قوانين السعادة

9- استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان

قال تعالى:﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [يوسف: 4-5]

فالرؤيا تبين أن يوسف سيكون له شأن كبير في المستقبل فأوصى يعقوب ابنه يوسف عليهما السلام بعدم إفشائه لإخوته لكيلا يحدث شيء من الحسد ؛ فدل هذا على جواز كتمان النعم، خوفاً من الحسد.

وفي نفس السورة: ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ [يوسف: 67]

وذلك أنه خاف عليهم العين، لكونهم أحد عشر أخا أبناء رجل واحد، وإني إذ أوصيكم بهذا لا أدفع عنكم شيئًا قضاه الله ، فما الحكم إلا لله وحده، عليه توكلت، وعليه وحده يتوكل المؤمنون.

والنبي ﷺ قال : ( العين حق. وإن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر. )

أي ترى الجمل طول بقوة بضخامة؛ عين واحدة تصيب الجمل تدخله القدر يعني يقع في الأرض فيدركونه فيذبحونه، فيدخل القدر ليكون طعاما.

وتجد الرجل ما شاء الله صحة وقوة وشباب، فتصيبه العين فربما يموت من أثر هذه العين.

وورد في الحديث عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله ﷺ : (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود. ) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.

معنى الحديث :النبي ﷺ يعلمنا الاستعانة بالكتمان في قضاء حوائجنا ، لأن النعمة تجلب الحسد، فإذا علم الناس بأمرك قد يحسدك بعضهم، وقد لا يتم الأمر على وفق ما كنت تريد أو تخطط؛ فمن أجل هذا علمنا رسول الله ﷺ أن نستعين على قضاء حوائجنا بالكتمان، وليس كل ما نعرفه نخبر به وليس كل الناس صالحا لأن تأتمنه على مشورة أو تأتمنه على مشروع أو على حياتك الخاصة وما شابه ذلك.

وقد ابتلينا في الفترة الأخيرة بالفيسبوك وغيره من وسائل التواصل وصار كثير من الناس عندهم هوس أن ينشر أحدهم حياته الخاصة على الفيسبوك، ومن المؤكد أنه لا مانع من نشر أخبار طيبة أو إنجاز أو وجهة نظر، لكن الإشكال فيمن ينشر حياته الخاصة كلها على الفيسبوك.

• الأخت تطبخ طبق من الحلوى تصوره وتنشر على الفيسبوك .
• صورة بالأحضان أنا وزوجي سندي في هذه الحياة.
• في عيد زواجنا هدية من زوجي حبيبي خاتم رائع جدا.
• هاتفي الجديد …فستاني الجديد… عباءتي الجديدة.
• أول مرة اعمل مشاوي كباب هذا الصيف مع صورة للحم!!
• سافرت رحلة هي وزوجها تقول: أنا وزوجي ركبنا الطائرة الآن نزلنا من الطائرة… ركبنا السيارة ….نزلنا من السيارة …طبعا بعدها هي وزوجها وعيالها في المستشفى ، أو تجد البيت مليء بالمشاكل التي تصل للطلاق.

سألت الشرطة اللص كيف عرفت أن البيت خالي من السكان؟ قال: من الفيسبوك!!الرجل متابع المدام وعارف أن المدام ستسافر إلى أين ومتى وستقضي كذا وتفعل كذا… فاللص رتب أموره من خلال الفيسبوك.

ومن الممكن أن أحكي لكم عن وقائع رأيتها بعيني ، منها أني رأيت على الفيسبوك أحد الإخوة صور رحلة للعائلة في مكان جميل ، وأولاده في حالة من المرح والسعادة ، وهممت أن أرسل له ليحذف هذه الصور خوفا عليهم من أعين الناس، لكني ترددت ولم أفعل لحكمة يعلمها الله، وفي اليوم التالي رأيته ينشر صورة أحد أولاده بالمستشفى انكسرت رجله!

ونشرت الصحف صورا للفتاة المتفوقة وهي الأولى على الثانوية العامة بمصر عام 2025 وبعد أسبوع نشروا خبر وفاتها!!!

وأمور كثيرة أخرى حصلت لناس تنشر على الفيسبوك وتفتخر وتتكلم، ولا يدرون أن هناك من يرى ويتأمل ويكبر الصورة ويفتح وينظر الى أثاث البيت والستارة والملابس وساعة اليد بل والحذاء يفصل الصورة تفصيلا بدون أن يقول اللهم بارك … وأنت غافل عن كل هذا.

فنصيحتي خلي صورك وذكرياتك، وأمورك العائلية خاصة بك أو خاصة بمن تحب ومن يحبك، إنما إطلاع العالم كله على حياتك الخاصة وعلى صورك الخاصة، وعلى رحلاتك، وعلى سيارتك الجديدة …أنت لا تدري من يقلب الصفحات في هذه الصور وهذه الأشياء.

ألف ألف مبارك لسقوط بنت خالي:

من طريف ما ينشر على الفيسبوك: الآن في مصر إعلان لنتيجة الشهادة المتوسطة الإعدادية،  فكتب أحد الأشخاص هذا المنشور:

قال ألف ألف مبارك لسقوط بنت خالي في الشهادة الإعدادية، لأن والدها دفع لها فلوس الدروس الخصوصية من ميراث أمي!!!!

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فوصل الحال في الناس الفرح والشماتة في المصيبة، لماذا؟ لأن خاله هذا -على ما زعم-، أكل ميراث أمه.

لا تخبر الناس بكل شيء

سرقة مشروعك أو تثبيط همتك:

ومن الأسباب التي تؤكد أن الكتمان مصلحة لنا أن بعض الناس قد تلمع له الفكرة التي سمعها منك فتروق له فيسرقها منك، ثم يسبقك بها، ويقول للناس: هذا من بنات أفكاري!!

وقد تجد بعض الناس عندهم النظرة السوداوية للأمور فما إن تعرض عليه شيء إلا ويفشله لك قبل أن يكون، فيذكر لك ألف مصيبة في هذا الأمر الذي تريده، سيحدث كذا وسيحدث كذا والسوق فيه كساد وفيه خسارة ولا تلقي بأموالك.

 وهذه النصائح إذا خرجت من خبير بالسوق وناصح أمين فهي مقبولة، لكن تخرج من شخص أعلى ما وصلت إليه ثقافته الفيس بوك، فهذه مصيبة، لأن (المستشار مؤتمن)، وأنا إذا أردت أن أستشير سوف أستشير أهل الثقة، والخبرة وهناك شركات ومكاتب متخصصة الآن في عمل دراسة جدوى للمشاريع.

فاقض حاجتك بالكتمان بعيدا عن المثبطين، تقول أنا نويت أن أدرس كذا فيقول يا رجل أنت لست عندك وقت تدرس؟ هذه الدراسة غالية، الذين أخذوها ماذا فعلوا بها؟ أنصحك ألا تدرس، لا اللغة الفلانية صعبة المجال الفلاني صعب، هذه الشهادة صعب الحصول عليها، أنا أعرف فلانا وفلانا تقدموا لها وفشلوا لم يحصلوا عليها، وهؤلاء المثبطين تجدهم في كل مكان للأسف الشديد، وترى أحدهم، وقد جعل خبرته المحدودة هي خبرة للعالم كله، كأنه صار خبيرا في كل شيء، وبعضهم لما تستشيره في أمر يقول لك العالم يقولون كذا وكذا، العالم فعلوا كذا وكذا، والعالم في بال صاحبنا هم مجموعة من أصدقائه على الفيس بوك، هذا هو العالم عنده!!

 فالمثبطون دائما يجعلون الهمة دنية يجعلون الإنسان يتردد في فعل أي شيء أو الإقدام على أي خطوة.

كيف نفهم الآية (وأما بنعمة ربك فحدث) ؟كيف نتحدث بنعمة الله؟

التحديث يكون بذكر النعمة والإخبار بها. وقول العبد: أنعم الله علي بكذا وكذا، والتحدث بنعمة الله شكر.

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال: (إن الله يحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده) أخرجه الترمذي – وقال: حديث حسن

وعن جابر مرفوعا “من صنع إليه معروف فليجز به، فإن لم يجد ما يجزي به فليثن عليه. فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط، كان كلابس ثوبي زور” صححه الألباني .

فالتحديث بنعمة الله يكون بشكرها وإظهار آثارها، كما جاء في الحديث ولما

ورأى الرسول ﷺ رجل رث الثياب والهيئة كما في الحديث عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيتُ رسولَ الله ﷺ وعليَّ ثوب دون، فقال لي: (أَلَك مالٌ؟)، قلت: نعم، قال: (مِن أي المال؟)، قلت: مِن كل المال قد أعطاني الله: من الإبل، والبقر، والغنم، والخيل، والرقيق، قال: (فإذا آتاك الله مالًا، فَلْيُرَ أثرُ نعمة الله عليك وكرامته).

فهذا تحديث فعلي بنعمة الله، وكذلك يشرع الحديث القولي إذا أمن الإنسان العجب، فيتحدث بنعمة الله تبارك وتعالى عليه.

وعلى المسلم أن يحرص على أن تقضي الحاجات من طريقه، وهذا هو سر الأمر بالتحدث بها، فالغني مثلاً يظهر أثر النعمة عليه بحيث يتوجه الفقير إليه ويسأله.

وفي الآية تنبيه على أدب عظيم: وهو التصدي للتحدث بالنعمة وإشهارها؛ حرصاً على التفضل والجود والتخلق بالكرم، وفراراً من رذيلة الشح الذي رائده كتم النعمة والتمسكن والشكوى، ومن عادة البخلاء أن يكتموا مالهم؛ لتقوم لهم الحجة في خفض أيديهم عن البذل، فلا تجدهم إلا شاكين من قلة ذات اليد، أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل ما آتاهم الله من فضله، ويجهرون بالحمد بما أفاض عليهم من رزقه، فالتحديث بالنعمة كناية عن البذل وإطعام الفقراء وإعانة المحتاجين.

ويشهد لذلك قول الله تعالى:  (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) فأنت عرفت في نفسك ما يكون فيه الفقير، فأوسع في البذل على الفقراء، وليس القصد في مجرد ذكر الثروة، فإن هذا يتنزه عنه النبي “ﷺ، ولم يعرف عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يذكر ما عنده من نقود وعروض، ولكن الذي عرف عنه أنه كان ينفق ما عنده ويبيت طاوياً “ﷺ.

فهذا أول شيء التحدث بنعمة الله عليك بأن يظهر أثر نعمته عليك في نفسك، لا تبخل على نفسك، ثم لا تبخل على زوجتك وأولادك، فهذا البخيل يبخل عن نفسه ويبخل عمن حوله ويكتنز المال كنزا ويمتنع عن الضروري من النفقات تحت أي دعوى من الدعاوى الكاذبة التي يوهم نفسه بها، لكن كما وصف لنا الله عباد الرحمن ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67]، وسط لا إسراف ولا تقدير، ليس البخيل الذي يفكر أين يصرف أمواله، وليس البخيل الذي يحسب للأمور حساباتها، وليس الذي ينفق على قدر دخله، هذا إنسان متوازن، هذا إنسان يعرف كيف ينفق المال بحيث لا يصل إلى درجة أنه يكون عبدا للفواتير والأقساط الشهرية، كلما جاءه الراتب الشهري وزعه ويبقى بقية الشهر محزونا مكروبا، فهذا سوء تدبير.

إذن المسلم يُرى الله تعالى أثر نعمته عليه من غير إسراف ولا تقتير.

ويذكر أن بعض العلماء رآه الناس يلبس ثيابا جميلة، فقالوا تلبس هذه الثياب وأين الزهد؟ فقال لهم : (نعم الثياب الفاخرة للقلوب الطاهرة) 

الحسد في الطاعات

ومن المستحب للمؤمن أن يسر بطاعاته وأن يكتمها عن الناس خاصة النوافل وأحواله الإيمانية مع الله ، وكذلك الرؤى الصالحة، فقد يصاب المسلم بالحسد على طاعته، فيحسد لمحافظته على الجماعة أو قيام الليل، أو صيام التطوع ، فيصاب بثقل ونفور كبير بعد همة ونشاط ويقع ذلك له بقدر الله الكوني لا الشرعي .
قال تعالى في محكم كتابه : ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ  فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ  إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 109]

وقال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ  فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 54]

فالله تعالى يحذر عباده المؤمنين من حسد الكفار من أهل الكتاب لهم مع علمهم بفضلهم، وفضل نبيهم ، فذم اليهود على ما حسدوا المؤمنين على الهدى والعلم ، وفي الحديث عن عائشة : ( ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين)

أي حسدوكم على إفشاء السلام فيما بينكم؛ وذلك لما فيه من إظهار المحبة والود بين المسلمين بعضهم البعض، والرفق فيما بينهم، “والتأمين”، أي: قولكم “آمين”، أي: خلف الإمام؛ لما علموا من فضلها وبركتها.

وفي رواية: “إنهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين”.

ومما لا شك فيه أن نعمة الدين من أفضل النعم على الإطلاق ، لأن بعض الناس –خاصة المحرومين من العبادة والطاعة– يحترق قلبهم عندما يرون بعض عباد الله قد أكرمهم الله تعالى بالاستقامة والثبات على دينه، فكما يحسدون الناس على أموالهم، وعلى أولادهم، وعلى صحتهم، قد يحسدون الناس أيضًا على دينهم، وهذا كثير ومطرد، بل كما ثبت أن كثيرًا من الناس قد يؤثر الحسد فيهم تأثيرًا بالغًا، فقد يكون متفوقًا في طلب العلم والتعليم فيحسده بعض أقرانه أو من رآه، فتجده وقد نسي كل شيء وأصبح مُهملاً في طلب العلم والتعلم.

والعلاج في الكتمان وعدم إطلاع كل الناس على أحواله، فإن أصيب بشيء استرقى من العين بالأذكار الشرعية.