الربانية في الصيام
حل بنا شهر رمضان المبارك ضيفا كريما عزيزا طال شوقنا إليه، قال جل وعلا: ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) [ البقرة185]
اليوم -إن شاء الله- تعالى سنتكلم على موضوع الربانية في الصيام.
عناصر الخطبة:
أولا/ ما هي الربانية؟
ثانيا/ كيف نحقق الربانية في الصيام؟
- طاعة أمره جل وعلا.
- الربانية أن نعبد الله كما شرع الله.
- مراقبة الله.
- الإخلاص باحتساب الأجر عند الله.
- قبول الرخصة لأصحاب الأعذار بالإفطار.
أولا/ ما هي الربانية؟
الربانية وردت في قول الله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ٧٩﴾ [آل عمران: 79]، فكلمة رباني نسبة إلى الرب، كما ننسب شخص للمغرب فيقال مغربي ومصر مصري، فـ (رب) النسبة إليها ربي وزيدت الألف والنون من باب المبالغة في اللغة العربية.
فمعنى رباني يعني منسوبا إلى ربه جل وعلا ، والنسبة هنا معناها نسبة اختصاص وتشريف من الله- عز وجل-، فأنا رباني يعني منسوبا إلى ربي جل وعلا، يعني أنا مخلص لله، أعلم ما يريده مني مولاي واعمل به وأعلمه لغيري.
فالرباني من أخلص لله نسب إلى ربه نسبة اختصاص، فهو يعلم ما يريده الله منه، الحلال والحرام الأوامر والنواهي، فهو منسوب إلى الله، إذن هو يعمل بمنهج الله، ثم يعلّم ما علم، فهو عالم عامل معلم .
والآية الثانية ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [المائدة: 44]
إذن فالرباني هو من علم وعمل بما علم مخلصا لله- عز وجل- علم الناس ما يعلم، ويتضح هذا المعنى جليا في آخر سورة الأنعام ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ١٦٢ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ١٦٣﴾ [الأنعام: 162-163]
هذا وقد أشار النبي إلى معنى الربانية في قوله: ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إلى آخر الحديث)
إيمانا : إيمانا معناها تصديقا لأمر الله أن الذي فرض عليك الصيام هو الله- عز وجل-
واحتسابا : يعني مخلصا لله لا يبتغي الأجر إلا من الله، يبتغي وجه الله بصيامه، فهو محتسب الأجر عند الله.
أي واحد فينا يقوم بعمل من الأعمال يأخذ الراتب من الشركة اللي يعمل فيها ، فأنا حينما أصوم من أين آخذ أجري؟
نقول لك أنت محتسب عند الله، تقول عند إفطارك عند أذان المغرب: ( اللهم لك صمت) لك وحدك (وعلي رزقك أفطرت) أنت يا رب الذي رزقت، فهذا معنى الإيمان والاحتساب.
ثانيا/ كيف نحقق الربانية في الصيام؟
- طاعة أمره جل وعلا (كتب عليكم الصيام) :
وهذا من مقتضيات العبودية لله تعالى؛ فإن مبنى العبودية على التسليم والانقياد، وتنفيذ أمر الله من غير اعتراض، لأن مقتضى العبادة لله وحده أن يخضع العبد أموره كلها لما يحبه تعالى ويرضاه، من الاعتقادات والأقوال والأعمال، وأن يكيف حياته وسلوكه وفقا لهداية الله وشرعه، فإذا أمره الله تعالى أو نهاه، أو أحل له أو حرم عليه كان موقفه في ذلك ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ٢٨٥﴾ [البقرة: 285]
ففرق ما بين المؤمن وغيره؛ أن المؤمن خرج من العبودية لنفسه وللمخلوقين إلى العبودية لربه.
خرج من طاعة هواه إلى طاعة مولاه ، أن يقول الرب: أمرت ونهيت، ويقول العبد: سمعت وأطعت.
- الربانية أن نعبد الله كما شرع الله:
عندنا الإمساك الساعة كذا، الإفطار الساعة كذا انضباط ، اعبد الله كما أمر الله، لا طعام لا شراب تجنب كذا، طيب ما الحكم لو حدث كذا؟ ما الحكم لو جرى كذا؟
لماذا الناس يدققون بكثرة الأسئلة في هذا الموضوع؟ لسببين:
الأول لأن الصيام ليس عبادة متكررة مثل الصلاة، فالناس ينسون.
الثاني: أن كل واحد منا يريد صيامه سليما وصحيحا، كما يريد الله- عز وجل-، ولذلك نرجع إلى علمائنا في الفتوى لنصوم كما أمر الله- عز وجل-
- مراقبة الله:
والإنسان فينا طوال الشهر يربي نفسه على مراقبة الله فمهما حدث لا يفعل ما يخرق صيامه أبدا.
الآن نمت وضبطت المنبه لتناول السحور فأصابتك غفلة لم تسمع صوت المنبه استيقظت بعد الفجر ماذا تفعل؟
أنت عطشان عطشا شديدا، وربما لم تتناول شيئا من بعد الافطار والمدة طويلة، وعندك يوم عمل طويل مرهق ماذا تفعل؟
مراقبتك لله تجعلك لا تمتد يدك إلى طعام ولا إلى شراب ، رغم حاجتك ، رغم عطشك ، أيضا عند أذان المغرب قبل المغرب بدقائق أمامك الطعام بمختلف أصنافه وأنواعه الروائح المثلجات كما يفعل الناس عند الإفطار … فكل هذا موجود أمامك وتملك أن تمتد يدك وتأكل لكن لا تفعلها ما الذي يمنعك؟
انتظر أذان المغرب بينك وبين المغرب دقيقتان يعني لا بأس إن شربت قليلا أو أكلت… كلا حتى يؤذن للمغرب.
وهذا الكلام نقوله لأن البعض منا يقول: والله أنا حاولت أترك المعصية الفلانية، ولم أستطع، أنا حاولت أن أقلع عن التدخين ، ولم أستطع، حاولت أن اترك الكذب أو أبطل الغيبة لم أستطع نقول لك لقد استطعت فعل ما هو أصعب ، وهو أن تمتنع عن الطعام والشراب الذيْن بهما حياة كل كائن حي، ورغم شدة احتياجك للطعام والشراب لا تمتد يدك لا إلى هذا ولا ذاك.
لكن ما الذي يمنعك؟
مراقبتي لله وخوفي من الله- عز وجل- أنا لا أريد أن أغضب الله لأن الله يراني.
الله يراني، هذه هي الربانية، وتحقيق معنى التقوى، بمراقبة الله- عز وجل-، ثلاثين يوما أتدرب على هذا المعنى، الله مطلع على كل أعمالي يراها الله- عز وجل-، فالرباني هنا مراقب لله- سبحانه وتعالى-.
- الإخلاص باحتساب الأجر عند الله:
والعلماء قالوا: إن الصيام من أفضل العبادات الدالة على الاخلاص أو المعينة على الاخلاص لماذا؟
لأن كل العبادات هي أعمال نقوم بها الصلاة عمل تتوضأ وتتوجه للقبلة وقيام وركوع وسجود، والزكاة عمل تنفق من مالك لله ، الحج تنفق من مالك وتطوف وتسعى إلى اخره.
أما الصيام فهو ليس بعمل ،الصيام امتناع عن الفعل : لا طعام لا شراب لا جماع للزوجة…. كله توقف من الفجر إلى المغرب من الذي يرى أنك ممتنع؟
من الذي يعلم أنك ممتنع؟
أنا ممكن أن أراك في الصلاة، أراك وأنت تنفق ، أراك وقد عزمت على الحج ، لكن أنتم أمامي الآن صائمون ما الدليل الحسي على ذلك؟
ليس هناك دليل ، ليس هناك فعل تقومون به ، ليس هناك عبادة بشكل مرئي أقول أنت صائم أو غير صائم ، إذن فالصيام امتناع عن الفعل وهذا أمر لا يعلم حقيقته إلا الله فصار إخلاصا بينك وبينه سر بينك وبينه ، وهذا مما يعلمنا أن تقوم بالعمل ، لا يهمك أن يراك الناس أو لا يرونك، ولا يهمك أن يعلم الناس عبادتك أو لا يعلمونها ؛ فأنت تحتسب ما تفعل عند الله- عز وجل- ودائما تجعل أمامك اللافتة القرآنية ﴿ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا١٤٧﴾ [النساء: 147]
عملت بعمل في السر لم يدر به أحد ، وربما صاحب العمل لا يعلم عنه شيئا ، لكنك قصدت وجه الكريم سبحانه فهذا هو الإخلاص ، لدرجة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لما ذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) البعض فهم الحديث على ظاهره إذا أراد أن يتصدق جعل يده وراء ظهره وكأن يده اليسرى لها عين ترى الصدقة وهي تخرج ، هذا ليس مقصود النبي- صلى الله عليه وسلم- ، مقصود النبي لأن اليمين والشمال متلازمتان ودائما نقول اليد اليمين اليد الشمال ، فلو أنك استطعت ألا تدري يدك الشمال لو كانت تعقل وترى لا تدري ما أنفقت اليمين فافعل ، هذا هو مقصود النبي تحري السرية في العبادة فهو أبلغ في الأجر.
قد تتطلع النفس إلى حظ من حظوظ الدنيا فلان متصدق أنفق كذا … حظ من حظوظ الدنيا فأنت حينما تتعود عبادة السر تخفي عبادتك ، فإنك بذلك تصل إلى درجة الإخلاص بمعنى أنك لا يهمك ما يقول الناس ، علم الناس لم يعلموا ، مدحوا أم لم يمدحوا ، بينك وبين الله- عز وجل-
- قبول الرخصة لأصحاب الأعذار بالإفطار:
ومن الربانية الأخذ بالرخصة في حال السفر والمرض وكذلك الحامل والمرضع، فالله الذي أمرني بالصوم هو الذي رخص لي في هذه الحالات أن افطر، فأنا عبد مطيع لله إذا صمت، وعبد مطيع لله إذا أفطرت (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر) الله أكبر، فعدة من أيام أخر؟ نعم، بمعنى أني أفطر وأقضي بعد ذلك ولي الأجر كاملا.
وفي الحديث (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ) رواه الإمام أحمد
والعزائمُ هي الأُمورُ واجبةُ الفِعلِ؛ لأنَّ أمْرَ اللهِ فِي الرُّخَصِ والعزائمِ واحدٌ، وهذا للتَّحذيرِ مِن التنطُّعِ في الدِّينِ، والأخذِ بالتَّشديدِ في جميعِ الأُمورِ؛ فإنَّ دِينَ اللهِ يُسرٌ.
وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته ) رواه أحمد
ونفهم من هذا الحديث: أنَّ الله عزَّ وجلَّ يُحِبُّ للمسلِم أن يأخذَ بالرُّخَص الشرعيَّة التي رخَّصها لعباده ، رحمةً بهم ؛ كما قال تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ١٨٥﴾ [البقرة: 185] فلا ينبغي للعبد أن يأنف عن قَبولِ ما أباحَه الشرعُ ووَسَّع فيه ، ويستنكف عن أن يترخص في خاصة نفسه ، حين الحاجة إلى مثل هذه الرخص ، بحدودها الشرعية ؛ فهذا ممَّا يكرَهه الله عزَّ وجلَّ ؛ كما يكرَه أن يتعدَّى الإنسانُ حدودَ الله فيأتي المعصية ؛ وفي هذا تأكيدٌ لمشروعية الرخص ، وحث على قَبولها والتيسير بها ، وعدم التعنت بتركها .
أحد الإخوة العام الماضي اتصل بي وهو يبكي، خير يا أخي أنا اشتد علي المرض وأفطرت اليوم وأنا خائف ؟
لا يا أخي لا تخف الله رحيم بعباده سبحانه هو أرحم الراحمين، هو الذي قال لك (كتب عليكم الصيام) وفي نفس الآية قال : ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)، فأنت كما صمت طاعة لله تفطر طاعة لله.
نفس الكلام للأخوات الأخت الحامل أو الأخت المرضعة، أنا أتعجب أن بعض الأخوات ضعيفة، والحمل أو الرضاعة أتعبها جدا، وتعاند وتصوم، والصيام في الثلاثة شهور الأولى من الحمل، وربما في الشهور الأخيرة يكون صعبا بمعنى الكلمة.
وفي الرضاعة بالذات لو الطفل حديث الولادة الرضاعة تحتاج منها إلى جهد وتتغذى، بخلاف لو الطفل بدأ يأكل ابن ستة أشهر أو أكثر فممكن نعوضه بالنهار ببعض الطعام، لكن أنا أقصد شيئا وهو يا أختي الله يرضى عليك، بدلا من أن تصومي وتأتي بطفل ضعيف هزيل مريض أفطري، أفطري طاعة لله- عز وجل-