السنن المهجورة (16) سنة الإكثار من الدعاء في السجود
السجود غاية التواضع والعبودية لله تعالى، ففيه تمكين أعز أعضاء الإنسان وأعلاها وهو وجهه من التراب الذي يُداس ويمتهن.
السجود أقصى درجات العبودية، وأجل مظاهر التذلل، وأصدق دلائل الإذعان، وأعذب مناظر الخشوع، وأفضل أثواب الافتقار.
السجود روضة خاصة، إذا دخلها القلب لا يخرج منها أبدًا، ففيها من اللذة والانشراح ما لا يُوصَف، ولا يحيط به قلم، ورغم صغر موضع السجود، إلا إنه للروح أوسع من الدنيا وما فيها. جاء عند الإمام البيهقي رحمه الله بسندٍ صحيح عن أبي الدرداء أنه قال: «لولا ثلاثٌ ما أحببْتُ البقاءَ في الدنيا: ساعةُ ظمأٍ في الهواجر ـ يعني: صيامٌ في شدة الحرـ، والسجودُ في الليل، ومجالسة أقوامٍ ـ أي: أصدقاءٍ صالحين ـ ينتقون أَطَايبَ الكلام كما ينتقي أحدُهُمْ أطايبَ التَّمْر».
وقال مسروق رحمه الله: « ما من الدنيا شيء آسى عليه إلا السجود لله تعالى» [نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء 1/ 333 ]
السجود أقرب ما يكون العبد من ربه وهو فيه يتنعَّم، تُسكَب فيه العبرات، وتُزاح الآهات، تُطرح الحاجات، تُجاب الدعوات، ترفرف الأفئدة نشوةً وفرحًا بما تنعم به في مِثل هذه اللحظات.
السجود عنوان عبودية، ورمز خضوع، وموقف عزٍّ، ومدرسة اعتراف، فسبعة أعضاء تسجد لله وتحمل البدن، كلها مُنطرِحة غير متأفِّفة ولا مستكبِرة، بل راغبة مُحبَّة طالبة للعز والرفعة.
والسجود من أعظم المواطن التي يرجى فيها إجابة الدعاء، والإكثار من الدعاء في السجود مأمور به شرعا، فمن دعا في كل سجدة من سجدات الصلاة سواء كانت فريضة أو نافلة فلا يلام على ذلك لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الدعاء في السجود.
الأحاديث الواردة في ذلك :
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِنٌ أن يستجاب لكم. أخرجه مسلم.
والحكمة في تخصيص الركوع بالعظيم والسجود بالأعلى أن السجود لما كان فيه غاية التواضع لما فيه من وضع الجبهة التي هي أشرف الأعضاء على مواطىء الأقدام كان أفضل من الركوع فحسن تخصيصه بما فيه صيغة أفعل التفضيل وهو الأعلى بخلاف العظيم، جعلًا للأبلغ مع الأبلغ والمطلق مع المطلق.
والتسبيح لغة التنزيه تقول سبحت في الأرض إذا أبعدت ومعنى وبحمده أسبحه حامدا له أو وبحمده سبحته.
فاللائق بالركوع تعظيم الرب فهو أولى من الدعاء وإن كان الدعاء جائزا أيضا فلا ينافي أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في ركوعه “اللهم اغفر لي”.
وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِـَنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ”رواه مسلم
فَقَمِـَنٌ : معناه حقيق وجدير.
2- وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء.)
3- وثبت الدعاء في السجود من فعله صلى الله عليه وسلم أيضا في أحاديث كثيرة، ومنها ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن. متفق عليه.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن الإمام لا ينبغي له أن يطيل في الدعاء في السجود إطالة مفرطة، فإنه مأمور بالتخفيف وأن لا يشق على من وراءه من المأمومين.
فضل السجود :
السجود لله من صفات المؤمنين الذين يبتغون رضا الله عنهم والفوز بالجنة؛ قال الله عز وجل: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا » (سورة الفتح: 29).
فضل السجود
1- السجود من أحب الأعمال إلى الله حيث يُدخل صاحبه الجنة:
لما ثبت في صحيح مسلم عن معدان بن أبي طلحة اليعمري رضي الله عنه قال: لقيت ثوبانَ مَولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعملٍ أعمله يدخلني به الجنة، أو قال: قلت: بأحبِّ الأعمال إلى الله، فسكت، ثم سألته، فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدةً، إلا رَفَعَك الله بها درجة، وحطَّ عنك بها خطيئة»، قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لي مثل ما قال ثوبان)أخرجه مسلم.
2- مرافقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة:
لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي قال: كنت أبيت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: «سل» فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال -صلى الله عليه وسلم-: «أو غير ذلك؟» قلت: هو ذاك، قال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود».
3- يرفع الله به الدرجات، ويحط به السيئات:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِن عبد يسجد لله سجدةً إلا كَتَب الله له بها حسنة، وحطَّ عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة؛ فاستكثِروا من السجود» (أخرجه ابن ماجه).
4- إذا سجد بن آدم اعتزل الشيطان يبكي:
لما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا قرأ بن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت أنا بالسجود فعصيت فلي النار» رواه مسلم
5- أقرب ما يكون العبد من الله إذا سجد:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أقربُ ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد؛ فأكثِروا فيه الدعاء»، (أخرجه مسلم).
6-مَن سَجَدَ لله عز وجل، فلن تأكل النار أَثَرَ سجودِه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث طويل وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : « …..حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار، أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم، ويعرفونهم بآثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود. فيخرجون من النار، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود. . . »[صحيح الجامع، رقم الحديث 7033]
7- السجود موضعُ استجابةٍ للدعاء:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأمَّا الركوع، فعظِّموا فيه الرب، وأمَّا السجود، فاجتهِدوا في الدعاء؛ فقَمِنٌ أن يستجاب لكم)» (أخرجه مسلم).
8- السجود تفريج الهم وتنفيس الكرب:
السجود فيه تفريج الهم، وتنفيس الكرب وحصول انشراح الصدر، وثبوت الإيمان في القلب، فالمسلم عندما تتكالب عليه الدنيا بمشكلاتها ومعضلاتها، وتعترضه المحن وتحل به الابتلاءات يجد في العبادة والسجود عوناً على ذلك ومخرجاً منه، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ [العلق:19] أي اقترب من الله وتوكل عليه بطاعته والسجود إليه، وهو توجيه بالصد عن أعراض المعرضين وتكذيبهم والاستعانة على مواجهتهم بالطاعة والسجود، وتأمل كذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ﴾[الحجر: 97-98]، ما يعني أن السجود علاج لضيق الصدور.
9- السجود عبادة تشترك فيها كل الاعضاء:
السجود فيه مشاركة لمعظم الأعضاء، إذ أن الإنسان في وقوفه أو في ركوعه يستخدم بعض الأعضاء ولكن في سجوده يكون على هذه الأرض بيديه وقدميه وركبتيه وجبهته وأنفه فهذا كله دليل على أنه كله لله سبحانه وتعالى، وأن كل حواسه ينبغي أن تكون لله عز وجل وفق أمر الله، فلا ينبغي أن يسجد ثم ينظر إلى المحرمات بعينه، أو يعتدي على المحرمات بيديه، أو يمشي إلى المنكرات برجليه، وهذا المعنى يتحقق للمتأمل في السجود ومعانيه.
10- الكون كله يسجد لله:
حينما يتأمل الإنسان في هذا السجود فإنه يجد أن الكون كله ساجد لله بمعنى ذلته وخضوعه لله سبحانه وتعالى وانقياده وصيرورته وفق حكم الله، ، ثم هو ساجد بالمعنى الحقيقي لأن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ﴾[الحج:18] ، فيتأمل العبد أنه حينما يسجد لله عز وجل يكون عبارة عن جزء من هذا الكون المسبح بحمد الله الساجد لله سبحانه وتعالى.
أدعية السجود
وقد جاءت أحاديث كثيرة في ذلك نذكرها فيما يلي :
1 – عن علي رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد يقول : ( اللهم لك سجدت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، سجد وجهي للذي خلقه فصوره فأحسن صوره ، فشق سمعه وبصره : فتبارك الله أحسن الخالقين ) رواه أحمد ومسلم .
2 – وعن عائشة : أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم من مضجعه فلمسته بيدها ، فوقعت عليه وهو ساجد ، وهو يقول : ( رب أعط نفسي تقواها ، وزكها ، أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ) رواه أحمد .
3 – وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده : ( اللهم اغفر لي ذنبي كله ، دقه وجله وأوله وآخره ، وعلانيته وسره ) رواه مسلم وأبو داود والحاكم .
دقه وجله : ( دقه ) بكسر أوله : صغيره . ( جله ) : بضم أوله أو بكسره : أي كبيره .
4- وكان صلى الله عليه وسلم يقول وهو ساجد : ( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني . اللهم اغفر لي جدي وهزلي ، وخطئي ، وعمدي ، وكل ذلك عندي . اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت . أنت إلهي لا إله إلا أنت ) .
5 – وعن عائشة قالت : فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فلمسته في المسجد ، فإذا هو ساجد وقدماه منصوبتان ، وهو يقول : ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) رواه مسلم وأصحاب السنن