ما هي الحكمة من الصيام؟
يتساءل البعض عن حكمة الصوم؟
بداية أولا / ينبغي أن نعلم أن الله لم يُشَرِّع شيئًا إلا لحكمة، عَلِمَها مَن عَلِمَها، وجهلها من جهلها، وكما أن أفعال الله تعالى لا تخلو من حكمة فيما خلق،فإن أحكامه سبحانه لا تخلو من حكمة فيما شرع، فهو حكيم في خلقه، حكيم في أمره، لا يخلق شيئًا باطلاً، ولا يشرع شيئًا عبثًا.
وينبغي أن نلاحظ أن الصوم مرتبط بالتوقيت القمري، وهذا يجعله متجدداً في جوه ووقته فلا يكون دوماً في فصل واحد من فصول العام، ولكن يدور في جميع الفصول على مدى33 سنة هجرية تقريبا، وهذا يتيح التنوع في العبادة، فلا يرتبط أداؤها بجو واحد لا يتغير أبداً، أو ظروف واحدة لا تتبدل، بل يتنوع جو الشهر من عام لآخر، حتى ينتقل شهر رمضان من صيف إلى شتاء ….. كما يتنوع النهار في شهر رمضان طولاً وقصراً بهذا التنقل بين الفصول الأربعة،وحينئذ يتعود الإنسان الصيام بجميع الأوجه.
وقد بيَّن الله تعالى أن الصوم لأيام معدودات، فهو ثلاثون يومًا سرعان ما تنقضي.
شهر واحد من اثني عشر شهرًا في العام قد يكون مرهقاً في أيامه الأولى فقط، وبعد انقضاء 3- 5 أيامٍ يصبح معتاداً للنفس.
ثم يعود المرء إلى سيرته الأولى ليحقق الصوم حكمته في النفوس، ويكون تدريبًا لبقية العام.
وها نحن نرى ملايين المسلمين يصومون رمضان كل عام، منذ فرض الله صيام رمضان من السنة الثانية للهجرة وإلى يومنا هذا، وإلى أن تقوم الساعة مليارات من البشر صاموا لله ويصومون الآن في يسر وسهولة، بعضهم يصوم مع الحر الشديد أكثر من 16 ساعةً يوميًّا دون إرهاقٍ أو تعب، بل يتلذذون بطاعة الله تعالى.
وها نحن نرى صبيانًا وصبايا في عمر العاشرة بل أقل يتعودن على الصوم من صغرهم حتى يصبح الصوم لهم سهلاً ميسوراً.
1- التسليم لأمر الله تعالى:
خرج من طاعة هواه إلى طاعة الله ، أن يقول الرب: أمرت ونهيت، ويقول العبد: سمعت وأطعت.
لكن للمسلم أن يسأل عن الحكمة من العبادة
ولذا قيل للإمام أحمد : ” أيخشع القلب والبدن شبعان ؟ قال : ما أظن ذلك .
فالصائم وقد حبس نفسه عن الطعام والشراب ترفعت نفسه وصفت روحه وشعر بالرقة ، وتنعم بالأنس .
ولعل هذا سر الفرحة اليومية التي يجدها كل صائم كلما وفق إلى إتمام صوم يوم حتى يفطر، والتي عبر عنها الحديث النبوي: “للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه” (متفق عليه
ففي الصيام تزكية للنفس بطاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى، وتدريبها على كمال العبودية لله تعالى، ولو كان ذلك بحرمان النفس من شهواتها، والتحرر من مألوفاتها فتكون التخلية من الطعام نهارا والتحلية بالقيام ليلا
3- أن الصوم تربية للإرادة وجهاد للنفس، وتعويد على الصبر:
وهل الإنسان إلا إرادة؟
وهل الخير إلا إرادة؟
وهل الدين إلا صبر على الطاعة، أو صبر عن المعصية؟
والصيام يتمثل فيه الصبران.
وقد سَمَّى النبي صلى الله عليه وسلم شهر رمضان(شهر الصبر)
كما اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم (الصيام جُنَّة)
أي درعًا واقية من الإثم في الدنيا، ومن النار في الآخرة
ومن المتفق عليه أن الغريزة الجنسية من أخطر أسلحة الشيطان في إغواء الإنسان، حتى اعتبرتها بعض المدارس النفسية هي المحرك الأساسي لكل سلوك بشري ، وللصوم تأثيره في كسر هذه الشهوة، وإعلاء هذه الغريزة، وخصوصًا إذا داوم المؤمن عليه ابتغاء مثوبة الله تعالى.
ولهذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم للشباب الذي لا يجد نفقات الزواج، حتى يغنيه الله من فضله، فقال:.”يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء” (رواه البخاري عن ابن مسعود والباءة: كناية عن النكاح، والوجاء: الخصاء، والمراد: أنه يضعف الشهوة إلى النساء.
4-إشعار الصائم بنعمة الله تعالى عليه، فإن إلْف النعم يفقد الإنسان الإحساس بقيمتها:
ولا يعرف مقدار النعمة إلا عند فقدها، وبضدها تتميز الأشياء.
فإنما يحس المرء بنعمة الشِّبَع والرِّيّ إذا جاع أو عطش، فإذا شبع بعد جوع، أو ارتوى بعد عطش، قال من أعماقه: الحمد لله، ودفعه ذلك إلى شكر نعمة الله عليه.
وهذا ما أشير إليه في حديث قال فيه صلى الله عليه وسلم: “عَرَضَ عليّ ربي ليجعلَ لي بطحاءَ مكة ذهبًا، فقلت: لا يا رب، ولكني أشبع يومًا، وأجوع يومًا، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك!” رواه أحمد والترمذي وفيه ضعف
5- وهناك حكمة اجتماعية للصيام أنه يفرض الجوع إجباريًا على كل الناس:
وإن كانوا قادرين واجدين وهذا يوجد نوعًا من المساواة الإلزامية في الحرمان، ويزرع في أنفس الموسرين والواجدين الإحساس بآلام الفقراء والمحرومين .
كان عمر بن عبدالعزيز لايشبع وقت خلافته فيقال له : يا أمير المؤمنين: لما لا تشبع ؟ فيقول : حتى لا أنسى الجوعى .
وفي هذا التذكير العملي الذي يدوم شهرًا، ما يدعو إلى التراحم والمواساة والتعاطف بين الأفراد والطبقات بعضهم وبعض.) وكان النبي صلى الله عليه وسلم فيه أجود بالخير من الريح المرسلة .
ومن أجل هذا كان من أفضل ما يثاب عليه المؤمن: تفطير الصائم، وفي الحديث: “من فطر صائما كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا” (رواه أحمد
6- الثمرة الغالية التقوي:
والمتقي عبداً أطاع ربه ومولاه ، وابتعد عن مساخطه وما لا يرضاه ، سعى في تحقيقها ، وجاهد في تحصيلها ،بل إن التقوي بمنطوق الآية هي الثمرة الأساسية من الصيام (لعلكم تتقون )
وما اتقى الله من ترك لنفسه العنان ، ولم يلجمها بلجام التقوى ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : ” من لم يدع قول الزور والعمل به فليس له حاجة أن يدع طعامه وشرابه ” رواه البخاري
” ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر “
عندما تتأثر القلوب بالصيام ترى الألسنة قد كفت عن الحرام ، والأبصار قد غضت عن الحرمات والأيدي قد حفظت عن الآثام .
كما أن الصائم يتدرب على الإخلاص في رمضان ، ولذا قيل: أعظم الأعمال التي يظهر فيها الإخلاص الصيام .
لأن الصائم يخلو وحده لا يراه أحد ، ومع ذلك لا تجرؤ نفسه على الطعام والشراب لعلمه بنظر الله عليه ومراقبته لربه جل وعلا وهذه هي التقوى بأجلى صورها أن تقدر على الحرام وتتركه لعلمك أن الله يراك .
****************
والحق أن صيام رمضان مدرسة متميزة، يفتحها الإسلام كل عام، للتربية العملية على أعظم القيم، وأرفع المعاني، فمن اغتنمها وتعرض لنفحات ربه فيها، فأحسن الصيام كما أمره الله، ثم أحسن القيام كما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد نجح في الامتحان، وخرج من هذا الموسم العظيم رابح التجارة، مبارك الصفقة، وأي ربح أعظم من نوال المغفرة والعتق من النار؟.
روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.. ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه” متفق عليه من حديث أبي هريرة.