يا باغي الخير أقبل
من رحمة الله عز وجل بعباده، أن جعل لهم مواسم للخير، يكثر أجرها ويعظم فضلها، حتى تتحفز الهمم للعمل فيها، فتنال رضا الله وفضله .
ورمضان أحد أعظم هذه المواسم ، فهو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، شهر يُنادى فيه : يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، ولله فيه عتقاء من النار كل ليلة .
إن رمضان لنعمة مسداة لنا من الله جل شأنه فهل عرفنا قدرها ؟
انظر إلى كرامة الله لك كيف أمد في عمرك حتى أدركته !
تذكر من كان معك فمات وسبقك وأنت بعده ولكن متى ؟!
عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين قَدِما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا، فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي
قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأْنِ لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثوه الحديث، فقال:
” من أي ذلك تعجبون ؟ ”
فقالوا: يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد، ودخل هذا الآخِر الجنةَ قبله !
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” أليس قد مكث هذا بعده سنة ؟ ”
قالوا: بلى
قال :” وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة ؟ ” قالوا: بلى، قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم : ” فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض ” رواه ابن ماجه بسند صحيح كما قال الألباني
وكان عليه الصلاة والسلام يبشر أصحابه بقدوم رمضان ويبين لهم فضائله، ليحثهم على الاجتهاد في العمل الصالح
فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه :” قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِمَ خيرها فقد حُرِمْ .فى الصحيحين من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:” إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة”- وفى لفظ مسلم:” فتحت أبواب الرحمة”
وينادى مناد : يا باغى الخير أقبل ويا باغى الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك فى كل ليلة حتى ينقضى رمضان”.
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- أنه صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى- فى الحديث القدسى الجليل-: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به والصيام جنة-أى وقاية- فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخط، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنى صائم، فليقل إنى صائم، والذى نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقى ربه فرح بصومه”.
الأعمال كلها تتضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد بل يضاعفه الله عز وجل أضعافا كثيرة بغير حصر عدد فإن الصيام من الصبر وقد قال تعالى : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب} [الزمر:10] ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى شهر رمضان شهر الصبر وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال : «الصوم نصف الصبر».
والصبر ثلاثة أنواع :
صبر على طاعة الله
وصبر عن محارم الله
وصبر على أقدار الله المؤلمة
وتجتمع الثلاثة كلها في الصوم:
فإن فيه صبرا على طاعة الله
وصبرا عما حرم الله على الصائم من الشهوات
وصبرا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش
وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه.
لماذا خص الله الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال ؟
خص الله الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال فقال : «إلا الصيام فإنه لي»
من أحسن ماذكر فيه وجهان :
أحدهما : أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عز وجل ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام لأن الإحرام إنما يترك فيه الجماع ودواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب وكذلك الاعتكاف مع أنه تابع للصيام وأما الصلاة فإنه وإن ترك المصلي فقد الطعام والشراب في صلاته بل قد نهي أن يصلي ونفسه تتوق إلى طعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكن نفسه ولهذا أمر بتقديم العشاء على الصلاة .
وهذا بخلاف الصيام فإنه يستوعب النهار كله فيجد الصائم فقد هذه الشهوات وتتوق نفسه إليها خصوصا في نهار الصيف لشدة حره وطوله ولهذا روي أن من خصال الإيمان الصوم في الصيف وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصوم رمضان في السفر في شدة الحر دون أصحابه كما قال أبو الدرداء وورد أنه صلى الله عليه وسلم كان بالعرج يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر .
فإذا اشتد توقان النفس إلى ماتشتهيه مع قدرتها عليه ثم تركته لله عز وجل في موضع لا يطلع عليه إلا الله كان ذلك دليلا على صحة الإيمان فإن الصائم يعلم أن له ربا يطلع عليه في خلوته وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة فأطاع ربه وامتثل أمره واجتنب نهيه خوفا من عقابه ورغبة في ثوابه فشكر الله تعالى له ذلك واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر الأعمال ولهذا قال بعد ذلك : «إنه إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي».
ولما علم المؤمن الصائم أن رضا مولاه من ترك شهواته قدم رضا مولاه فصارت لذته في ترك شهوته لله لإيمانه باطلاع الله عليه وثوابه وعقابه أعظم من لذته في تناولها في الخلوة إيثارا لرضا ربه على هوى نفسه بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشد من كراهته لألم الضرب وهذا من علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكرهه فتصير لذته فيما يرضي مولاه وإن كان مخالفا لهواه ويكون ألمه فيما يكرهه مولاه وإن كان موافقا لهواه .
الوجه الثاني : أن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره لأنه مركب من نية باطنه لا يطلع عليها إلا الله وترك لتناول الشهوات التي يستخفى بتناولها في العادة والله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سرا بينهم وبينه بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه
للصائم فرحتان للصائم فرحتان:
فرحة عند فطره
وفرحة عند لقاء ربه
أما فرحة الصائم عند فطره فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحه ما منعت منه خصوصا عند اشتداد الحاجة إليه فإن النفوس تفرح بذلك طبعا فإن كان ذلك محبوبا لله كان محبوبا شرعا والصائم عند فطره كذلك فكما أن اله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام بل أحب منه المبادرة إلى تناولها في أول الليل وآخره فأحب عباده إليه أعجلهم فطرا والله وملائكته يصلون على المتسحرين.
فالصائم ترك شهواته لله بالنهار تقربا إليه وطاعة له وبادر إليها في الليل تقربا إلى الله وطاعة له فما تركها إلا بأمر ربه و لاعاد إليها إلا بأمر ربه فهو مطيع له في الحالين . ولهذا نهي عن الوصال في الصيام فإذا بادر الصائم إلى الفطر تقربا إلى مولاه وأكل وشرب وحمد الله فإنه يرجى له المغفرة أو بلوغ الرضوان بذلك وربما استجيب دعاؤه عند ذلك كما جاء في الحديث :
«إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد»
وإن نوى بأكله وشربه تقوية لبدنه على القيام والصيام كان مثابا على ذلك كما أنه إذا نوى بنومه في الليل والنهار التقوى على العمل كان نومه عبادة فالصائم في ليله ونهاره في عبادة ويستجاب دعاؤه في صيامه وعند فطره فهو في نهاره صائم صابر وفي ليله طاعم شاكر.
ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه لم يتوقف في معنى فرح الصائم عند فطره فإن فطره على الوجه المشار إليه من فضل الله ورحمته فيدخل في قوله تعالى : {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]. وأما فرحه عند لقاء ربه فبما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخرا فيجده أحوج ما كان إليه .
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال:” من صام رمضان إيماناً وإحتساباً” أى إيماناً بالله واحتساباً بالأجر من الله-” غفر له ما تقدم من ذنبه”.
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- أنه صلى الله عليه وسلم قال: ” من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم له من ذنبه”
(إيمانا): أي مؤمنا بالله ومصدقا بأنه تَقرُّب إليه. (واحتسابا): أي محتسبا بما فعله عند الله أجرا لم يقصد به غيره. أي طالبا للثواب منه تعالى، أو إخلاصا، أي: باعثه على الصوم ما ذُكر؛ لا الخوف من الناس، ولا الاستحياء منهم، ولا قصد السمعة والرياء.
قال الخطابي: احتسابًا أي عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه، طيبة نفسه بذلك، غير مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيامه.
قال ابن الأثير: الاحتساب في الأعمال الصالحة وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر.
أي المبادرة إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، وباستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المشروع؛ طلبا للثواب ونجاة من العقاب.
(غفر له ما تقدم من ذنبه): قال النووي: إن المكفرات إن صادفت السيئات تمحوها إذا كانت صغائر، وتخففها إذا كانت كبائر، وإلا تكون موجبة لرفع الدرجات في الجنات.
فمَن صام الشهر مؤمنا بفرضيته، محتسبا لثوابه وأجره عند ربه، مجتهدا في تحري سنة نبيه e فيه فهو من أهل المغفرة.
رمضان تجارة رابحة
ضع لك برنامجاً عمليا لاغتنام هذا الشهر الكريم:
أولاً: المحافظة على الصلوات فى جماعة لا تضيع الصلاة
فى الصحيحين من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: “ألا أدلكم على ما يمحو به الله الخطايا ويرفع به الدرجات”. قالوا بلى يا رسول الله قال: “إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط”.
ثانياً: المحافظة على ورد يومياً فى كتاب الله جل وعلا:
منذ متى أنت لم تفتح القرآن هيا انفض عن القرآن الغبار وأخرجه من حقيبته، وأشرع فى تلاوة كتاب الله بفهم وتدبر اقرؤوا القرآن، فإنه يأتى يوم القيامة شفيعا لأصحابه …. رواه مسلم من حديث أبى أمامة.
ثالثاً: صلاة التراويح:
احرص على أن تقيم كل ليالى هذا الشهر الفضيل لا تضيع ليلة، وكما في الحديث (من قام مع الإمام حتى ينصرف إمامه كتب له قيام ليلة) فاحرص على أن تصلى التراويح كلها مع إمامك.
رابعا الجود والإنفاق :
فرمضان موسم الجود موسم الإحسان
روى البخارى عن ابن عباس- رضى الله عنه-:” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة في رمضان يعرض عليه القرآن”.
فرمضان شهر الجود شهر الإحسان شهر البر شهر النفقة.
أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً أنفق ينفق عليك.
روى البخارى ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة يقول فى الحديث القدسى:” يا ابن آدم أنفِق أُنفق عليك”
لو أنفقت تولى الإنفاق عليك من لم تنفد خزائنه، أنفق ينفق عليك الله {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (92) سورة آل عمران.
خامسا /رمضان شهر الذكر والاستغفار والتوبة
والحرص على الطاعة داوم على الذكر على أذكار الصباح وأذكار المساء وعلى الأذكار المطلقة، فليكن لسانك رطباً على الدوام بذكر الله سبحانه وتعالى .
سادسا الفوز بليلة القدر:
الليلة التي جعل الله ثوابها خير من ألف شهر وسوف نفصل الحديث عنها إن شاء الله في العشر الأواخر
اللهم لك الحمد أن بلغتنا رمضان
فنسألك أن توفقنا فيه إلى ماتحب وترضى ،
وأن تجعلنا فيه من عتقائك من النار
واجعلنا من المقبولين الفائزين
اللهم آمين