الشتاء غنيمة الأبرار ورخص لأصحاب الأعذار
وقفات إيمانية مع الشتاء
الوقفة الأولى : تأمل وتفكر:
إن من علامات صحة القلب أن يكون معتبراً بما يراه من آيات كونية ، أو يسمعه من آيات شرعية ؛ فصاحب القلب الحي إذا قرأ أو سمع قول الله تعالى : (يُقَلِّبُ الله اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) النور 44
تساءل: هل أنا من أهل البصيرة الذين يعتبرون؟
وإذا مرّ بقولَ الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) الفرقان 62 ، بحث عن أثر هذا التقليب في قلبه، وأثره على زيادة شكره لربه .
أما إذا رأوا تقلب الكون ، وتغير الأحوال ما بين صيف وشتاء ، وخريف وربيع ، حملهم ذلك على مزيد من التفكر والتأمل الذي يرجون معه أن يكونوا من أهل هذه الآية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران 190، 191]
هكذا هم أصحاب القلوب الحية .. يعيشون حياتهم بين تأمل وتدبر ، واعتبار وتفكر.
حكمة الله في الحر والبرد :
في فصل الشتاء: البرد، وما أدراك ما البرد؟
إن فصل الشتاء والبرد متلازمان ومترافقان ، وما يعنينا أن ندرك بمنظورنا الإيماني، أن البرد آية عجيبة من آيات الله؛ هذا البرد متفاوت في قوته ومختلف في درجاته بين أصقاع العالم، فهناك مناطق يتخلل البرد كل مفاصلها وبواطنها فتصل فيها درجات الحرارة إلى خمسين درجة تحت الصفر وهناك ما هو دون ذلك مما لا يقوى الإنسان على تحمله.
فمن أين مصدر كل هذا البرد ، هنالك إجابة لا يمكن أن يقدمها لك البشر ولا العلم الحديث، ولكن يقدمها لك الوحي، فكما في الحديث الصحيح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: { اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب. أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين؛ نفس في الشتاء ونفس في الصيف فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدون من الحر من سمومها } رواه البخاري ومسلم
واختلف العلماء هل هذا الكلام على الحقيقة أم المجاز:
قال ابن عبد البر رحمه الله هذه الشكوى بلسان المقال.
وقال النووي رحمه الله : حمله على حقيقته هو الصواب ، وتنفسها على الحقيقة.
والمراد بالزمهرير شدة البرد , ولا إشكال من وجوده في النار قال تعالى : (لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا)الإنسان 13
فهذه النار عندما اشتكت إلى خالقها أنه قد أكل بعضها بعضاً، فكيف بالذي في داخلها ؟ وكيف بمن يعذب فيها ؟ وكيف بمن حكم الله عليه بالخلود فيها؟
فأذن لها بنفسين ، نفس في كل موسم فأشد ما نجد من الحر ما هو إلاّ نفس من أنفاس جهنم، وأشد ما نجد من البرد أيضاً ما هو إلاّ نفس من أنفاس جهنم.
وسبحان الله كان أول قدومي إلى مونتريال في شهر يناير في يوم عاصف نزلت فيه الحرارة إلى 30 درجة تحت الصفر ، فلما سألني بعض الإخوة بعد عدة أيام ما هو انطباعك عن مونتريال ؟
قلت: إنها ثلاجة كبيرة ، والله يا أخي إن من يرى فصل الشتاء هنا يدرك بعين اليقين كيف أن الله سيعذب أهل النار بالزمهرير (شدة البرد ) !!!
لذا كان من تمام نعيمِ أهلِ الجنة ـ جعلني الله وإياكم من أهلها ـ أنهم وُقوا أذى الحر والبرد ،كما قال سبحانه : (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) [الإنسان 13]
بعكس أهل النار ـ أجارني الله وإياكم منها ـ الذين يتنوع العذاب في حقهم حتى يجمع لهم بين الطعام الحار جداً ،والبارد جداً ، ولئن كان هذا مؤذيا في الدنيا ،فما ظنك به في الآخرة ؟! قال تعالى: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً ، إِلاّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً) النبأ 24
قال ابن عباس رضي الله عنهما : الغساقُ : الزمهرير البارد الذي يحرق من برده .
وقال تلميذه مجاهد : هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده.
فمَنْ منا الذي إذا لسعه برد الشتاء تذكر ما يعانيه أهل النار من شدة زمهرير جهنّم ؟!
ومن الذي إذا لسعه برد الشتاء تذكر ما يتجرعه أهل النار من غصص في أكل الغساق ؟!
المصالح والحكم في الحر والبرد :
وقد ينزعج بعض الناس من برودة الشتاء كما يتضايق البعض من حر الصيف، وفي كلٍ منهما وفي تقلب الأحوال عموماً مصالح وحكم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ثم تأمل بعد ذلك أحوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول ، وما فيها من المصالح والحكم، إذ لو كان الزمان كله فصلا واحدا لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه ، فلو كان صيفا كله لفاتت منافع ومصالح الشتاء ، ولو كان شتاء لفاتت مصالح الصيف، وكذلك لو كان ربيعا كله ، أو خريفا كله …..
ثم بدأ رحمه الله يذكر بعض فوائد البرد ودخول فصل الشتاء فقال:
ففي الشتاء تغور الحرارة في الأجواف وبطون الأرض والجبال، فتتولد مواد الثمار وغيرها، وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء، فيحصل السحاب والمطر والثلج والبرَد الذي به حياة الأرض وأهلها واشتداد أبدان الحيوان وقوتها، وتزايد القوى الطبيعية واستخلاف ما حللته حرارة الصيف من الأبدان، وفي الربيع تتحرك الطبائع وتظهر المواد المتولدة في الشتاء، فيظهر النبات ويتنور الشجر بالزهر، ويتحرك الحيوان للتناسل، وفي الصيف يحتد الهواء ويسخن جدا فتنضج الثمار وتنحل فضلات الأبدان والاخلاط التي انعقدت في الشتاء، وتغور البرودة وتهرب إلى الأجواف، ولهذا تبرد العيون والآبار ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من الأطعمة الغليظة لأنها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون، فلما جاء الصيف خرجت الحرارة إلى ظاهر الجسد وغارت البرودة فيه، فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان وصفا الهواء وبرد فانكسر ذلك السموم، وجعله الله بحكمته برزخا بين سموم الصيف وبرد الشتاء. انتهى كلامه رحمه الله.
ولشيخ ابن القيم، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام نفيس كان يتحدث فيه رحمه الله على هروب الشيء من ضده، وأن كثيراً من الأشياء يمكن أن تقاوم بأضدادها، وهذه قاعدة مهمة يحتاجها الجميع عامة والمصلحون خاصة، فمَثّل لقاعدته بكلام يناسب موضوعنا فقال رحمه الله:
ويسخن جوف الإنسان في الشتاء، ويبرد في الصيف، لأنه في الشتاء يكون الهواء باردا فيبرد ظاهر البدن فتهرب الحرارة الى باطن البدن، لان الضد يهرب من الضد، والشبيه ينجذب إلى شبيهه، فتظهر البرودة إلى الظاهر، ولهذا يسخن جوف الأرض في الشتاء وجوف الحيوان كله، وتبرد الأجواف في الصيف لسخونة الظواهر فتهرب البرودة الى الاجواف. انتهى كلامه رحمه الله.
فإذا عرفت بأن الضد يهرب من الضد، والشبيه ينجذب إلى شبيهه، أدركت وعرفت بأنه لا طريق للتخلص من رقّ المعصية إلاّ بضدها وهي الطاعة، وأنه إذا ارتاحت نفسك بالجلوس مع العصاة، فهذا من انجذاب الشبيه إلى شبيهه، والله المستعان.
في فصل الشتاء نزول ماء المطر:
هذا الماء يذكرنا بأسرار الله العظيمة التي أودعها في هذا الكون ؛ فلولا الماء لما استطاع الإنسان العيش على هذه الأرض، فالماء آية ونعمة ومدَد للكائنات كلها، بل هو أصل الحياة والأحياء، كما قال الخالق سبحانه: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) أي: أصل كل الأحياء منه.
والماء نعمة تعم على عالم الإنسان وعالم الحيوان وعالم النبات، القريب من هذه العوالم والبعيد، والظاهر والخفي، كما قال الخالق سبحانه: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) (الفرقان 48-49) .
وقال تعالى ممتناً على عباده: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ) (البقرة 22 ).
وقال تعالى داعيا عباده إلى التفكر: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ) (الزمر،21)
وقال كذلك: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) يعني: السحاب.
فهذا هو فصل الشتاء يجعلك ترى آية الله ونعمته الكبرى عليك وعلى الكائنات من حولك في الماء الذي ينزله من السماء التي تظلك إلى الأرض التي تقلك.
ولكن المؤمن لا بد أن يتفكر في ذلك. فمن أين يأتي هذا الغيث؟
ومن الذي يخلق هذا المطر؟
هذا ما يجيب عليه القرآن الكريم، الذي يقول لك: إن عملية تخليق المطر وتصنيعه تتم هناك في السماء، بدون أي تدخل من الإنسان، تتم بكافة مراحلها: برياحها وغيومها ومائها ونقلها وتراكمها وفرزها وتكاثفها وتجمدها وسيولتها، عشرات العمليات المعقدة تتم هناك في السماء قبل أن تنزل عليك قطرة من الغيث.
فمن الذي خلق ذلك كله؟ ومن الذي صنع ذلك كله ؟
ومن الذي أمر بذلك كله ؟ ومن الذي أراد ذلك وشاءه وفعله ؟
إنه ربنا القادر المقتدر العليم الخبير (صنع الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)، سبحانه، فعل ذلك كله بإرادته المنفردة التي لا يشاركه فيها أحد، فتفكر في ذلك ، وتأمل، لتزداد تعظيما وإجلالا لقيوم السموات والأرض سبحانه. فهو القائل عز وجل: (الله الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ) . . .
في هذه الآية يخبر سبحانه عن كمال قدرته وتمام نعمته، أنه يرسل الرياح فتثير السحاب فيتمدد في السماء ويتسع على الحالة التي يريدها سبحانه ثم يجعل السحاب كسفاً أي ثخينا قد طبق بعضه على بعض، فترى الودق وهو النقط الصغار المتفرقة تنزل من خلال السحاب، فلو نزل الماء مرة واحدة لأفسد ما وقع عليه.
ويقول ابن القيم مظهرا حسن تدبير الله في ذلك: وهو يتحدث عن نزول المطر من السحاب على الأرض: فيرشُ السحاب على الأرض رشاً، ويرسله قطرات منفصلة، لا تختلط قطرة منها بأخرى، ولا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة، قد عينت كل قطرة منها لجزء من الأرض لا تتعداه إلى غيره، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا قطرة واحدة أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه. ….. ثم قال رحمه الله: فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقاً للعباد والدواب والطير والذر والنمل، يسوقه رزقاً للحيوان الفلاني، في الأرض الفلانية، بجانب الجبل الفلاني، فيصل إليه على شدة الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا.
وفي فصل الشتاء: البرقٌ:
لا نريد أن نكون كغيرنا ممن فقدوا بوصلة العقيدة الصحيحة فلا يرون في البرق وغيره سوى مظاهر طبيعية لا أكثر ولا أقل ، بل المؤمن ينظر إلى البرق بمنظور القرآن الكريم، فاسمع إلى رب السماء سبحانه ماذا يقول لعباده عن هذه الظاهر الكونية: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا)
يقول تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ) الدالة على عظمته أنه (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ :خَوْفًا وَطَمَعًا) أي: تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة، أو صواعق متلفة، وتارة ترجون وَمِيضَه وما يأتي بعده من المطر المحتاج إليه.
وقال سبحانه: (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ )، أي: يرسلها- البرق والنار التي تخرج من السحاب- نقمَةً ينتقم بها ممن يشاء ، ولهذا تكثر في آخر الزمان.
عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة، حتى يأتي الرجل القوم فيقول: من صعق تلكم الغداة؟ فيقولون صعِق فلان وفلان وفلان” وسنده ضعيف
والشتاء فيه الرعد:
فماذا يقول ربنا عن الرعد؟ قال سبحانه : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ)، والرعد هو الصوت الذي يسمع من السحاب المزعج للعباد، فهو خاضع لربه مسبح بحمده، (و) تسبح (الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي: خشعا لربهم خائفين من سطوته، فالرعد المخيف لنا هو خلق من خلق الله . . خائف من الله مسبح بعظمة الله.
والشتاء يذكرنا بقدرة الله على البعث:
فمن آيات الله في إنزال المطر إحياؤه للأرض بعد موتها، فأنت ترى الأرضَ قاحلة يابسة، وبينما هي كذلك تشكو جفافها، وإذا بالمطر ينزل، فإذا بها تهتز خضراء يافعة، كما قال ربك تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت:39].
قال ابن كثير: “قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ) أي: على قدرته على إعادة الموتى (أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً) أي: هامدة لا نبات فيها، بل هي ميتة (فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي: أخرجت من جميل ألوان الزروع والثمار، وقال السعدي: ” (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا) بعد موتها وهمودها، (لَمُحْيِي الْمَوْتَى) من قبورهم إلى يوم بعثهم، ونشورهم (إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكما لم تعجز قدرته عن إحياء الأرض بعد موتها، لا تعجز عن إحياء الموتى”. وقال تعالى: (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) [الزخرف:11]
وقد عذب الله تعالى أقوامًا بالمطر منهم:
1- قوم نوح -عليه السلام- :
قال تعالى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ( القمر:10-14.
2- قوم عاد عذبهم الله بالريح :
قال تعالى (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ) الذاريات41،42
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة وهو السحاب الذى يخال فيه المطر أقبل وأدبر وتغير وجهه فقالت له عائشة إن الناس إذا رأوا مخيلة استبشروا فقال: (يا عائشة وما يؤمننى، قد رأى قوم عاد العذاب عارضا مستقبل أوديتهم فقالوا هذا عارض ممطرنا قال الله تعالى: بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ).
3- قوم لوط -عليه السلام- :
قال تعالى: (وأمطرنا عليهم مطرًا فساء مطر المنذرين )58 النمل
فقد أرسل الله تعالى عليهم حجارة من سجيل لتكذيبهم رسولهم.
4- قوم سبأ:
قال تعالى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ سـبأ: من الآية16، وهو الماء الغزير.
وما واقعة تسونامي عنا ببعيد، فقد هلك أكثر من 155 ألفا في دقائق معدودة نسأل الله تعالى العفو والعافية.
وإعصار هايان الذي أصاب الفلبين فقتل عشرة آلاف نفس .
الوقفة الثانية / الشتاء ربيع المؤمن
وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، وكانوا يسمون الصوم في الشتاء بالغنيمة الباردةً لحصول المؤمن على الثواب بلا تعب كثير، فالصوم في الشتاء البارد لا يحس فيه الصائم بالعطش لبرودة الجو ولا بألم الجوع لقصر النهار، فحقاً إنها لغنيمة باردة، فأين أصحابها؟
عَنْ عامر بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ). رواه الترمذي وقال الألباني صحيح
وحديث ( الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه و طال ليله فقامه ) رواه البيهقي عن أبي سعيد. وضعفه الألباني .
وقد أكد الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك، وكانوا يعتنون بالشتاء ويرحبون بقدومه ويفرحون بذلك ويحثون الناس على اغتنامه.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “مرحبا بالشتاء، تنْزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام” .
وقال عمر رضي الله عنه: ( الشتاء غنيمة العابدين ) رواه ابو نعيم بإسناد صحيح.
ولله در الحسن البصري من قائل: “نِعْمَ زمانُ المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه”.
وأما قيام ليل الشتاء فلطوله، ففيه تأخذ النفس حظّها من النوم، ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة، فيقرأ المصلي ورده، وقد أخذت نفسه حظها المحتاجة إليه من النوم، مع إدراك ورده، فيكمل له مصلحة دينه وراحة بدنه.
ومن كلام يحيى بن معاذ: “الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقيٌ فلا تدنسه بآثامك”.
أما عبيد بن عمير فكان إذا جاء الشتاء قال: “يا أهل القرآن طال ليلكم لقرائتكم فأقرأوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا”.
وقد ورد أن معاذ بن جبل رضي الله عنه بكى عند مشهد الاحتضار، فقيل له: أتجزع من الموت وتبكي ؟! فقال: “مالي لا أبكي، ومن أحق بذلك مني؟ والله ما أبكي جزعًا من الموت، ولا حرصًا على دنياكم، ولكني أبكي على ظمأ الهواجر (الصيام في الحر ) وقيام ليل الشتاء “
وليس هذا بغريب، فإنّ للعبادةِ لذّةً، من فقدها فهو محروم ؛ قال عبد الله بن وهب: “كل شيء فيه لذة له لذة واحدة، إلا العبادة فإن لها ثلاث لذات: إذا كنت فيها، واذا تذكرتها، وإذا أُعطِيتَ ثوابها”.
وقد احسن من قال:
إذا كنت تأْذَى بحرّ المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الهمة على الطاعة، ويرزقنا الاخلاص والقبول، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى إنه سميع مجيب.
الوقفة الثالثة /العبادة في الشتاء
من أحكام الطهارة في الشتاء :
– إسباغ الوضوء في البرد كفارة للذنوب والخطايا كما في الحديث:
” ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا و يرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره و كثرة الخطا إلى المساجد و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط . ” رواه الترمذي عن أبي هريرة.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
( إسباغ الوضوء على المكاره ) يعني : أن الإنسان يتوضأ وضوءه على كره منه ، إما لكونه فيه حمى ينفر من الماء فيتوضأ على كره ، وإما أن يكون الجو باردا وليس عنده ما يسخن به الماء فيتوضأ على كره ، وإما أن يكون هناك أمطار تحول بينه وبين الوصول لمكان الوضوء فيتوضأ على كره ، المهم أنه يتوضأ على كره ومشقة ، لكن بدون ضرر ، أما مع الضرر فلا يتوضأ بل يتيمم ، هذا مما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات .
ولكن هذا لا يعني أن الإنسان يشق على نفسه ويذهب يتوضأ بالبارد ويترك الساخن ، أو يكون عنده ما يسخن به الماء ، ويقول : لا ، أريد أن أتوضأ بالماء البارد لأنال هذا الأجر ، فهذا غير مشروع ؛ لأن الله تعالى يقول : ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ) ، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا واقفا في الشمس ، قال : ما هذا ؟ قالوا : نذر أن يقف في الشمس ، فنهاه عن ذلك وأمره أن يستظل ، فالإنسان ليس مأمورا ولا مندوبا إلى أن يفعل ما يشق عليه ويضره ، بل كلما سهلت عليه العبادة فهو أفضل ، لكن إذا كان لا بد من الأذى والكره ، فإنه يؤجر على ذلك ؛ لأنه بغير اختياره …
وكثرة الخطا معناه أن يأتي الإنسان للمسجد ولو من بعد ، وليس المعنى أن يتقصد الطريق البعيد ، أو أن يقارب الخطا ، هذا غير مشروع ، بل يمشي على عادته ، ولا يتقصد البعد ، يعني مثلا : لو كان بينه وبين المسجد طريق قريب ، وآخر بعيد : لا يترك القريب ، لكن إذا كان بعيدا ، ولا بد أن يمشي إلى المسجد ، فإن كثرة الخطا إلى المساجد مما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات ” انتهى .(شرح رياض الصالحين” (كتاب الفضائل/باب فضل الوضوء) (3/137) طبعة مكتبة الصفا)
وقوله : ( فذلكم الرباط ) أي الرباط المرغب فيه ، وأصل الرباط : يطلق على حراس الثغور (حدود دولة الإسلام ) فكانوا يربطون خيولهم ويواصلون الحراسة فيستمر أجرهم عند الله بلا انقطاع ، فكذلك من حبس نفسه على الطاعة شأنه شأن المرابط في سبيل الله .
وأما حكمة تكراره : للاهتمام به وتعظيم شأنه
– يكثر في الشتاء الاحتياج للجوارب والخفاف :
الجوارب : ما يلبس في القدم من صوف او قطن …الخ
الخفاف: ما يلبس في القدم من جلد .
ومن رحمة الله بعبادة أن أجاز المسح عليهما إذا لُبسا على طهارة وسترا محل الفرض، للمقيم يوماً وليلة – أي أربعاً وعشرين ساعة – وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن – اي اثنتان وسبعون ساعة –
وتبدأ المدة من أول مسح بعد اللبس (على الصحيح) ، بأن يمسح أعلى الخف فيضع يده على مقدمته ثم يمسح إلى ساقه، ولا يمسح أسفل الخف والمسح مرة واحدة .
-اشتراط المسح على الجورب الثقيل تقييد لما أطلقه الشرع لا دليل عليه وعلى هذا يجوز المسح على الجورب لا فرق بين خفيف أو ثقيل ، وإنما الأصل في ذلك التخفيف والتيسير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ( 21 / 174 )
فلما أطلق الرسول الأمر بالمسح على الخفاف مع علمه بما هي عليه في العادة ولم يشترط أن تكون سليمة من العيوب وجب حمل أمره على الإطلاق ولم يجز أن يقيد كلامه إلا بدليل شرعي . وكان مقتضى لفظه أن كل خف يلبسه الناس ويمشون فيه فلهم أن يمسحوا عليه وإن كان مفتوقاً أو مخروقاً من غير تَحديد لمقدار ذلك فإن التحديد لا بدّ له من دليل .. ) . وهذا مذهب إسحاق وابن المبارك وابن عيينة وأبي ثور.
– وكما يقول الشيخ القرضاوي : معظم الجوارب في عصرنا رقيقة لكنها قوية ،وليس من الضروري متابعة المشي عليهما فإن الناس لا يمشون على الجوارب عادة الآن ، وإنما يلبسونها مع الأحذية.
المسح على العمامة والخمار :
– ويشرع للرجل أن يمسح على عمامته لما رواه مسلم عن المغيرة بن شعبة (أن النبي مسح على عمامته، وعلى الناصية والخفين ) وفي لفظ (مسح على الخفين والخمار ) يعني العمامة
– قال ابن تيمية : اشترط البعض أن تكون محنكة وهذا الشرط لا دليل عليه .
– والحكمة هنا هو أنه لو نزعها مع عرق الرأس قد يصاب بضرر بسبب الهواء ،
– ويجوز للمرأة أن تمسح على خمارها قياسا على الرجل وهو رواية عن الإمام أحمد وقال ابن تيمية: وقد كانت أم سلمة زوج النبي تمسح على خمارها ، فهل تفعل ذلك بدون إذنه ؟
– البعض لا يكشفون أكمامهم عند غسل اليدين وهذا يؤدي إلى أن يتركوا شيئاً من الذراع بلا غسل، والوضوء معه غير صحيح، والأعجب من ذلك أني رأيت من يمسح عليهما وهذا لا يجوز .
من أحكام الصلاة في الشتاء:
– يسن الصلاة في الرحال (المنازل ) عند نـزول المطر مع شدة البرد؛ لحديث ابن عمر –رضي الله عنهما- أنه أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح، فقال: ألا صلوا في الرحال ثم قال : كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول (ألا صلوا في الرحال) رواه مسلم.
رخصة الجمع بين الصلوات :
الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما سنة إذا وجد سببه وهي المشقة في الشتاء، من نزول المطر الشديد أو الثلج، أو ريح شديدة باردة، وهي رخصة من الله عز وجل والله يحب أن تؤتى رخصه ، وعند الجمع يتم الصلاة (يصليها أربعا) لأن القصر لا يكون إلا للمسافر والمجاهد في صلاة الخوف .
لكن لو صلى أحد الفريضة في بيته لشدة البرد فلا يجمع إنما الجمع لمن سيصلي في المسجد.
– بل ويجوز الجمع أيضا إذا ضاق وقته ولم يستطع الصلاة في وقتها لحديث ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الظهر والعصر جميعًا بالمدينة من غير خوف ولا سفر.
قال أبو الزبير: فسألت سعيدًا لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يحرج أحدًا من أمته. رواه مسلم
حكم الصلاة في السيارة وغيرها:
جائزة إذا خاف خروج وقت الصلاة وهي مما لا يجمع مع غيرها في الشتاء كصلاة الصبح مثلا ، ويومئ بالركوع والسجود، وأقصد بالصلاة داخل السيارة بالنسبة للوضع عندنا في كندا ونزول الثلج حتى أنه يكسو الأرض كلها فلا يستطيع أحد أن يصلي عليها.
وإذا خفيت عليه القبلة اجتهد في معرفتها وإلا صلى إلى أي اتجاه وصلاته صحيحة لقوله تعالى (وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )البقرة 115
الدعاء في الشتاء :
عند رؤية الريح: ( اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به)
عند رؤية المطر: ( اللهم صيباً نافعاً ) ويستحب للعبد أن يكثر من الدعاء عند نزول المطر لأنه من المواطن التي تطلب إجابة الدعاء عنده كما في الحديث :
( ثنتان ما تردان : الدعاء عند النداء و تحت المطر ) رواه الحاكم عن سهل بن سعد. وحسنه الألباني
أخيرا : لا تنسوا إخوانكم الفقراء والمحتاجين :
تذكروا وأنتم تنعمون أنتم وأسركم وأولادكم بالدفء والاستقرار.. تذكروا في هذا البرد القارس إخوانكم الفقراء والمعدمين خاصة في غزة وسوريا في مخيمات اللاجئين في تركيا والأردن ولبنان ؛ الذين شردتهم القوى الظالمة الغاشمة فهم ونساؤهم وأطفالهم في ملاجئ ومخيمات لا تقيهم من الهواء، ولا تحميهم من البرد ؛ فلا يجدون كساء يحمي أجسادهم، ولا فراشا يقيهم صقيع الأرض، ولا طعاما يُقوِّي عودهم على البرد، ولا يملكون وسائل للتدفئة، فارحموهم رحمكم الله تعالى؛ فإنهم محتاجون إلى عونكم..{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ الله إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} البقرة:110
ترى ما هو حالهم وقد ضاقت عليهم الحيلة؟! وما هو حال نسائهم وأطفالهم في هذا البرد القارس مع شح الطعام وقلة اللباس، وانعدام وسائل التدفئة، سلوا الله تعالى لهم المعونة؛ فهم في حال لا يعلمها إلا الله تعالى، وأكثروا لهم من الدعاء؛ فإن إحساسكم بهم من إيمانكم، وهو دالٌ على حياة قلوبكم تجاه إخوانكم ،والْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، والمسلمون كَمَثَلِ الْجَسَدِ الواحد إذا اشْتَكَى منه عُضْوً تَدَاعَى له سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.