السنن المهجورة (22) دعاء الوحشة والفزع من النوم
عن عبد الله بن عمرو أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: إذا فزع أحدُكم في النوم فليقل: (أعوذ بكلمات الله التَّامات من غضبه، وعقابه، وشرِّ عباده، ومن همزات الشَّياطين، وأن يحضرون؛ فإنها لن تضرَّه) أخرجه الترمذيُّ، وأبو داود، ولكن لفظه -وهكذا عند الأكثر-: أعوذ بكلمات الله التَّامة، بدلاً من: التَّامات،وحسَّنه الحافظُ ابن حجروالألباني
(إذا فزع أحدُكم في النوم)، بمعنى: أنَّه رأى ما يزعجه من الكوابيس وتهاويل الشيطان.
وهل تقال ابتداءً عند النوم؟
أي نعم لما وردعن محمد بن المنكدر قال جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فشكا إليهِ أهاويلَ يراها في المنامِ فقال إذا أويتَ إلى فراشِكَ فقلْ: أعوذُ بكلماتِ اللَّـهِ التامَّةِ، من غضبِهِ وعقابِهِ، ومِن شرِّ عبادِهِ، ومن همزاتِ الشياطينِ، وأنْ يحضرونَ) قال الألباني في السلسلة الصحيحة : حسن لغيره.
قوله : (أعوذ): معناها ألتجئ وأستعين بالله، وأصلها في اللغة العربية أن العُوّذ أصله اللحم الملتصق بالعظم.
و في المثال العربي يقولون: أطيب اللحم عُوّذه يعني اللحم الملتصق بالعظم، هذا أطيب في الطعم، و إذا أردت أن تأخذ من هذا اللحم شيئا يبقى جزء منه ملتصقا بالعظم ، فجاء معنى التعوذ بالله عز وجل أو الاستعاذة بالله ليدل على معنى الاحتماء بالله والالتصاق بركنه وجنابه وحفظه، فأنت حينما تقول: أعوذ بالله أي أنا ألتجئ مستعينا محتميا بالله جل وعلا، هذا الإلتجاء وهذا الإلتصاق دائم لا أنفك عنه، أعوذ بالله في كل أحوالي، من كل شيء أخافه وكل شيء أهابه وكل شيء لا أستطيع له دفعا.
قوله : (أعوذ بكلمات الله التَّامات ) ما المراد بكلمات الله التامات ؟
ثلاثة أقوال للعلماء:
القول الأول: أنها أسماء الله الحسنى وصفاته العلى بأن يستعيذ بأسمائه فيقول: أعوذ بالله السميع العليم، أو بصفاته فيقول: أعوذ برحمة الله وقوة الله وعزة الله،ووصفت الكلمات بالتامات لأنها سالمة من العيوب والنقائص التي تعتري أسماء وصفات البشر.
القول الثاني: أن المراد بكلمات الله هو القرآن الكريم، فإن القرآن كلامه، تكلم به سبحانه ونزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالقرآن سالم من النقص والعيوب التي تعتري كلام البشر، لذا أعجز العرب مع فصاحتهم وبلاغتهم أن يأتوا بمثل أقصر سورة فيه
القول الثالث: كلمات الله التامات إما أن تكون (كلمات كونية قدرية)، وإما (كلمات شرعية) أما الكونية فهي الكلمات التي يدبر بها الله تعالى أمر الخلائق والتي ذكرها عز وجل في قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل:40] فيحمي الله تعالى المؤمن بكلماته الكونية ويدفع عنه ما يضره.
سَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَنْبَشٍ كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ؟ قَالَ: “جَاءَتْ الشَّيَاطِينُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَوْدِيَةِ وَتَحَدَّرَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْجِبَالِ وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ مَعَهُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَرُعِبَ -قَالَ جَعْفَرٌ: أَحْسَبُهُ قَالَ: جَعَلَ يَتَأَخَّرُ- قَالَ: وَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ قُلْ. قَالَ: «مَا أَقُولُ؟» قَالَ: «قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ». فَطَفِئَتْ نَارُ الشَّيَاطِينِ، وَهَزَمَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَل”. (أحمد والطبرانى، صحيح الجامع74). فالكلمات الكونية هي التي يكون الله تعالى بها الأشياء ويقدرها، فهي التي لا يجاوزها بر ولا فاجر.
أما كلماته الدينية الشرعية(كقوله وأقيموا الصلاة) فإن الفجار يتجاوزونها، يعني: يعصون أوامره، ويرتكبون نواهيه، بخلاف الكلمات الكونية فإنه لا أحد يستطيع أن يتعداها، فالكون كله يسير على وفق تقديره وتكونيه جل وعلا، والعباد كلهم مسخرون تجري عليهم أقداره وقهره، ولا أحد يستطيع أن يخالف قدر الله جل وعلا وتكوينه.
وهذا القول الأخير هو الأرجح فمعنى ( أعوذ بكلمات الله ) أي أعوذ بأمر الله لأن أمر الله نافذ لا يرد ومنه ( إنما أمره إذا أردا شيئا أن يقول له كن فيكون )
أما القول الثاني فمردود فإنه لا يصح أن التعوذ بكلمات الله يقصد به القرآن الكريم أبدا – فلا يوجد علاقة بين كلمات القرآن والتعوذ بها فكيف أتعوذ بقصة يوسف في القرآن مثلاً ؟ هذا غريب!!
(من غضبه) وغضبه -تبارك وتعالى- هو سخطه على مَن عصاه وخالف أمره.
(وعقابه) العقاب يعني: العذاب الذي ينزل.
(وشرِّ عباده) وشرِّ عباده من الظُّلم والمعاصي وما يصل من الآفات والأضرار من هؤلاء الخلق.
(ومن همزات الشَّياطين) ومن همزات الشَّياطين، كل شيءٍ قد دفعته تكون همزته، تقول: همزت القربةَ، والمقصود بـهمزات الشياطين يعني: الوساوس والخواطر، وما يُلقونه في قلب العبد من المعاني السَّيئة، والإيرادات الفاسدة، وكذلك ما يُوقعونه بين العباد من الشُّرور والفتن وسُوء ذات البين، وما إلى ذلك.
فحينما استعاذ من شرِّ عباده خصَّ بعد ذلك همزات الشَّياطين، وهم من جملة هؤلاء العباد، لكن لشدّة خطر هذه الهمزات؛ فإنَّهم يتلاعبون بالناس بالعقائد المضلّة، والأفكار الفاسدة، والإيرادات السَّيئة، فتتحرك النفسُ ودواعيها للشَّر، والمنكر، والمعاصي، والكبائر، وما إلى ذلك.
وكذلك أيضًا قد تكون هذه الهمزات من قبيل تلاعب الشَّياطين ببني آدم، فيُصوِّرون لهم أشياء على غير حقائقها؛ فيلحقهم بسبب ذلك من الحزن والغمِّ، هذا في يقظتهم، فيتوهمون من العلل والأوصاب والأمراض، أو من المخاوف ما لا حقيقةَ له، فالشَّياطين تلقي في قلبه: أنَّ هذا كذا، وأنَّ هذا كذا، وأنَّ هذا علّة عليلة، لربما تُعيي الأطباء، وليس به بأسٌ.
(وأن يحضرون) أصله يحضروني سقطت الياء للتخفيف أي: وأن يحضر الشياطين عندي في أي حالٍ من أحوال العبادة: في الصَّلاة وسواس، في الذكر، في أي أمرٍ من أموره، عند مُعاشرة أهله، عند طعامه، عند دخوله في بيته، عند الاحتضار والنَّزع، فإنَّ الشياطين قد تحضر، فيستعيذ الإنسانُ بالله منهم، فهم لا يحضرون إلا بسوءٍ.
(فإنها لن تضرَّه )هذه الهمزات لن تضرّه التي أفزعته، أو هذه الأشياء التي رآها فخاف وفزع، إذا دعا بهذا الدُّعاء فإنَّ ذلك يُذهبها، وهذا من فضل الله ، وهذا يدلّ على أنَّ الفزعَ الذي يحصل للنَّائم إنما هو من الشَّيطان، وهذا إذا عرفه المؤمنُ استراح، ما عليه إلا أن يقول هذا، ومَن عُوفي فليحمد الله.