصة في التصحيف وأغلاط المحدثين، تجد فيها نماذج وأمثلة حول هذا، ومنها أمثلة طريفة، وأنا أذكر مثلاً أننا كنا مرة في مناسبة فقرأ واحد في مجلس ورقة فيها خبر، وفي النهاية قال: حرر في بيت فلان وفلان، فأدخل الورقة، وجلسنا نتناقش، فقال واحد: إن بيت فلان حرق، فتناقشنا كيف حرق؟!

ونحن جازمين بالنتيجة، قال: قرأها الأخ في الورقة، سمع (حرر)، فرأى أنها (حرق).

وأحياناً ركاكة الفهم، بعض الناس كما يقال: تقول له زيد فيكتب خالداً ويقرؤه عمراً ويفهمه بكراً وفهمه ثقيل، وهذا ليس له حل، لكن نقول له: إذا كان فهمك ثقيلاً، فلا تحاكم الآخرين إلى فهمك.

فبعض الناس بليد لا يفهم؛ ولهذا يلزم الآخرين بفهمه، وهو حسن النية، وليس عنده أصلاً سوء ظن، ولا تصحيف ولا تحريف، لكن فهمه لا يمكن أن يصل به إلا إلى هذا الحد.

ولهذا أيضاً ينهون عن أن يحدث الناس بما لا يعرفون: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله)؟! ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة).

فهناك طبقات من الفهم والاستيعاب، فيجب أن نراعي هذه القضية، فأنا عندما أتحدث مع عامة، أو طلاب صغار، قد يكون الكلام حقاً، لكن قد لا يسوغ أن أقوله أمام العامة؛ لأن عقولهم لا تبلغه، فهناك من عقله لا يبلغ فهم هذا الأمر، فيفهم فهماً سيئاً.

مقترحات للعلاج

بعد ذكر هذه الأسباب ننتقل إلى بعض المقترحات للعلاج، ونحن عندما ندرك الأسباب سندرك العلاج مباشرة، لكنني سأشير إشارة عاجلة إلى بعض الأسباب المهمة التي يمكن أن تعيننا على التخلص من نتائج سوء الفهم:

أولها: حسن الظن بالمسلمين:

أي: أن تكون القاعدة عندنا حسن الظن بإخواننا، وكم ترى ممن يتشبه بهدي الخوارج الذين يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، فالمجرمون والطغاة والمفسدون في الأرض يجد لهم ألف تأويل، أما إخوانه فلا يمكن أن يجدوا تأويلاً لديه، فضلاً عن أن يكون الأصل عنده حسن الظن.

فأين القواعد الشرعية يا إخوة؟! فكم تغيب عنا هذه المعاني، فالأصل أن يحسن المرء الظن بإخوانه المسلمين، فعندما يقول المسلم كلاماً يحتمل (أ) ويحتمل (ب) فيجب أن أحمله على أحسن محمل، فأقول مثلاً: فلان قال هذا، لكن هذا القول لا يليق به، فلا أتصور أنه يقصد كذا، أو لا أتصور أنه يريد كذا، إنما أتصور أنه يريد الأمر الآخر.

وأحياناً يكون الاحتمال (أ) بنسبة (80%)، لكن الاحتمال (ب) بنسبة (20%)، ويكون الاحتمال (ب) هو الأولى ظناً؛ فينبغي أن أحمله على هذا المحمل.

ثم ما المشكلة عندما أحسن الظن بفلان، وأكتشف أنه على خلاف ذلك؟! لا توجد مشكلة.

وكم نرى ممن يقيم معارك داخل الصف لأجل قضايا تافهة كلها كانت ناتجة عن إهماله لهذا الأدب الشرعي، ألا وهو حسن الظن بإخوانه المسلمين.

فنحن يجب أن نحسن الظن بالمسلمين ابتداءً، فضلاً عن طلبة العلم، فضلاً عن أهل العلم والدعاة، والناس الذين يتصدون لخدمة دين الله عز وجل، ولا يسوغ أن يقرأ المسلم الخير العادي في الصحف، أو يسمع تقارير سياسية عن الدعاة، فيحملهم على هذا المحمل وهو قد جرب على هذه الصحف كذباً، فكم نقرأ في صحف أو وسائل إعلام نعرف أنها سيئة عن بعض المشاكل التي تحصل في الخارج، فنحكم على إخواننا من خلال ما قاله هؤلاء، ولا نحسن الظن بإخواننا.

فأقول: يجب أن تكون عندنا قاعدة أن نحسن الظن بإخواننا المسلمين عموماً، فضلاً عن الناس الذين يتصدون للخير، والذين ظاهرهم الخير والصلاح.

نعم، هناك من يتستر، وهناك أناس سيئون، لكن لا يمكن أن تقودنا الغيرة على الدين والإسلام إلى أن نفتش عن الأخطاء والعيوب.

ثانيا: عدم تتبع الزلات:

خطوة أخرى أيضاً: ألا نعمد إلى تتبع عورات الناس وزلاتهم، ومن تتبع عورات إخوانه المسلمين تتبع الله عورته؛ حتى يكشفه ولو في جوف بيته، وتتبع الزلات والعورات والأخطاء وتصيدها مظهر من مظاهر مرض القلب، عافانا الله وإياكم.

والبشر لابد أن يقعوا في الخطأ أياً كان، لكن حين لا نسأل إلا عن الزلات، ولا نبحث إلا عن الأخطاء، فلابد أن نصل إلى مثل هذه النتائج، وهب أن فلاناً أخطأ، أو قال ما لا يليق، أو فعل ما لا يليق، فإن هذا لا يصح أن يكون مدعاة إلى أن تبحث عن مرادف لهذا الخطأ، ثم تبحث عن ثالث، ثم عن رابع؛ حتى تصل إلى نتيجة وقناعة تريدها نفسك.

ثالثاً: الدقة في النقل:

فأنت عندما تنقل يجب أن تنقل الكلام بلفظه وحروفه، ثم بعد ذلك من حقك أن تذكر فهمك، لكن يجب أن يعلم الجميع أن هذا فهمك، وليس هذا هو ما يقصده.

وأيضاً يجب أن نفرق، فقد يحدثني شخص صالح موثوق، لكنه يحدث عن فهمه هو، وعن تقييمه هو للقضية.

فمثلاً: رجل صالح لا أشك فيه، ولا يمكن أن يتعمد الكذب، لكنه ينخدع بالظواهر، فجاء إلى بلد والتقى بمجموعة من الناس، فحدثوه عن فلان، فجاءنا فقال: رأيت أهل البلد يقولون كذا وكذا، أو جاء فرأى موقفاً وحكم عليه هو، فأنا عندما يقول لي: قال فلان كذا وكذا، لا أتهمه، لكن عندما يأتيني بفهمه هو، ففهمه ليس ثقة، فيبقى مجال للنقاش، عندما يروي لي رواية للحدث فيقيم هذا الحدث، يجب أن نفرق بين روايته هو وبين حكمه وتقييمه للنتيجة التي وصل إليها.

رابعاً: الجمع بين المتفرق:

من العجب أن تجد شخصاً يلزم بمسألة وهو قد صرح بنفيها في موضع آخر، أضرب لكم مثالاً عن سيد قطب رحمه الله فقد كان أديباً، والأديب يستطرد، فقال في سورة (قل هو الله أحد): إن المسلم يشعر بأن هذا الوجود صادر عن واحد، فلا يرى إلا الله سبحانه وتعالى.

فهذه عبارة توهم منها أنه يرى وحدة الوجود، فجاء البعض وقال: إنه يرى وحدة الوجود، بينما هو قد صرح في موطن آخر أنه لا يرى وحدة الوجود، وصرح بانتقاد أصحاب وحدة الوجود بالاسم، وانتقد ما هم عليه، فهذا الكلام يعطيك قناعة أن الرجل ما يعتقد هذا، وإلا لما صرح به.

الرجل كان له مواقف مع جمال عبد الناصر ومع حمزة البسيوني ، ومع غيرهما من الطغاة؛ فهل كان يعتقد أن جمال عبد الناصر هو الله مثلاً؟ لأن أصحاب وحدة الوجود يرون أن كل شيء هو الله، لو كان يعتقد أنه الله لما حدثت بينهما مشكلة.

عندما نكون منصفين فسنصل بداهة إلى هذه النتيجة.

صورة أخرى أيضاً من الشخص نفسه، عندما تحدث عن الكون وخلق الله عز وجل، يقول: إن المسلم يرى أن هذا الكون من خلق الله عز وجل، فهو يحب كل ما في هذا الكون؛ لأنه يرى أن هذا الكون صادر عن الله عز وجل، هذه عبارة شخص أديب، فجاء رجل فاضل، فقال: هذا يترتب عليه أنه يحب الشياطين، ويحب الكفار! مع أن له مواقف واضحة من اليهود والنصارى والكفار .. إلى غير ذلك.

شخص يقول كلاماً فيفهم منه أنه يرى رأياً ما، بينما تراه قد ألف كتاباً كاملاً في تفنيد هذا الرأي ومناقشته، فهل يمكن أن نتهمه بعد ذلك بأنه يقول هذا الرأي؟!

هذا منطق غير مقبول، ولهذا يجب أن ندرك شخصية الإنسان عندما نريد أن نحكم عليه، فننظر ما عنده، وما هي منطلقاته، فأنا مثلاً أقول هذا الكلام عن سيد قطب رحمه الله، فيأتيني شخص ويقول: إنه ما وقع في خطأ؟

فأقول له: بل وقع في خطأ، فهو يخطئ مثلما يخطئ غيره، لكن لا يدعونا هذا إلى أن يكون الخطأ عندنا هو القاعدة، وأن نحاكم الرجل على كل موقف قاله، فنبدأ نقيم ونراجع، وأنه يقصد كذا ويقصد كذا، وكذا غيره من علماء الإسلام السابقين، الذين ألزموا بلوازم لا يقولون بها أصلاً.

 

هذه خواطر عاجلة حول هذا الموضوع، وأرجو ألا أكون أنا وقعت في سوء الفهم حين تحدثت عن سوء الفهم، وأيضاً ألا يساء فهم ما قلته وأنا أتحدث عن سوء الفهم.

وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجنبنا وإياكم الزلل في القول والعمل.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود

 رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود   ما أجمل أن يتلمس الدعاة في عصرنا الحاضر السير على خطى الأنبياء، والتخلق بأخلاقهم، والاقتداء بهم في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، من خلال المنهج القرآني في عرض قصصهم، وأحوالهم مع أقوامهم؛ من خلال دراستي لأحد سور القرآن (سورة هود)

تاريخ الإضافة : 24 أبريل, 2024 عدد الزوار : 41 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع