شرح الأربعين النووية
19- احفظ الله يحفظك
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال لي : ( يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك إن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
وفي رواية غير الترمذي (احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا .)
شرح الحديث
اصطفى الله تعالى هذه الأمة من بين سائر الأمم ، ليكتب لها التمكين في الأرض ، وهذا المستوى الرفيع لا يتحقق إلا بوجود تربية إيمانية جادة تؤهلها لمواجهة الصعوبات التي قد تعتريها ، في سبيل نشر هذا الدين ، وإقامة شرع الله في الأرض .
ومن هذا المنطلق ، حرص النبي صلى الله عليه وسلم على غرس العقيدة في النفوس المؤمنة ، وأولى اهتماما خاصا للشباب ، وفي الحديث الذي نتناوله ، مثال حيّ على هذه التنشئة الإسلامية الفريدة ، للأجيال المؤمنة في عهد النبوة ، بما يحتويه هذا المثال على وصايا عظيمة ، وقواعد مهمة ، لا غنى للمسلم عنها .
وأولى الوصايا التي احتواها هذا الحديث ، قوله صلى الله عليه وسلم :
(احفظ الله يحفظك ) يعني احفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه ، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب ،وعند حدوده فلا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه إلى ما نهى عنه ، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه ، قال عز وجل (هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب) [ ق 32 ،33]، وفسر الحفيظ هنا بالحافظ لأوامر الله وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها.
وقوله صلى الله عليه وسلم (يحفظك) يعني أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله فإن الجزاء من جنس العمل كما قال تعالى (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) البقرة 40 ، وقال (فاذكروني أذكركم) البقرة152
وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان :
أحدهما : حفظه له في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله قال الله عز وجل (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) الرعد 11
قال ابن عباس -رضي الله عنهما – هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلوا عنه .
وقال على – رضي الله عنه- : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإن الأجل جنة حصينة.
وقال ابن عمر قال لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح ( اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهل ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) رواه أحمد وأبو داود والنسائي
ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته ، ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله ، وكان محب الدين الطبري قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله فوثب يوما وثبة شديدة فعوتب في ذلك فقال هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر .
وعكس هذا أن بعض السلف رأى شيخا يسأل الناس فقال إن هذا ضعيف ضيع الله في صغره فضيعه الله في كبره .
ويقول ابن الجوزي :وقد يهان الشيخ في كبره حتى ترحمه القلوب، ولا يدري أن ذلك لإهماله حق الله تعالى في شبابه!
فمن حفظ الله حفظه الله من كل أذى كما قال بعض السلف : (من اتقى الله فقد حفظ نفسه ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه والله غنى عنه)
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته كما قيل في قوله تعالى (وكان أبوهما صالحا) الكهف 82 أنهما حفظا بصلاح أبيهما
وقال سعيد بن المسيب لابنه لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك ثم تلا هذه الآية (وكان أبوهما صالحا) .
سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم مع الأسد:
ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى كما جرى لسفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم عندما ركب سفينة في البحر ، وفجأة انكسرت السفينة وتعلق رضي الله عنه في لوح السفينة التي تكسرت ، فأخذت الأمواج اللوح و جعلت تدفعه إلى الشاطئ ؛ حتى قذفه الموج على الشاطئ سالما….
فنظر حوله، فوجد نفسه في غابة بها أشجار كثيرة ، و فجأة سمع صوتا رهيبا مخيفا ، فالتفت فإذا بأسد متوحش قادم عليه يريده …….فلجأ إلى الله تعالى ، ثم أقبل سفينة إلى الأسد في شجاعة و ثقة بالله و قال له : يا أبا الحارث (كنية الأسد عند العرب) أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما سمع الأسد ذلك منه هدأ و طأطأ رأسه و أصبح كالقط الوديع ، ثم أقبل على سفينة رضي الله عنه يدفعه بمنكبه حتى أخرجه من الغابة كأنه يحرسه و يدله على الطريق ، ثم التفت الأسد إلى سفينة رضي الله عنه و همهم بصوت ضعيف كأنه يودعه .
كرامة لعقبة بن نافع
وهذا عقبة بن نافع عندما قرر أن يؤسس مدينة القيروان بتونس لتكون قاعدة حربية للجيش، وانطبقت كل الشروط على منطقة أحراش مليئة بالوحوش والحيات، فقال له رجاله: “إنك أمرتنا بالبناء في شعاب وغياض (مستنقعات) لا ترام، ونحن نخاف من السباع والحيات وغير ذلك من دواب الأرض” وكان في عسكره خمسة عشر رجلاً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فجمعهم وقال :”إني داع فأمّنوا”، وبالفعل دعا الله عز وجل طويلاً والصحابة والناس يأمّنون.
ثم قال عقبة مخاطباً سكان الوادي: أيتها الحيّات والسباع، نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتحلوا عنا فإنا نازلون، ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه”.
فحدثت بعدها كرامة عجيبة حيث خرجت السباع من الأحراش تحمل أشبالها والذئب يحمل جروه، والحيّات تحمل أولادها في مشهد لا يرى مثله في التاريخ، فحاول بعض الجنود قتل البعض منهم أي من الوحوش والحيات فنادى عقبة في الناس:”كفوا أيديكم عنهم حتى يرتحلوا عنا لقد عاهدناهم باسم الله ؛ فكيف نخون عهد الله ؟!!
وعكس هذا أن من ضيع الله ضيعه الله فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم كما قال بعض السلف إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي .
النوع الثاني من الحفظ : حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه :
فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرمة ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمره أن يقول عند منامه ( إن قبضت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين )
وفي حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقول : (اللهم احفظني بالإسلام قائما واحفظني بالإسلام قاعدا واحفظني بالإسلام راقدا ولا تطمع في عدوا ولا حاسدا) خرجه ابن حبان وفي سنده ضعف
وفي الجملة فإن الله عز وجل يحفظ المؤمن الحافظ لحدود دينه ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ وقد لا يشعر العبد ببعضها وقد يكون كارها له كما قال في حق يوسف عليه السلام (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) يوسف 24
قال ابن عباس في قوله تعالى ” واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه” (الأنفال 24) قال يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار
وقال الحسن البصري: وقد ذكر أهل المعاصي هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم .
ومفهوم المخالفة أن من ضيع أوامر الله ونواهيه وظلم وطغى ضيعه الله وأذله وأخزاه
فما أهون العباد على الله ، لو أضاعوا أمره :
عندما فتح المسلمون جزيرة قبرص بكى أبو الدرداء ، فقيل له: تبكي في مثل هذا اليوم الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله!
فقال أبو الدرداء: بينما هذه الأمة قاهرة ظاهرة، إذ عصوا الله، فلقوا ما ترى، ما أهون العباد على الله إذا هم عصوه.
– نعم ما أهونهم على الله ، لو أضاعوا أمره..!!
فبينما هم في عزة وتمكين وقوة وجبروت صاروا إلى ما ترى ..
إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله
وهذا مقتبس من قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) فإن السؤال هو دعاؤه والرغبة إليه .
وفي الحديث عن النعمان بن بشيرعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (الدعاء هو العبادة) رواه أحمد
ومن حديث أنس بن مالك بلفظ آخر (الدعاء مخ العبادة ) لكنه ضعيف الإسناد
لماذا كان الدعاء هو العبادة؟
هذا كقوله الحج عرفة فأكبر مظهر من مظاهر العبادة الدعاء لماذا ؟ لأن الدعاء فيه من التضرع إلى الله وإظهار الضعف والحاجة إليه أعظم ما يكون من العبد، فلذلك كان هو العبادة.
وكان الإمام أحمد يدعو قائلا : ( اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك ولا يقدر على كشف الضر وجلب النفع سواك )
ودعاء المسألة يكون العبد فيه أخشع ما يكون وفِكْره حاضر، وكلما كان الفكر والقلب حاضرا في العبادة، كلما كان صاحبها أقرب إلى الله، فمن كان قلبه حاضرًا، كان دعاؤه مستجابًا.
أيضًا الدعاء هو العبادة لأن الدعاء ملازم للتوكل وللاستعانة، فإن التوكل هو اعتماد القلب على الله، والاستعانة هي اللجوء إليه طلباً للعون، والتعبير عن هذين الأمرين -التوكل والاستعانة- سيكون باللسان دعاءً وطلبًا، والتوكل مِن أعظم العبادات؛ لذلك كان الدعاء هو العبادة.
ومما نعلمه: أن الله من رحمته بعباده أن ينزل عليهم الحاجات، ويضيق عليهم أمور، من أجل أن يخرج منهم هذا الدعاء.
ولابد أن تتصور أن الداعي لمّا يدعو الله، من المؤكد أنه يدعوه لمصلحة ومنفعة تلحقه في الدنيا أو الآخرة.
لذلك كان بعض السلف يقول: إنه تكون لي حاجة إلى الله فأدعوه فيفتح لي من لذيذ مناجاته ما أتمنى أن حاجتي لم تُقضَ!، لماذا ؟
يخشى من انصراف قلبه عن هذه اللذة، يخشى أنه إن حُقّق له مراده يقع في قلبه برود تجاه الدعاء.
لذلك من النعم عليك أن يورثك الله حاجة تلجأ بها إليه.
ومما نراه بتكرار: أن كثيرا من الناس يجدون في قلوبهم ثُقلاً للدعاء، وما يثقله عليهم إلا الشيطان، فلابد أن لا تقتصر في قصدك ونيتك أثناء الدعاء على حصول المطلوب من أجل أن لا يسيطر عليك الشيطان.
وأنت تدعو اجمع قلبك أن تقصد التقرب إلى الله بالدعاء وأن تقصد عبادته التي هي أعلى الغايات.
فعلى هذا تكون على يقين من نفع الدعاء، وأن الدعاء هو العبادة وخلاصتها، فالدعاء يجذب القلب إلى الله، وتلجئك الحاجة للخضوع والتضرع له.
وهذا المقصود الأعظم من الدعاء أن تبقى خاضعاً متذللاً منكسراً؛ ولذلك يبغضه الشيطان ويثقله عليك.
وهذا الدعاء الذي فيه ذل وانكسار وطلب، أكمل بكثير من كثير من أحوال العبادة.
ومما يعين على أن يكون دعاءنا نافعا: أن نفهم ما ندعو به، لأن فهم الدعاء يجعل القلب يجتمع أكثر عليه.
والله سبحانه يحب أن يُسأل ويرغب إليه في الحوائج ويلح في سؤاله ودعائه ويغضب
على من لا يسأله ويستدعي من عباده سؤاله وهو قادر على إعطاء خلقه كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء والمخلوق بخلاف ذلك يكره أن يسأل ويحب أن لا يسأل لعجزه وفقره وحاجته، قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } ( سورة البقرة : من الآية 186) .
وجاء في الحديث عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” إن ربكم حييٌّ كريمٌ يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه، فيردّهما صفراً أو قال : خائبتين ” رواه ابن ماجة
وعن أبي هريرة مرفوعا (من لا يسأل الله يغضب عليه)صححه الألباني
وفي حديث آخر (يسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع) أخرجه البزار
وشسع النعل : السير الذي يشد به
وأخذ بعضهم هذا المعنى فقال :
الله يغضب إن تركت سؤاله —- وبني آدم حين تسأله يغضب
فلا تسألن بني آدم حاجة —-وسل الذي أبوابه لا تحجب
لم أطلب حوائج الدنيا ممن يملكها:
التقى الخليفة سليمان بن عبد الملك عند الكعبة بسالم بن عبد الله بن عمر وقد استغرق في صلاته وتسبيحه وركن بعدها إلى جدار وقد انشغل بذكر الله ….فقال له سليمان: سلني حاجة أقضها لك!
فلم يجب سالم… فكرر سليمان عليه القول ..
فقال سالم: والله لأستحي أن أكون في بيت الله عز وجل ثم أسأل أحد غيره !…
فانتظر سليمان حتى خرجوا من الكعبة وكرر عليه قائلا: ها نحن قد خرجنا من المسجد فسلني حاجة أقضيها لك!
قال سالم: أمن حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟
استغرب سليمان وأخذته الدهشة وقال: بل من حوائج الدنيا يا سالم! .. فنظر إليه وابتسامة عريضة على شفتيه وقال: إنني لم أطلب حوائج الدنيا ممن يملكها ، فكيف اطلبها ممن لا يملكها؟ !!!
الثناء والتمجيد وإظهار الافتقار إلى الله في الدعاء :
يقول ابن القيم في مدارج السالكين : علّم الله عباده كيفية سؤاله وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم :
توسل إليه بأسمائه وصفاته.
وتوسل إليه بعبوديته .
وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الاسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في صحيحه والإمام أحمد والترمذي.
أحدهما: حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: “سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو ويقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى” قال الترمذي: حديث صحيح
فهذا توسل إلى الله بتوحيده وشهادة الداعي له بالواحدانية وثبوت صفاته المدلول عليها باسم {الصَّمَدُ} وهو كما قال ابن عباس: “العالم الذي كمل علمه القادر الذي كملت قدرته”
والثاني: حديث أنس “أن رسول الله سمع رجلا يدعو: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنّان بديع السماوات والأرض ذا الجلال والإكرام ياحي يا قيوم فقال: لقد سأل الله باسمه الأعظم” فهذا توسل إليه بأسمائه وصفاته.
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين وهما التوسل بالحمد والثناء عليه وتمجيده والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيق بالإجابة.
ونظير هذا: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس “اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق والساعة حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت” فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له ثم سأله المغفرة.ا.هـ
ومثال ذلك أيضا الحديث الذي رواه ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحا ) قالوا : يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هذه الكلمات ؟ قال : ( أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن ) رواه أحمد وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح
وهذه أبيات للفقيه الشافعي أبو بكر الشيرازي
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}الأعراف 55
وذكر الله نبيه زكريا فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً}[مريم 3] يقول ابن القيم رحمه الله – في كتاب بدائع الفوائد-مختصرا.
وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة:
أحدها: أنه أعظم إيمانا لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع دعاءه الخفي وليس كالذي قال أن الله يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا.
ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات وإنما تخفض عندهم الأصوات ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه ومن رفع وصوته لديهم مقتوه ولله المثل الأعلى فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.
ثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه وذلت جوارحه وخشع صوته حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته وكسره وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوله بالنطق فقلبه سائل طالب مبتهل ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلا.
رابعها: أنه أبلغ في الأخلاص.
خامسها: أنه أبلغ في جمعه القلب على الله تعالى في الدعاء فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته فكلما خفض صوته كان أبلغ في صمده وتجريد همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى.
سادسها: وهو من النكت السرية البديعة جدا أنه دال على قرب صاحبه من الله وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه فيسأله مسألة مناجاة للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد؛ ولهذا أثنى سبحانه على عبده زكريا بقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} فكلما استحضر القلب قرب الله تعالى منه وإنه أقرب إليه من كل قريب وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليسا له يسمع خفي كلامه فبالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه، ولله المثل الأعلى سبحانه وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال: “اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته”
وقال تعالى: {وَإذا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ}.
وقد جاء أن سبب نزولها أن الصحابة قالوا: يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟
فأنزل الله عز وجل: {وَإذا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ}، وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء لا للنداء الذي هو رفع الصوت فإنهم عن هذا سألوا فأجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء وإنما يسأل مسألة القريب المناجي لا مسألة البعيد المنادي .
سابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يكل لسانه وتضعف بعض قواه وهذانظير من يقرأويكرر رافعا صوته فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته.
ثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل هناك تشويش ولا غيره .
تاسعها: إن أعظم النعم الإقبال على الله والتعبد له والانقطاع إليه والتبتل إليه ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت ولا نعمة أعظم من هذه النعمة فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وأن لا يقصد إظهارها له، وقد قال يعقوب ليوسف: {لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار فأصبح يقلب كفيه ولهذا يوصى العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله وأن لا يطلعوا عليه أحدا ويتكتمون به غاية التكتم .
عاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه فهو ذكر وزيادة كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: “أفضل الدعاء: الحمد لله” فسمى الحمد لله دعاء وهو ثناء محض لأن الحمد يتضمن الحب والثناء والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب فالحامد طالب لمحبوبه فهو أحق أن يسمى داعيا من السائل الطالب من ربه حاجة ما فتأمل هذا الموضع ولا تحتاج إلى ما قيل إن الذاكر متعرض للنوال وإن لم يكن مصرحا بالسؤال فهو داع بما تضمنه ثناؤه من التعرض كما قال أمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني —- حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما —– كفاه من تعرضه الثناء
وإذا استعنت فاستعن بالله
وأما الاستعانة بالله عز وجل دون غيره من الخلق فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل فمن أعانه الله فهو المعان ومن خذله فهو المخذول وهذا تحقيق معنى قول : ( لا حول ولا قوة إلا بالله) فإن المعنى لا تحول للعبد من حال إلى حال ولا قوة له على ذلك إلا بالله ، وهذه كلمة عظيمة وهي كنز من كنوز الجنة.
فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز )
أنواع الاستعانة :
والاستعانة تنقسم إلى قسمين: قسم محمود، وقسم مذموم:
فالقسم المذموم : هو الاستعانة بالخلق فيما لا يقدر عليه إلا الله: كإجابة الدعاء وكشف البلاء، والهداية، والإغناء، ونحو ذلك، فالله تعالى هو المتفرد بذلك الذي يسمع ويرى، و يعلم السر والنجوى، وهو القادر على إنزال النعم، وإزالة الضر من غير احتياج منه إلى أن يعرفه أحد أحوال عباده، أو يعينه على قضاء حوائجهم، والأسباب التي بها يحصل ذلك هو خَلَقَها و يَسَّرها، فهو مُسبب الأسباب التي بها يحصل ذلك ولهذا فرض سبحانه على المصلي أن يقول في صلاته (وإياك نستعين).
أما القسم الثاني المحمود: فهو الاستعانة بالله تعالى وحده، والتبرؤ من الحول والقوة، وتفويض الأمر إلى الله عز و جل، و هذا المعني في غير آية من القرآن كقوله تعالى : ( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [هود:123]،وقوله تعالى : (قل هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا) [الملك:29]
يقول ابن القيم : (والاستعانة بالله تعالى تجمع أصلين عظيمين:
الأصل الأول: الثقة بالله
والأصل الثاني: الاعتماد عليه.
فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه في أموره مع ثقته به لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به لحاجته إليه ولعدم من يقوم مقامه، فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به.
والتوكل معنىً يلتئم من أصلين من الثقة والاعتماد وهو حقيقة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، وهذان الأصلان،: وهما التوكل والعبادة قد ذكرا في القرآن في عدة مواضع قرن بينهما فيها، كقول شعيب عليه السلام:( وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)هود 88
وقوله تعالى:( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)هود123
فالعباد كلهم مجبولون على الاستعانة بالله تعالى والتوكل عليه في شؤونهم، ولكن حسن الاستعانة والتوكل يختلفان من قلب إلى قلب، ومن شخص إلى شخص، فبقدر قوة الإيمان واليقين عند العبد بقدر ما يقوي عامل الاستعانة بالله، وحسن الظن به، وتسليم الأمر له، لعلم القلب بحاجته إلى فضل الله تعالى وتيسير أمره.
ولو نظر كل منا في حاله في أمور دنياه وآخرته لوجد أنه يحتاج إلى عون الله تعالى حتى في جلب أنفاسه، فلا يستطيع أحد القيام بحق الله تعالى إلا بالاستعانة به على ذلك، فها هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم يعلم معاذا أن يقول [اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك]، فهو يحتاج إلى عون الله وفضله لأداء حقه على الوجه الذي يرضيه.
وهل المسلم يستطيع أن يتوضأ أو يصلي، أو يسجد أو يركع أو يسبح أو يذكر الله إلا بعونه، وهل يستطيع أيضاً أن يحج أو يعتمر، أو يزكي أو يصوم، أو يبر والديه أو يحسن إلى الناس إلا بعون الله وفضله، وهكذا في سائر أحوال طاعته لربه.
التعلق بالأسباب
والاستعانة بالله لا تعني إهمال الأخذ بالأسباب ولا التعلق بالأسباب على أنها الفاعلة إنما القلب يتعلق بالله والجوارح تعمل بالأسباب التي هيأها الله في الكون .
وبعض الناس تعلقت قلوبهم بالأسباب، وانصرفت عن مسبب الأسباب، ونسي هؤلاء قول الله تعالى في سورة الفاتحة [وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ].
فمنهم من يتعلق قلبه ببعض الأشخاص فينافقهم أو يدافع عنهم بباطل ، ومنهم من يتعلق قلبه بمكانته وسلطته ويظن أنها سبيله إلى العلو والمفاخرة بين أبناء جنسه، وهكذا دواليك، وقد نسي هؤلاء أو تناسوا أن الأمر بيد الله أولاً وآخراً، وأن شؤون الخلق مدبرة تحت مشيئته وقوته وحكمته.
الوصية الثالثة وهي قوله صلى الله عليه وسلم (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك إن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك )
يبين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الكلمات أن الأمة لو اجتمعت واتفقت كلها على نفــــع إنســــان بشيء لم يستطيعــــوا نفعه إلا بشيء قد كتبه الله وقدره له، وإن وقع منهم نفع له فإنما هو من الله تعالى؛ لأنه هو الذي كتبه وقدره ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك، وإنما قال: (لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك)، فالناس ينفع بعضهم بعضاً، لكن كل هذا مما كتبه الله للإنسان، فالفضل فيه لله عز وجل أولاً، فهو الذي سخر لك من ينفعك، ويحسن إليك، ويزيل كربتك.
وكذلك لو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، والإيمان بهذا يستلزم أن يكون الإنسان متعلقاً بربه، ومتكلاً عليه، لا يهتم بأحد؛ لأنه يعلم أنه لو اجتمع كل الخلق على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه ، وحينئــــذ يعلق رجاءه بالله، ويعتصم به، ولا يهمه الخلق، ولو اجتمعوا عليه،فيجب أن يصل هذا الأمر عند كل مسلم درجة اليقين الذي لا شك فيه ، أنه لا يملك الضر والنفع أحد إلا الله ، وما الخلق إلا أسباب فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن قال تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)الأنعام
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه دبر كل صلاة مكتوبة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.) رواه البخاري ومسلم
ومعنى (اللهم لا مانع لما أعطيت) يعني ما قدر الله أنه يحصل لك، يحصل لك لا أحد يستطع أن يمنعه ،فإذا قدر الله أنه يولد لك ولد أو أنك تتزوج فلانة، أو أنك ترزق مال، أو منـزل، لا أحد يستطيع منع ذلك أو رده ، وهذا معنى قوله جل وعلا: ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَاُ (2) سورة فاطر
وأما قوله صلى الله عليه وسلم (ولا معطي لما منعت)، معناه أن ما منعه ولم يقدره لك لا أحد يستطيع أن يوصله إليك، فإذا كان الله قدر أنه لا يولد لك لا أحد يستطيع أن يأتي لك بولد، وإذا كان الله قدر لك أنك تموت ما أحد يستطيع منع ذلك، وإذا قدر الله لك أنك تكون غنياً لا أحد يستطيع أن يمنعك وهذا معنى قوله جل وعلا: (وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ (2) سورة فاطر ، فالآية بمعنى الحديث .
وأما قوله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) الجد الغنى، والسلطان، فلا ينفع ذا الغنى، والمال، والوظائف لا ينفعه غناه من الله جل وعلا، فلا يغنيه عن الله سبحانه وتعالى، من ذلك جده، وغناه، ووظائفه يعني لا أحد يغنيه بدلاً من الله، إذا جاءه الجد وهو الموت ، بل ما أراده الله به نافذ، متى شاء ربه سلبه هذا كله يقول سبحانه وتعالى في كتابه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) سورة فاطر، فالعباد في أشد الفقر إلى ربهم وليس لهم غنى عنه سبحانه وتعالى أبداً، بل فقراء إليه وإن كان ملوكاً، وإن كانوا أغنياء وإن كانوا أصحاب ثروات طائلة، فهم فقراء إليه، ومتى شاء سلبهم ملكهم ومالهم في طرفة عين سبحانه وتعالى.
أهمية اليقين بالله :
إن الاعتقاد بتفرّد الله سبحانه بالضر والنفع والعطاء والمنع، وأن الخلق كلهم عاجزون عن إيصال نفع أو ضر غير مقدّر عند الله ؛ إن الاعتقاد بذلك يحقق تمام التعلق بالله و اللجأ إليه وسؤاله في كل حال ، كما يورث أنفة واستغناء عن الناس ،
وكلما أيقن العبد أن النفع والضر بيد الله وحده أوجب ذلك إفراده سبحانه بالطاعة والعبادة ، وأن يقدم طاعة الله على طاعة الخلق جميعاً كما ورد في الأثر عن أبي سعيد الخدري :- (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ، ولا ترده كراهة كاره )
وقال ابن القيم رحمه الله في ‘زاد المعاد’: لا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا من قلبه وبدنه’اهـ
ولأهمية اليقين فقد نبه الله نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يركن لأهل الشك ومن ليس لديهم اليقين الكامل بالله رب العالمين قال تعالى : ” فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) سورة الروم .
واليقين عده البعض الإيمان كله قال بعض السلف : الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله“
وقال ابن القيم : ” اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وهو مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يُمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تُفتتح بالمحبة واليقين، وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم'[ مدارج السالكين 2/397]
ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : “اللهم قْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ , وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا ، اللهم أمتعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا ، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا ، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا ، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا ، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِى دِينِنَا ، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا ، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا ، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا. أَخْرَجَهُ الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه .
وقال عامربن عبد قيس رحمه الله ثلاث آيات من كتاب الله عز وجل اكتفيتُ بهنّ عن جميع الخلائق :
الآية الأولى {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [يونس:107]
والآية الثانية {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [هود:6]
والآية الثالثة {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [فاطر:2 ]
ثمرة اليقين :
والإيمان بهذا الأمر يزيل أمراضا كثيرة نشكو منها كالقلق والخوف من المستقبل والاضطرابات النفسية وهذه الأمراض كلها من مخلفات الحضارة المادية التي جعلت الإنسان مع ضعف إيمانه بالله يخاف من أي لحظة مقبلة فهو خائف من الغد ، يتوقع دائما الكوارث والمصائب والبلايا ، ولذا نرى هنا كل شيء وأي شيء يقومون بالتأمين عليه بالأموال الطائلة ، وكل هذا بسبب القلق من اللحظة المقبلة ….لكن يبقى السؤال هب أن إنسانا أمن على حياته هل يحول ذلك بينه وبين الموت ؟!! أو أمن على صحته هل يحول ذلك بينه وبين المرض ؟!! أبدا لا يرد ذلك شيئا من قضاء الله فهو الفعال لما يريد .
والمسلم يوقن أن هذا الكون ليس بفوضى لأن كل شيء عند الله بمقدار بحكمة بتقدير وتدبير ، وهو سبحانه قائم على كل نفس بما كسبت لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، فاليقين بذلك كله يحرر الإنسان من القلق والخوف ؛لأن الإنسان بطبيعته يخاف على نفسه وماله وعياله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف حال الإنسان ( أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة. ) رواه النسائي والترمذي عن أبي وهب الجشمي
يعني: أصدق الأسماء التي تعبر عن الصفات المغروسة في البشر اسم حارث وهمام؛ لأن كل إنسان حارث، يعني: أنه عامل أو كاسب، وكل إنسان همام، أي: كثير الهم والإرادة، فالإنسان مجبول على أن يقصد شيئاً ويريده ،لكن ما يربط على القلوب بالسكينة هذا اليقين أن الذي يملك الضر والنفع هو الله .
اليقين عند الأنبياء :
اليقين عند إبراهيم عليه السلام
وأنبياء الله علمونا هذا اليقين كما في قصة الخليل إبراهيم لما كسر الأصنام لقومه فحكموا عليه بالإعدام حرقا { قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ } [الصافات: 97-98] لجأوا إلى قوتهم وسلطانهم، لينصروا ما هم عليه من شرك وسفه وطغيان، فكادهم الله جل جلاله وأعلى كلمته، وأنجى عبده إبراهيم كما قال تعالى:{ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ } [الأنبياء: 68-70] .
وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطبًا من جميع ما يمكنهم من الأماكن، ثم ألقوا إبراهيم عليه السلام مقيدًا مكتوفًا في النار فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
كما روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار. وقالها محمد حين قيل له: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } الآية [آل عمران: 173-174]
فأرادوا أن ينتصروا فخُذلوا ، وأرادوا أن يرتفعوا فاتّضعوا ، وأرادوا أن يغلبوا فغُلبوا ، قال الله تعالى:{ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ } وفي الآية الأخرى : { الأَسْفَلِيْن } فكأن الله يريد أن يقول لهم إن آلهتكم عاجزة أن تنتقم لنفسها فضلا عن أنها عاجزة عن نصرتكم ، وها أنتم أوقدتم النار وألقيتم إبراهيم فيها فهل تملكون أمر النار؟!! أنتم لا تملكون شيئا لأن النار صارت بأمر الله بردا وسلاما على إبراهيم !!!
فالظالم يظن أنه يقدر على كل شيء فيفعل في ظنه ما يشاء ولا يرعوي لكن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
اليقين عند هود عليه السلام
ولنتأمل موقف هود عليه السلام إذ يقول لقومه ( إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ{54} مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ {55} إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّرَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}هود 56
فهو يتحدى قومه قائلاً : اطلبوا لي الضرر كلكم بكل طريق تتمكنون بها مني ، ثم لا تنظرون أي لا تمهلون فما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها فلا تتحرك ولا تسكن إلا بإذنه وتقديره ، فلو اجتمعتم جميعاً على الإيقاع بي ، والله لم يسلطكم عليّ لم تقدروا على ذلك .
موسى وفرعون :
وها هو كليم الله موسى عليه السلام يقول لأصحابه حينما أدركهم فرعون فوجدوا البحر من أمامهم والعدو من ورائهم : ” فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) سورة الشعراء ، فالبحر انشق ماؤه بطريق يابس وتجمد الماء على الجوانب ، ويعبر موسى وينجو ومن معه من بني إسرائيل ويهلك الله فرعون ومن معه .
النبي وصاحبه في الغار :
وهذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهما في الغار وقد أحدقت بهما الإخطار ” ما ظنك باثنين الله ثالثهما , لا تحزن إن الله معنا ” قال سبحانه : ” إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) سورة التوبة .
من يمنعك مني ؟
ولقد حقق المصطفى صلى الله عليه وسلم أكمل وأروع الأمثلة في هذا اليقين ، ففي غزوة ذاتِ الرقاع ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم تحت ظل شجرة ، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي عليه الصلاة والسلام معلق بالشجرة ، فاخترطه وجرده من غمده ،وقال للنبي عليه الصلاة والسلام : تخافني ؟ فقال عليه الصلاة والسلام له: لا ، قال : فمن يمنعك مني فقال : عليه الصلاة والسلام : (الله ) فسقط السيف من يده فالتقطه رسول الله فأمسك به وقال ومن يمنعك مني فقال الرجل وقد تبدل الوضع لا أحد !!!
غزوة الأحزاب :
وفي شوال من السنة الخامسة من الهجرة النبوية المباركة وقع ابتلاء شديد على المسلمين إذ اجتمعت عليهم جموع المشركين مع غدر اليهود وتخذيل المنافقين وجاءوا بجيش قوامه عشرة ألاف ، في واقعة سميت بغزوة الأحزاب، واجتمع عليهم الجوع الشديد، وبرد الشتاء، مع خوف العدو، كما قال جابر رضي الله عنه: (إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدْية شديدة فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كُدْية عرضت في الخندق فقال أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا …. ) وتتواصل المحن عليهم، ويعظم البلاء بهم ؛ إذ سرت في الناس شائعة أن اليهود داخل المدينة قد نقضوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم سيحالفون المشركين على المسلمين، وأن الخطر قد أحاط بنساء المسلمين وذراريهم داخل حصون المدينة، وانضم إليها ظهور النفاق، وتخذيل المنافقين في أوساط المسلمين، وإضعاف معنوياتهم ببث الشائعات والأراجيف، وتخويفهم من قوة المشركين، مع الانسحاب من الجيش على ملأ من الناس، حتى قال قائل المنافقين: (كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط) إنها محنة عظيمة، وكرب شديد، لا يصمد أمامه إلا من كان قوي الإيمان واليقين، مع تثبيت الله تعالى وربطه على القلوب.
ووصف القرآن العظيم هذا البلاء بأدق وصف وأبلغه، وأفصح عما أصاب المؤمنين من عظيم الشدة والكرب {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11].
نعم زاغت الأبصار من شدة البلاء والكرب، وعند استحكام البلاء، وشدة الكرب يأتي الفرج من الله تعالى؛ إذ أرسل جنده على الكافرين، وخالف بينهم وبين اليهود فوقع الشر بينهم بخدعة نعيم بن مسعود رضي الله عنه الذي أسلم حينئذ وسعى بالوقيعة بين المشركين واليهود وهم لا يعلمون إسلامه، ورأى المنافقون ما يسوؤهم من بقاء الإسلام وأهله ، وسلط الله الريح على الأحزاب فقلعت خيامهم وكفأت قدورهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9].
فعصرت الفتنة القلوب عصرا حتى لم يبق بها تعلق إلا بالله وأصاب المسلمون برد اليقين بالله لما رأوا نصر الله قال تعالى (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)الأحزاب
اليقين والأخذ بالأسباب :
وليس معنى اليقين إهمال الأخذ بالأسباب ؛ إنما نؤمن بهذا اليقين فيستعلي على آفة النفس البشرية من الخوف والقلق ، أو استعجال الرزق بأكل الحرام ، أو النفاق أو قول الزور والكذب ، وهنا مسألة أود توضيحها :
التوكل المقصود منه التفويض والرضا ؛ فليس معنى التوكل أن يعطيك الله ما تريد إنما الرضا بما يريد ، فمع صدق التوكل تنكشف عين البصيرة فترى حسن اختيار الله لك ، فالله سبحانه يفعل ما يراه خيرا لك لا ما تظنه أنت خير لك وذلك لأنه الحكيم وهذا معنى قولنا (حسبنا الله ونعم الوكيل) فالخير فيما يريد سبحانه لا فيما تريد أنت .
(واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك)
وقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك)، هو توجيه إلى الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره، فقوله: (واعلم أن ما أخطأك) أي من المقادير فلم يصل إليك، (لم يكن) مقدراً عليك (ليصيبك)؛ لأنه بان بكونه أخطأك أنه مقدر على غيرك، (وما أصابك) منها (لم يكن) مقدراً على غيرك (ليخطئك)، وإنما هو مقدر عليك؛ إذ لا يصيب الإنسان إلا ما قدر عليه، ومعنى ذلك: أنه قد فرغ مما أصابك أو أخطأك من خير وشر، فما أصابك فإصابته لك محتومة لا يمكن أن يخطئك وما أخطأك فسلامتك منه محتومة، فلا يمكن أن يصيبك.
فلابد من الإيمان بأن كل ما يصيب العبد مما يضره وينفعه في دنياه فهو مقدر عليه، وأنه لا يمكن أن يصيبه ما لم يكتب له ولم يقدر عليه ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهــم جميعاً. قــال تعالى: ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْـدِ قَلْبَـهُ وَاللَّهُ بِكُـلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) التغابن
يعني أن من أصـابته مصـيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب، واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقيناً صادقاً، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيراً منه، روى ابن كثير عن ابن عباس أنه قــال، في قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْــدِ قَلْبَهُ): يعني يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيـــــبه. يقول ابن دقيق العيد: (هذا هو الإيمان بالقدر، والإيمان به واجــــب، خيره وشــره، و إذا تيقن المؤمن هذا، فما فائدة سؤال غير الله والاستعانة به )
الرضا بما قضى الله :
فما أصابك هو مراد الله فيك فلا خطأ ولا خلل ، ولا كما يقول البعض فلان محظوظ أو فلان منحوس ، فنحن المسلمين لا نعتقد بما يسمى الحظ والنحس لأننا نؤمن أن كل شيء بقضاء الله وقدره فلا مغالبة في الرزق أو الأجل أو دفع ضر أو جلب نفع ، فكل شيء بإرادة الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍّ خير ,احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تَعْجَز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل فإن لَوْ تفتح عمل الشيطان” رواه مسلم .
من لم يمت بالسيف مات بغيره :
يروي الشيخ عائض القرني أن شابا في دمشق حجز ليسافر ، وأخبر والدته أن موعد إقلاع الطائرة في الساعة كذا وكذا ، وعليها أن توقظه إذا دنا الوقت ، ونام هذا الشاب ، وسمعت أمه الأحوال الجوية في التلفزيون ، وأن الرياح هوجاء ، وأن الجو غائم ، وأن هناك عواصف رملية ، فأشفقت على وحيدها وبخلت بابنها ، فما أيقظته أملا في أن تفوته الرحلة ؛ لأن الجو لا يساعد على السفر ، وخافت من الوضع الطارئ ، فلما تأكدت من أن الرحلة قد فاتت ، وقد أقلعت الطائرة بركّابها ، أتت إلى ابنها توقظه فوجدته ميتا في فراشه، وصدق الله العظيم إذ يقول : ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )الجمعة:8.لا تحزن ص(341) –
( رفعت الأقلام وجفت الصحف)
وقوله صلى الله عليه وسلم ( رفعت الأقلام وجفت الصحف) هو كناية عن تقدم كتابة المقادير كلها والفراغ منها من أمد بعيد فإن الكتاب إذا فرغ من كتابه ورفعت الأقلام عنه وطال عهده فقد رفعت عنه الأقلام ، وجفت الصحف التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها وهذا من أحسن الكنايات وأبلغها .
وقد دل الكتاب والسنن الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى قال الله تعالى : (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير )الحديد 22
وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ) صحيح مسلم
وفيه أيضا عن جابر أن رجلا قال يا رسول الله فيم العمل اليوم ؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل ؟
قال : لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير.
قال : ففيم العمل ؟
قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له .
وحديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أول ما خلق الله القلم ثم قال اكتب فكتب في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة )أخرجه الإمام أحمد
وهذا يدل على أن ما في علم الله تعالى، أو ما أثبته سبحانه في أم الكتاب ثابت لا يتبدل ولا يتغير ولا ينسخ، وما وقع وما سيقع كله بعلمه تعالى وتقديره ، وهذه الجملة من الحديث تأكيد لما سبق من الإيمان بالقدر، والتوكل على الله وحده، وأن لا يتخذ إلهاً سواه، فإذا تيقن المؤمن هذا فما فائدة سؤال غير الله والاســتعانة به ، ولهذا قال : ( رفعت الأقلام وجفت الصحف ): أي لا يكون خلاف ما ذكرت لك بنسخ ولا تبديل.
يقول ابن رجب الحنبلي : واعلم أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل وما ذكر قبله وبعده فهو متفرع عليه وراجع إليه ؛ فإن العبد إذا علم أن لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة ؛علم حينئذ أن الله وحده هو الضار النافع المعطي المانع ؛ فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل وإفراده بالطاعة ، وحفظ حدوده ؛ فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار ، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر ولا يغني عن عابده شيئا ، فمن يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع غير الله أوجب له ذلك إفراده بالخوف ، والرجاء، والمحبة والسؤال، والتضرع ، والدعاء ، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعا ، وأن يتقي سخطه ، ولو كان فيه سخط الخلق جميعا ، وإفراده بالاستعانة به والسؤال له ، وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء ، خلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد ونسيانه في الرخاء ودعاء من يرجون نفعه من دونه .
قال الله عز وجل (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ) الزمر38
ومعنى هذا أن حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق ، والتقدير الماضي يعني أن العبد يجهد على أن يرضي نفسه بما أصابه ، فمن استطاع أن يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور فليفعل ، فإن لم يستطع الرضا فإن في الصبر على المكروه خيرا كثيرا
فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب ، أحدهما أن يرضى بذلك وهي درجة عالية رفيعة جدا ، قال الله عز وجل (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه )
قال علقمة : هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى
ومما يدعو المؤمن إلى الرضا بالقضاء تحقيق إيمانه بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته سراء شكر ، وكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، وكان خيرا له ، وليس ذلك إلا للمؤمن )
وقال أبو الدرداء : إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به
وقال ابن مسعود إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في الشك والسخط
وقال عمر بن عبد العزيز أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر فمن وصل إلى هذه الدرجة كان عيشه كله في نعيم وسرور
وقال عبد الواحد بن زيد الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين .
والدرجة الثانية أن يصبر على البلاء وهذه لمن لم يستطع الرضا بالقضاء فالرضا فضل مندوب إليه مستحب والصبر واجب على المؤمن حتم وفي الصبر خير كثير فإن الله أمر به ووعد عليه جزيل الأجر قال الله عز وجل (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) الزمر
وقال (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) البقرة
والفرق بين الرضا والصبر أن الصبر كف النفس وحبسها عن السخط مع وجود الألم وتمني زوال ذلك وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع والرضا انشراح الصدر وسعته بالقضاء وترك تمني زوال الألم وإن وجد الإحساس بألم لكن الرضا يخففه ما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة ، وإذا قوي الرضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية كما سبق .اهـ
واختم بعبارة لجعفر الصادق رحمه الله قال : (إن الله أراد بنا أشياء ،وأراد منا أشياء ،فما أراده بنا أخفاه عنا ،وما أراده منا بيَّنه لنا ،فما بالنا نَنْشغل بما أراده بنا … عمَّا أراده منا؟!)
الرواية الأخرى للحديث :
في رواية الإمام أحمد وغيره “احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك. وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً”.
قوله صلى الله عليه وسلم : (احفظ الله تجده تجاهك) (وتنطق تجاهك بضم التاء وكسرها)
معناه أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله حيث توجه يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)النحل128
قال قتادة : من يتق الله يكن معه ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب والحارس الذي لا ينام والهادي الذي لا يضل .
وكتب بعض السلف إلى أخ له أما بعد فإن كان الله معك فمن تخاف وإن كان عليك فمن ترجو .
وهذه المعية الخاصة هي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون (لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) [طه :46]
وقول موسى (كلا إن معي ربي سيهدين ) [الشعراء: 62]
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وهما في الغار (ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا ) فهذه المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة ؛ بخلاف المعية المذكورة في قوله تعالى (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ) المجادلة 7
فإن هذه المعية تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم فهي مقتضية لتخويف العباد منه والمعية الأولي تقتضي حفظه ونصره ، فمن حفظ الله وراعى حقوقه وجده أمامه وتجاهه على كل حال فاستأنس به واستغنى عن خلقه .
وقيل لبعضهم : ألا تستوحش وحدك ؟ فقال كيف أستوحش وهو يقول أنا جليس من ذكرني .
أما عن الوصية الثالثة فقوله صلى الله عليه وسلم : “تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة”
الرخاء ضد الشِّدّة ، وحال الرخاء يشمل كل أحوال الإنسان الاعتيادية ، أما الشدائد فهي عارضة وليست دائمة .
والمعنى : أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه فقد تعرف بذلك إلى الله وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة فعرفه ربه في الشدة ، وهذه معرفة خاصة تقتضي قرب العبد من ربه ومحبته له وإجابته لدعائه .
وهي المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه ( ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) وفي رواية ولئن دعاني لأجيبنه“
فالمسلم يلجأ إلى الله تعالى في أحواله كلها؛ في سرَّائه وضرَّائه، وشدَّته ورخائه، وصحته وسقمه، فلا يقتصر ذلك في حال الشدة فقط إذ أن ملازمةُ المسلم للطاعة والدعاء حال الرخاءِ، ومواظبته على ذلك في حال السرَّاء سببٌ عظيمٌ لإجابة الدعاء عند الشدائد والمصائب والكُرَب والبلاء، وقد جاء في الحديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ( مَن سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فلْيُكثِر الدعاءَ في الرخاء ) رواه الترمذي، والحاكم، وغيرُهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسنده حسن
وقد ذمَّ الله في مواطن كثيرة من كتابه العزيز من لا يلجأون إلى الله ولا يُخلصون الدِّين إلاَّ في حال شدَّتهم، أمَّا في حال رخائهم ويُسرهم وسرَّائهم ، فإنَّهم يُعرضون وينسون ما كانوا عليه يقول الله تعالى: “ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ “
ويقول تعالى: “ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ” فهي تدلُّ دلالة واضحة على ذمِّ مَن لا يعرف الله إلاَّ في حال ضرَّائه وشدَّته، أمَّا في حال رخائه فإنَّه يكون في صدود وإعراض ولَهوٍ وغفلة وعدم إقبال على الله تبارك وتعالى فالواجبَ على المسلم أن يُقبلَ على الله في أحواله كلِّها في اليُسرِ والعُسرِ، والرخاءِ والشدِّةِ، والغنى والفقرِ، والصحةِ والمرضِ، ومَن تعرَّف على الله في الرخاء عرفه الله في الشدَّة، فكان له معيناً وحافظاً ومؤيِّداً وناصراً .
قال ابن رجب رحمه الله: “معرفة العبد لربه نوعان:
أحدُهما: المعرفةُ العامة، وهي معرفةُ الإقرار به والتَّصديق والإيمان، وهذه عامةٌ للمؤمنين.
والثاني: معرفة خاصة تقتضي ميلَ القلب إلى الله بالكلية، والانقطاعَ إليه، والأُنس به، والطمأنينة بذكره، والحياء منه، والهيبة له، وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون، كما قال بعضهم: مساكينُ أهلُ الدُّنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها، قيل له: وما هو؟ قال: معرفةُ الله عز وجل“.
وقال أحمدُ بنُ عاصم الأنطاكيُّ: “أحبُّ أنْ لا أموتَ حتّى أعرفَ مولاي“.
ومعرفة الله أيضاً لعبده نوعان:
معرفة عامة وهي علمه سبحانه بعباده، واطِّلاعه على ما أسرُّوه وما أعلنوه، كما قال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) ، وقال: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ)،
والثاني: معرفة خاصة: وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبَه إليه، وإجابةَ دعائه، وإنجاءه من الشدائد، وهي المشار إليها بقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكى عن ربِّه: «ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِل حتَّى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها، فلئن سألني، لأُعطِيَنَّهُ، ولئن استعاذني لأعيذنَّه».ا.هـ
مقارنة بين يونس وهو في بطن الحوت وفرعون وهو يغرق :
معرفة الله والإيمان به وتعظيمه ليس شيئا طارئا لينقذ الإنسان نفسه من الهلكة كما فعل عدو الله فرعون حينما أدركه الغرق لجأ إلى الله وقال : (آَمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) يونس
فيجيبه الله (آَلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢)يونس
ومن الملفت للنظر أن المد في ( آلآن ) في قراءة حفص مد لازم ست حركات “آلآن” لم تتذكر أن لك إلها تؤمن به إلا الآن
أمَّا سيدنا يونس حينما ابتلعَهُ الحوت ( فنادى في الظلمات أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) الأنبياء
لماذا قُبِلَت هذه الكلمة من يونس ولم تُقبل من فرعون ؟ كلاهما في المحنة قال : لا إله إلا الله ؟
فرعون ما عَرَفَ الله قبل المحنة لذلك ما نفعته عند المحنة
سيدنا يونس عَرَفَ الله قبل المحنة فلما جاءت المحنة نفعته هذه الكلمة هذا أول فرق فرعون الذي قال بكل كبر وغرور (أنا ربكم الأعلى ) النازعات24
أما يونس نادى وهو مكظوم ( لاإِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ )(٨٧) الأنبياء
هناك شيءٌ آخر : وهو أنَّ سيدنا يونس قال ” لا إله إلا أنت سبحانك” كلمة (أنت) يخاطبه وجهاً لوجهٍ .
أما فرعون فماذا قال؟ قال ” لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل “
سيدنا يونس قال : “لا إله إلا أنت” وكأنه يرى الله معه
أما فرعون سمع أنه يوجد إله لموسى بيده كل شيء فلما شرع في الغرق شعَر أن إله موسى هو الذي أغرقه فقال ” آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل ” ، فذِكرُ ضمير الغائب دليل على أنه غير مُتحقق .
قُبلتْ (لا إله إلا الله) من سيدنا يونس لأنه كان من المُسبحين ولم تُقبل من فرعون لأنه لم يكن من المُسبحين .
ففِرعون حينما قال :لا إله إلا الله قبل أن يغرق قالها ليتخلّص من الغرق
الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار:
قص النبي عليه السلام خبر الثلاثة من بني إسرائيل آواهم المبيت إلى غار فتدهدهت عليهم صخرة عظيمة أغلقت فم الغار فإذا الغار صندوق مغلق محكم الإغلاق, مقفل موثق الإقفال. إن نادوا فلن يسمع نداؤهم, وإن استنجدوا فلا أحد ينجدهم, وإن دفعوا فسواعدهم أضعف وأعجز من أن تدفع صخرة عظيمة سدت فم الغار, وكانت كربة, وكانت شدة, فلم يجدوا وسيلة يتوسلون بها في هذه الشدة إلا أن يتذكروا معاملتهم في الرخاء, فدعوا الله في الشدة بصالح أعمالهم في الرخاء.
دعا أحدهم ببره والديه, يوم أتى فوجدهما نائمين، وطعامهما قدح من لبن في يده، وصبيته يتضاغون(يبكون) من الجوع, وكان بين خيارين إما أن يوقظ الوالدين من النوم, وإما أن يطعم الصبية!! فلم يختر أيًا من هذين الخيارين, ولكن اختار خيارًا ثالثًا وهو أن يقف والقدح على يده والصبية يتضاغون عند قدميه، ينتظر استيقاظ الوالدين الكبيرين, والوالدان يغطان في نوم عميق حتى انبلج الصبح وأسفر الفجر فاستيقظا، وبدأ بهما وأعرض عن حنان الأبوة وقدم عليه حنان البنوة على الأبوة فشرب أبواه وانتظر بنوه. “اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه”.
ثم دعا الآخر, فتوسل إلى الله بخشيته لله ومراقبته يوم أن قدر على المعصية, وتمكن من الفاحشة ووصل إلى أحب الناس إليه، ابنة عمه, بعد أن اشتاق إليها طويلاً وراودها كثيرًا وحاول فأعيته المحاولة, حتى إذا أمكنته الفرصة واستطاع أن يصل إلى شهوته وينال لذته خاطبت فيه تلك المرأة مراقبة الله فقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه, فارتعد القلب واقشعر الجلد، ووجفت النفس وتذكر مراقبة الله تعالى فوقه، فقام عنها، وهي أحب الناس إليه وترك المال الذي أعطاها.”اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه”.
ودعا الثالث فتوسل بعمل صالح قربه, وهو الصدق والأمانة حيث استأجر أجراء فأعطاهم أجرهم, وبقي واحد لم يأخذ أجره فنمّاه وضارب فيه, فإذا عبيد وماشية وثمر…. ثم جاء الأجير بعد زمن طويل يقول: أعطني حقي.
فكان أمينًا غاية الأمانة, نزيهًا غاية النزاهة, فقال: حقك ما تراه, كل هذا الرقيق, وكل هذه الماشية, كلها لك, فكانت مفاجأة لم يستوعبها عقل هذا الأجير الفقير, فقال: “اتق الله ولا تستهزئ بي” فقال: يا عبد الله إني لا أستهزئ بك, إن هذا كله لك, فاستاقه جميعًا, ولم يترك له شيئًا.”اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه”.
وتنامت دعواتهم, فإذا الشدة تفرج والضيق يتسع, وإذا النور يشع من جديد فيخرجون من الغار يمشون
الله أكبر صدق نبينا عليه الصلاة والسلام تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة .