فضل الصيام والصائمين
عناصر الخطبة:
أولا/ الصيام لا عدل له.
ثانيا/ تحقيق التقوى.
ثالثا/ الصيام سببٌ لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات.
رابعا/ أن الصائم يُعطى أجره بغير حساب.
خامسا/ اختصاص أهله بباب الريّان.
سادسا / محبة الله لآثار الصيام على الصائم .
سابعا/ أنه يشفع لصاحبه يوم القيامة.
ثامنا/ إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة وغُلِّقت أبواب النار .
تاسعا/ ما خص الله به الأمة في رمضان.
عاشرا/ فهل من مشمِّرٍ إلى الجنة؟
أولا/ الصيام لا عدل له
من رحمة الله –سبحانه وتعالى- أن نوَّع لعباده العبادات؛ ليشتاقوا إليها ولينشطوا لكل عبادة في وقتها، ولئلا يملُّوا نوعًا واحدًا من العبادة، وإنما نوّعها لهم ما بين صلاة أحيانًا وذكرٍ وصيامٍ وحجٍ وزكاةٍ وغير ذلك.
وإنّ من العبادات الفاضلة الكريمة التي جاء بيان فضلها ومزيّتها في كتاب الله وسنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-عبادة الصيام، فالصيام من أجلّ العبادات وأعظم الطاعات والقُربات، ومن أعظم أدلة فضيلة الصيام فرْضيَّته على الأمم قبلنا كما فُرِض علينا؛ كما قال الله –تعالى- في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ١٨٣﴾ [البقرة: 183]، وإذا اتفقت الشرائع على أمرٍ في الخير، أو الشر دلّ على عظمته، فعندما بيّن الله –تعالى- في هذه الآية أنه فرض علينا الصيام كما فرضه على من كان قبلنا دلّ هذا على أنه عبادةٌ عظيمة، وأن للعباد الحاجة الماسّة إلى هذه العبادة؛ لِمَا لهم فيها من زكاءٍ وصلاحٍ وفلاح.
وقد أوصى به النبي الحبيب-صلى الله عليه وسلم-أبا أمامة، فقال عندما سأله عن أمرٍ يأخذه عنه ينفعه الله به أو عن أفضل العمل كما جاء في بعض الروايات قال له النبي-صلى الله عليه وسلم-: (عليك بالصوم فإنه لا مِثل له) وفي رواية: (لا عِدْلَ له).
ثانيا/ تحقيق التقوى
من فضائل الصيام أنه سببٌ لتحقيق التقوى؛ كما قال الله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ١٨٣﴾ [البقرة: 183] والتقوى : أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية باتباع أوامره واجتناب نواهيه، والتقوى اتقاء الذنوب باتقاء أسبابها، ومن أسباب الذنوب أخطاء اللسان والجوارح كلها، وذلك يعني أنّ الصيام فيه حفْظٌ للجوارح عن كل محرّم، سواء اللسان أو الجوارح الأخرى، فهو تقوى من الذنوب؛ لأنه يحفظ الإنسان في لسانه ويحفظه في جوارحه إذ هو متلبِّسٌ بالصيام، ولهذا جاء عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: ( والصوم جنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَله فليقل: إنّي صائم)
قال: (الصوم جنّة) أي وقايةٌ وسِتْر من اللغو والرّفث ونحو ذلك من الكلام السيئ، وإذا اتقى الإنسان الرفث والكلام السيئ التزامًا بصيامه وتأدّبًا بآدابه اتقى الذنوب بالتالي، فإذا اتقى الذنوب اتقى النار، فكان الصوم بالتالي سببا لاتقاء النار؛ كما جاء في الروايات الأخرى: “الصوم جُنَّة من عذاب الله”.
وعند أحمد والنسائي أيضًا بلفظ: “الصيام جُنَّة من النار كجُنَّة أحدكم من القتال“.، وعند أحمد بإسناد حسن عن جابر – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:الصيام جُنَّة يستجن بها العبد من النار” ، وعند أحمد بسند حسن عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال:” الصيام جُنَّة وحصن حصين من النار”
وفي الحديث الآخر قال: ( من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا) فهذه فضيلة عظيمة للصيام أنه يحقق لصاحبه تقوى الله –عز وجل- لمن عرف الصيام على حقيقته وأنه لا يقف عند حدودِ أن يُمسِك الإنسان عن الطعام والشراب، فإنّ الله –سبحانه وتعالى- لا يريد أن يُجِيعَنا ويُعطِّشنا وإنما يريد أن يبتلينا ويختبرنا ويمتحننا ويزكّينا، ولهذا جاء في الحديث: ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه) يعني الله –تعالى- غني من أن تدع الطعام والشراب، إنما الغاية فوق ذلك، وإنما ترك الطعام والشراب وسيلة من الوسائل حتى تزكو النفس وتصفو الروح فيضبط الإنسان نفسه.
ثالثا/ الصيام سببٌ لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات
كذلك أيضا من فضائل الصيام أنه سببٌ لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات، وكم نرتكب من الذنوب وكم نقصر في حق الله وحق خلقه، والذنوب هي الموصلة إلى النار –والعياذ بالله- وهي الموصلة لغضب الجبار، فما كان ماحيا لها فإنه من أفضل الأعمال، فالصيام سبب لمغفرة الذنوب وتكفير السيئات، فإذا غُفِرت الذنوب وكُفِّرت السيئات زكى الإنسان وسَلِمَ قلبه وتأهّل لجنة عرضها السماوات والأرض، ولهذا جاء عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: ( من صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه) ، أي إيمانا بالله –تعالى- وبفرضيَّة هذا الصيام، واحتسابا للثواب عند الله –سبحانه وتعالى- غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، وهذا والله فضلٌ عظيم وهي مغفرة الذنوب والسيئات، كم يقوم العباد ويُحيون ليلهم ويُتعبون نهارهم كم يجاهدون في سبيل الله كم يبذلون من أنفسهم ومُهَجِهِم وأموالهم من أجل أن يُحصِّلوا على مغفرة الذنوب فهذه مغفرة الذنوب تتحقق بفضل الله لمن صام رمضان إيمانا واحتسابا.
كذلك أيضا جاء عنه-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفراتٌ ما بينهنّ إذا اجتُنِبَت الكبائر)،الصلوات الخمس: أي من صلاة إلى صلاة تكفّر ما بينها، ومن جمعة إلى جمعة تكفِّر ما بينها، ومن رمضان إلى رمضان تكفّر ما بينها، إذا اجتُنبت الكبائر؛ إذن لابد للكبائر من توبة.
رابعا/ أن الصائم يُعطى أجره بغير حساب
كذلك من فضائل الصيام: أنّ ثوابه لا يتقيَّد بعدد معيَّن، بل يُعطى الصائم أجره بغير حساب، لأنّا نعلم أن الله –سبحانه وتعالى- قد رتّب على الأعمال ثوابا يتجلّى فيه كرم الرب –عز وجل- ، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، بالعدد، إلا الصيام، فإنه لا يدخل في هذا التضعيف، جاء عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (كل عمل ابن آدم له يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله –تعالى- إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي) فهذه فضيلة للصيام أن الله –تعالى- قد تكفّل بالجزاء على الصيام بدون عددٍ معيَّن، هذا الحديث يتبيَّن منه فضيلة الصوم من وجوه:
أولا: أن الله –تعالى- اختص الصوم له –تعالى- من بين الأعمال، فقال: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم) يعني أن كل عمل ابن آدم يضاعف له كذا وكذا كما ذكر إلا الصوم فإن الله –تعالى- اختصه من بين الأعمال قال: (فإنه لي وأنا أجزي به)؛ وهذا لشرفه ومحبته،
شرف الصيام ومحبة الله –تعالى- له، وظهور الإخلاص فيه، فهو سرٌّ بين العبد وربه، إذ الامساك أساسه في القلب، لأنه إمساك بنية، الصيام أساسه في القلب؛ إمساكٌ بنية، ثم أيضا قد يستتر الإنسان عن الناس فيأكل ويشرب، وربما لا ينوي بقلبه الصيام فلا يكون صائما، فإذن الصيام سرٌ بين العبد وربه –عز وجل-، لا يقوم به إلا المتقي المخلص لله –عز وجل- المراقب لله الخائف من الله –تعالى- سرا وعلانية، ولهذا اختصه الله –تعالى- من بين الأعمال قال: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
ثم أيضا إن الله –تعالى- قال في الصوم : (وأنا أجزي به) فأضاف الجزاء إلى نفسه الكريمة والعطية على قدر معطيها، والله –سبحانه وتعالى- غني كريم جواد بيده مقاليد السماوات والأرض، وقد يتبيّن شيء من هذا إذا قال لك كبير أو غني أو ثري أو أمير: يا فلان لك مني هدية أو لك مني مكافأة، هل تتوقع أن تكون مثل مكافأة سائر الناس وهو أمير أو ثري؟ لا، بل تتوقع أن تكون على قدره، فالعطية على قدر معطيها، كيف إذا كان الذي قال هذا القول هو الله –سبحانه وتعالى- الذي بيده مقاليد السماوات والأرض؟
وإذا اجتمع العباد كلهم إنسهم وجنهم في صعيد واحد فسألوا الله –عز وجل- فأعطى كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عند الله –عز وجل- إلا كما ينقص المِخْيَط إذا غُمِسَ في البحر، فماذا ينقص؟ .
والله –تعالى- قال: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) وذلك لأن الصوم يتحقق فيه الصبر بجميع أنواعه؛ صبر على طاعة الله بأداء الصيام، وصبرٌ عن محارم الله بانتهاك ما يؤثر في الصيام، وصبر على أقدار الله المؤلمة من جوعٍ وعطش، والصابرون يوفَّون أجرهم بغير حساب؛ كما قال –تعالى- : ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ١٠﴾ [الزمر: 10]
خامسا/ اختصاص أهله بباب الريّان
من فضائل الصوم كذلك اختصاص أهله من بين أهل الجنة بباب خاصٍ بهم يسمّى باب الريّان، ولاحِظوا لمّا عطّشوا أنفسهم في الدنيا نودوا من ذلك الباب الذي اسمه يدلُّ على الرِّي، ولهذا من دخل من ذلك الباب شرب شربة لا يظمأ بعدها أبدا، فهو باب الريّان، لحديث: ( إن في الجنة بابا يقال له باب الريّان يدخل منه الصائمون فإذا دخلوا أُغلِق فلا يدخل منه أحدٌ سواهم).
سادسا / محبة الله لآثار الصيام على الصائم
كذلك من فضائل الصوم محبة الله للصائم على ما هو عليه من آثار الصيام، وإن كانت آثارا في ظاهرها غير محببةٍ لنا لكنها محبوبةٌ إلى الله –تعالى- لأنها ناتجةٌ من الطاعة، وذلك ما جاء في قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: (والذي نفسي بيده لخَلُوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)
خَلوف فم الصائم: هو تغيُّر رائحة فم الصائم من أثر خُلوِ المعدة، فهي محبوبة عندا الله –تعالى- لأنها ناتجة عن الطاعة، وما كان ناتجا عن الطاعة فإنه محبوب عند الله –تعالى-، ألم ترَوا إلى الحاج عندما سافر وشَعِثَ وغَبِر لكن كان سعيه في طاعة الله –عز وجل- أعجب ذلك ربه فقال الله –تعالى- لملائكته وهو يباهي بأهل الموقف –موقف عرفة- ملائكتَه يقول: (انظروا إلى عبادي جاءوني شُعثا غُبرا اُشهِدكم أني قد غفرتُ لهم)
(شُعثا غُبرا) أي غير ممشّطي شعورهم، وغُبرا: قد علتهم غبرة من آثار السفر، لكن باهى الله بهم لأنه جاءوا يرجون رحمة الله –جل وعلا- ويخافون عذابه، وهكذا الصائم لمّا أمسك عن المفطِّرات طاعة لله –عز وجل- تغيَّرت رائحة فمه أحبّ الله ذلك من عبده.
سابعا/ أنه يشفع لصاحبه يوم القيامة
كذلك من فضائل الصيام أنه يشفع لصاحبه يوم القيامة، فما بالك بعبدٍ تشفع له عبادة من العبادات عند الله –عز وجل- الذي شرعها؟
جاء في حديث ابن عمر عند الإمام أحمد أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي منعتُه الطعام والشراب والشهوة فشفّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النوم بالليل فشفّعني فيه، قال: فيشفعان)
وهذان الشافعان متحققان في رمضان، فهو شهر الصيام والقرآن، فما بالكم بعبدٍ يشفع له عند الله كلام الله؟ أو يشفع له عند الله عبادة الله؟
نحن أحدنا إذا جاء لعبدٍ مثله قال له: يا أخي لا تنسنا من دعائك اُدعُ لنا ، هذا نوع شفاعة، فما بالكم أن يكون الشافع هو كلام الله أو عبادةٌ شرعها الله؟ حريٌّ أن يُشفَّع هذان الشافعان.
ثامنا/ إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة وغُلِّقت أبواب النار
من فضائل هذا الشهر علاوةً على ما تقدَّم : ما جاء في حديث أبي هريرة عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة وغُلِّقت أبواب النار وصُفِّدت الشياطين)
فُتِّحت أبواب الجنة لكثرة العاملين للخيرات في هذا الشهر الكريم ولكثرة من يكتب الله –تعالى- لهم دخول الجنة
وغُلِّقت أبواب النار وذلك لكثرة ما يُعتِق الله –تعالى- منها ومن يقيهم الله إياها ولما يجعل الله –تعالى- للعباد من حواجز بالصيام عن الأعمال التي تُدخِلهم النار فتُغلَّق أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين أن سُلْسِلَت وقُيِّدت ؛ فلا يَخلُصون إلى ما كانوا يَخلُصون إليه من قبل.
تاسعا/ ما خص الله به الأمة في رمضان
ومن فضائله ما جاء في حديث أبي هريرة عند الإمام أحمد –رحمه الله- قال قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: (أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تُعطهن أمة من الأمم قبلها: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله عز وجل كل يوم جنته ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يُلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك، وتصفّد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة.” قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: “لا، ولكن العامل إنما يُوفى أجره إذا قضى عمله) الحديث حسن بشواهده.
فهذا حديثٌ عظيم فيه خصائص الله –عز وجل- لهذه الأمة في هذا الشهر الكريم، خلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يُفطِروا، والملائكة كما نعلم عبادٌ مكرَمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ليس فيهم شهوة الشر فلا يعصون الله أبدا، ما بالك بمن هذه حاله يستغفرون لعبادٍ مذنبين خطّائين؟ إنها لفضيلةٌ عظيمة.
إن الواحد منّا إذا أتى إلى من يتوسَّم فيه الخير والصلاح من إخوانه وهو يعلم أنه غير معصوم ربما قال له: لا تنسنا يا أُخيّ من دعائك اُدعُ لنا، فما بالك إذا كان الذين يستغفرون لك ملائكة الرحمن وهم لا يفعلون شيئا إلا عن إذن الله –عز وجل- فالظن بالله –تعالى- أنه لم يأذن لهم أن يستغفروا للمؤمنين إلا ليستجيب لهم –سبحانه وتعالى- ، فيا لها من فضيلة؛ تستغفر لهم الملائكة حتى يُفطِروا.
(ويُزيّن الله كل يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يُلقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليكِ) المؤنة: مؤنة العبادة وتكليفها، والأذى: ما يكون في هذه الحياة الدنيا من همٍّ وغمٍّ وكدر ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ٤﴾ [البلد: 4] ويصيروا إليكِ فأنتِ دار النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ﴿لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ٤٨﴾ [الحجر: 48]
(وتصفّد فيه مردة الشياطين) مردة الشياطين يُصفّدون ويُسلسلون من أول ليلة فلا يَخلصون إلى ما يخلصون إليه في غيره، أي لا يستطيعون أن يصلوا ويكون لهم سلطان في غير هذا الشهر، ولكن مع هذا لا ينبغي للإنسان أن يُلقي بنفسه ويقول: إن الشياطين مسلسلةٌ مردتها بل يحذر من نفسه وهواه وقرناء السوء ويحذر من هذه الدنيا فإنه غرّارة فتّانة.
قال: (ويُغفَر لهم في آخر ليلة) قيل يا رسول الله! أهي ليلة القدر؟ قال: (لا، ولكن العامِل إنما يوفّى أجره إذا قضى عمله)، وهذا مِصداق قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه).
ولهذا جاء عن النبي-صلى الله عليه وسلم-بيان خيبة وخسران من دخل عليه هذا الشهر ثم خرج ولم يُغفَر له؛ لأنّ أسباب المغفرة متاحة وأسباب المعاصي دونها حُجُب، فكيف يقتحم العبد المعاصي ويُعرِض عن الله –عز وجل- فينقضي هذا الشهر ولم يتأهل للمغفرة.
جاء في الحديث: (رغم أنف امرئ دخل عليه رمضان ثم خرج ولم يُغفَر له)
هذه بعض فضائل الصيام أنه يحبب العبد للرحمن ويُكسبه التقوى ويجلب له الغفران ويؤهله لسكنى الجِنان ويقيه من النيران فأيّ مطلوبٍ للعاقل وراء ذلك؟
وكيف لا يُشمِّر عن ساعد الجد ومنادي الخير ينادي: (يا باغي الخير أقبِل ويا باغي الشر اقصر)؟
فالمجال مجال عملٍ واجتهاد ومنافسةٍ في الخيرات، فهل من مشمِّرٍ إلى الجنة؟
عاشرا/ فهل من مشمِّرٍ إلى الجنة؟
فإن السوق قائمة والسلعة حاضرة والثمن اليوم موجود، وما بالك إذا اجتمعت فضيلة الزمان مع فضيلة العبادة فكانت العبادة فاضلة وزمانها فاضلا؟ فهو خيرٌ على خير ، ونور على نور، العبادة الصيام، والزمان شهرٌ كريم وموسمٌ عظيم إنه شهر رمضان ، شهرٌ اختاره الله من بين الشهور فميَّزه بليلة هي خيرٌ من ألف شهر، تلك هي ليلة القدر، ميَّزه الله – تعالى- بتلك الليلة التي خصّها بأن أنزل فيها القرآن على خير البشر، إنه شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار.