اليقين بأن النفع والضر بإذن الله
ما زلنا نتناول بعون الله ومدده شرح هذه الوصية الجامعة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم – إلى ابن عباس رضي الله عنهما ، ونستنبط ما فيها من فوائد ودروس .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال لي : ( يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف ) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
واليوم إن شاء الله مع الوصية الثالثة وهي قوله صلى الله عليه وسلم (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك إن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك )
يبين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الكلمات أن الأمة لو اجتمعت واتفقت كلها على نفــــع إنســــان بشيء لم يستطيعــــوا نفعه إلا بشيء قد كتبه الله وقدره له، وإن وقع منهم نفع له فإنما هو من الله تعالى؛ لأنه هو الذي كتبه وقدره ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك، وإنما قال: (لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك)، فالناس ينفع بعضهم بعضاً، لكن كل هذا مما كتبه الله للإنسان، فالفضل فيه لله عز وجل أولاً، فهو الذي سخر لك من ينفعك، ويحسن إليك، ويزيل كربتك.
وكذلك لو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، والإيمان بهذا يستلزم أن يكون الإنسان متعلقاً بربه، ومتكلاً عليه، لا يهتم بأحد؛ لأنه يعلم أنه لو اجتمع كل الخلق على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه ، وحينئــــذ يعلق رجاءه بالله، ويعتصم به، ولا يهمه الخلق، ولو اجتمعوا عليه،فيجب أن يصل هذا الأمر عند كل مسلم درجة اليقين الذي لا شك فيه ، أنه لا يملك الضر والنفع أحد إلا الله ، وما الخلق إلا أسباب فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن قال تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)الأنعام
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه دبر كل صلاة مكتوبة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.) رواه البخاري ومسلم
ومعنى (اللهم لا مانع لما أعطيت) يعني ما قدر الله أنه يحصل لك، يحصل لك لا أحد يستطع أن يمنعه ،فإذا قدر الله أنه يولد لك ولد أو أنك تتزوج فلانة، أو أنك ترزق مال، أو منـزل، لا أحد يستطيع منع ذلك أو رده ، وهذا معنى قوله جل وعلا: ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَاُ (2) سورة فاطر
وأما قوله صلى الله عليه وسلم (ولا معطي لما منعت)، معناه أن ما منعه ولم يقدره لك لا أحد يستطيع أن يوصله إليك، فإذا كان الله قدر أنه لا يولد لك لا أحد يستطيع أن يأتي لك بولد، وإذا كان الله قدر لك أنك تموت ما أحد يستطيع منع ذلك، وإذا قدر الله لك أنك تكون غنياً لا أحد يستطيع أن يمنعك وهذا معنى قوله جل وعلا: (وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ (2) سورة فاطر ، فالآية بمعنى الحديث .
وأما قوله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) الجد الغنى، والسلطان، فلا ينفع ذا الغنى، والمال، والوظائف لا ينفعه غناه من الله جل وعلا، فلا يغنيه عن الله سبحانه وتعالى، من ذلك جده، وغناه، ووظائفه يعني لا أحد يغنيه بدلاً من الله، إذا جاءه الجد وهو الموت ، بل ما أراده الله به نافذ، متى شاء ربه سلبه هذا كله يقول سبحانه وتعالى في كتابه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) سورة فاطر، فالعباد في أشد الفقر إلى ربهم وليس لهم غنى عنه سبحانه وتعالى أبداً، بل فقراء إليه وإن كان ملوكاً، وإن كانوا أغنياء وإن كانوا أصحاب ثروات طائلة، فهم فقراء إليه، ومتى شاء سلبهم ملكهم ومالهم في طرفة عين سبحانه وتعالى.
أهمية اليقين بالله :
إن الاعتقاد بتفرّد الله سبحانه بالضر والنفع والعطاء والمنع، وأن الخلق كلهم عاجزون عن إيصال نفع أو ضر غير مقدّر عند الله ؛ إن الاعتقاد بذلك يحقق تمام التعلق بالله و اللجأ إليه وسؤاله في كل حال ، كما يورث أنفة واستغناء عن الناس ،
وكلما أيقن العبد أن النفع والضر بيد الله وحده أوجب ذلك إفراده سبحانه بالطاعة والعبادة ، وأن يقدم طاعة الله على طاعة الخلق جميعاً كما ورد في الأثر عن أبي سعيد الخدري :- (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ، ولا ترده كراهة كاره )
وقال ابن القيم رحمه الله في ‘زاد المعاد’: لا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا من قلبه وبدنه’اهـ
ولأهمية اليقين فقد نبه الله نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يركن لأهل الشك ومن ليس لديهم اليقين الكامل بالله رب العالمين قال تعالى : ” فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60) سورة الروم .
واليقين عده البعض الإيمان كله قال بعض السلف : الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله“
وقال ابن القيم : ” اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وهو مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يُمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تُفتتح بالمحبة واليقين، وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم'[ مدارج السالكين 2/397]
ولقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : “اللهم قْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ , وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصائب الدُّنْيَا ، اللهم أمتعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا ، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا ، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا ، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا ، وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِى دِينِنَا ، وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا ، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا ، وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا. أَخْرَجَهُ الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه .
وقال عامربن عبد قيس رحمه الله ثلاث آيات من كتاب الله عز وجل اكتفيتُ بهنّ عن جميع الخلائق :
الآية الأولى {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }يونس107
والآية الثانية {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } هود6
والآية الثالثة {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فاطر2
ثمرة اليقين :
والإيمان بهذا الأمر يزيل أمراضا كثيرة نشكو منها كالقلق والخوف من المستقبل والاضطرابات النفسية وهذه الأمراض كلها من مخلفات الحضارة المادية التي جعلت الإنسان مع ضعف إيمانه بالله يخاف من أي لحظة مقبلة فهو خائف من الغد ، يتوقع دائما الكوارث والمصائب والبلايا ، ولذا نرى هنا كل شيء وأي شيء يقومون بالتأمين عليه بالأموال الطائلة ، وكل هذا بسبب القلق من اللحظة المقبلة ….لكن يبقى السؤال هب أن إنسانا أمن على حياته هل يحول ذلك بينه وبين الموت ؟!! أو أمن على صحته هل يحول ذلك بينه وبين المرض ؟!! أبدا لا يرد ذلك شيئا من قضاء الله فهو الفعال لما يريد .
والمسلم يوقن أن هذا الكون ليس بفوضى لأن كل شيء عند الله بمقدار بحكمة بتقدير وتدبير ، وهو سبحانه قائم على كل نفس بما كسبت لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، فاليقين بذلك كله يحرر الإنسان من القلق والخوف ؛لأن الإنسان بطبيعته يخاف على نفسه وماله وعياله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف حال الإنسان ( أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة. ) رواه النسائي والترمذي عن أبي وهب الجشمي
يعني: أصدق الأسماء التي تعبر عن الصفات المغروسة في البشر اسم حارث وهمام؛ لأن كل إنسان حارث، يعني: أنه عامل أو كاسب، وكل إنسان همام، أي: كثير الهم والإرادة، فالإنسان مجبول على أن يقصد شيئاً ويريده ،لكن ما يربط على القلوب بالسكينة هذا اليقين أن الذي يملك الضر والنفع هو الله .
اليقين عند الأنبياء :
اليقين عند إبراهيم عليه السلام
وأنبياء الله علمونا هذا اليقين كما في قصة الخليل إبراهيم لما كسر الأصنام لقومه فحكموا عليه بالإعدام حرقا { قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ } [الصافات: 97-98] لجأوا إلى قوتهم وسلطانهم، لينصروا ما هم عليه من شرك وسفه وطغيان، فكادهم الله جل جلاله وأعلى كلمته، وأنجى عبده إبراهيم كما قال تعالى:{ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ } [الأنبياء: 68-70] .
وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطبًا من جميع ما يمكنهم من الأماكن، ثم ألقوا إبراهيم عليه السلام مقيدًا مكتوفًا في النار فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
كما روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار. وقالها محمد حين قيل له: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } الآية [آل عمران: 173-174]
فأرادوا أن ينتصروا فخُذلوا ، وأرادوا أن يرتفعوا فاتّضعوا ، وأرادوا أن يغلبوا فغُلبوا ، قال الله تعالى:{ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ } وفي الآية الأخرى : { الأَسْفَلِيْن } فكأن الله يريد أن يقول لهم إن آلهتكم عاجزة أن تنتقم لنفسها فضلا عن أنها عاجزة عن نصرتكم ، وها أنتم أوقدتم النار وألقيتم إبراهيم فيها فهل تملكون أمر النار؟!! أنتم لا تملكون شيئا لأن النار صارت بأمر الله بردا وسلاما على إبراهيم !!!
فالظالم يظن أنه يقدر على كل شيء فيفعل في ظنه ما يشاء ولا يرعوي لكن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
اليقين عند هود عليه السلام
ولنتأمل موقف هود عليه السلام إذ يقول لقومه ( إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ{54} مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ {55} إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّرَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}هود 56
فهو يتحدى قومه قائلاً : اطلبوا لي الضرر كلكم بكل طريق تتمكنون بها مني ، ثم لا تنظرون أي لا تمهلون فما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها فلا تتحرك ولا تسكن إلا بإذنه وتقديره ، فلو اجتمعتم جميعاً على الإيقاع بي ، والله لم يسلطكم عليّ لم تقدروا على ذلك .
موسى وفرعون :
وها هو كليم الله موسى عليه السلام يقول لأصحابه حينما أدركهم فرعون فوجدوا البحر من أمامهم والعدو من ورائهم : ” فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) سورة الشعراء ، فالبحر انشق ماؤه بطريق يابس وتجمد الماء على الجوانب ، ويعبر موسى وينجو ومن معه من بني إسرائيل ويهلك الله فرعون ومن معه .
النبي وصاحبه في الغار :
وهذا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهما في الغار وقد أحدقت بهما الإخطار ” ما ظنك باثنين الله ثالثهما , لا تحزن إن الله معنا ” قال سبحانه : ” إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) سورة التوبة .
من يمنعك مني ؟
ولقد حقق المصطفى صلى الله عليه وسلم أكمل وأروع الأمثلة في هذا اليقين ، ففي غزوة ذاتِ الرقاع ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم تحت ظل شجرة ، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي عليه الصلاة والسلام معلق بالشجرة ، فاخترطه وجرده من غمده ،وقال للنبي عليه الصلاة والسلام : تخافني ؟ فقال عليه الصلاة والسلام له: لا ، قال : فمن يمنعك مني فقال : عليه الصلاة والسلام : (الله ) فسقط السيف من يده فالتقطه رسول الله فأمسك به وقال ومن يمنعك مني فقال الرجل وقد تبدل الوضع لا أحد !!!
غزوة الأحزاب :
وفي شوال من السنة الخامسة من الهجرة النبوية المباركة وقع ابتلاء شديد على المسلمين إذ اجتمعت عليهم جموع المشركين مع غدر اليهود وتخذيل المنافقين وجاءوا بجيش قوامه عشرة ألاف ، في واقعة سميت بغزوة الأحزاب، واجتمع عليهم الجوع الشديد، وبرد الشتاء، مع خوف العدو، كما قال جابر رضي الله عنه: (إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كُدْية شديدة فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كُدْية عرضت في الخندق فقال أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا …. ) وتتواصل المحن عليهم، ويعظم البلاء بهم ؛ إذ سرت في الناس شائعة أن اليهود داخل المدينة قد نقضوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم سيحالفون المشركين على المسلمين، وأن الخطر قد أحاط بنساء المسلمين وذراريهم داخل حصون المدينة، وانضم إليها ظهور النفاق، وتخذيل المنافقين في أوساط المسلمين، وإضعاف معنوياتهم ببث الشائعات والأراجيف، وتخويفهم من قوة المشركين، مع الانسحاب من الجيش على ملأ من الناس، حتى قال قائل المنافقين: (كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر أن يذهب إلى الغائط) إنها محنة عظيمة، وكرب شديد، لا يصمد أمامه إلا من كان قوي الإيمان واليقين، مع تثبيت الله تعالى وربطه على القلوب.
ووصف القرآن العظيم هذا البلاء بأدق وصف وأبلغه، وأفصح عما أصاب المؤمنين من عظيم الشدة والكرب {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11].
نعم زاغت الأبصار من شدة البلاء والكرب، وعند استحكام البلاء، وشدة الكرب يأتي الفرج من الله تعالى؛ إذ أرسل جنده على الكافرين، وخالف بينهم وبين اليهود فوقع الشر بينهم بخدعة نعيم بن مسعود رضي الله عنه الذي أسلم حينئذ وسعى بالوقيعة بين المشركين واليهود وهم لا يعلمون إسلامه، ورأى المنافقون ما يسوؤهم من بقاء الإسلام وأهله ، وسلط الله الريح على الأحزاب فقلعت خيامهم وكفأت قدورهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9].
فعصرت الفتنة القلوب عصرا حتى لم يبق بها تعلق إلا بالله وأصاب المسلمون برد اليقين بالله لما رأوا نصر الله قال تعالى (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)الأحزاب
اليقين والأخذ بالأسباب :
وليس معنى اليقين إهمال الأخذ بالأسباب ؛ إنما نؤمن بهذا اليقين فيستعلي على آفة النفس البشرية من الخوف والقلق ، أو استعجال الرزق بأكل الحرام ، أو النفاق أو قول الزور والكذب ، وهنا مسألة أود توضيحها :
التوكل المقصود منه التفويض والرضا ؛ فليس معنى التوكل أن يعطيك الله ما تريد إنما الرضا بما يريد ، فمع صدق التوكل تنكشف عين البصيرة فترى حسن اختيار الله لك ، فالله سبحانه يفعل ما يراه خيرا لك لا ما تظنه أنت خير لك وذلك لأنه الحكيم وهذا معنى قولنا (حسبنا الله ونعم الوكيل) فالخير فيما يريد سبحانه لا فيما تريد أنت .
(واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك)
وقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية: (واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك)، هو توجيه إلى الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره، فقوله: (واعلم أن ما أخطأك) أي من المقادير فلم يصل إليك، (لم يكن) مقدراً عليك (ليصيبك)؛ لأنه بان بكونه أخطأك أنه مقدر على غيرك، (وما أصابك) منها (لم يكن) مقدراً على غيرك (ليخطئك)، وإنما هو مقدر عليك؛ إذ لا يصيب الإنسان إلا ما قدر عليه، ومعنى ذلك: أنه قد فرغ مما أصابك أو أخطأك من خير وشر، فما أصابك فإصابته لك محتومة لا يمكن أن يخطئك وما أخطأك فسلامتك منه محتومة، فلا يمكن أن يصيبك.
فلابد من الإيمان بأن كل ما يصيب العبد مما يضره وينفعه في دنياه فهو مقدر عليه، وأنه لا يمكن أن يصيبه ما لم يكتب له ولم يقدر عليه ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهــم جميعاً. قــال تعالى: ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْـدِ قَلْبَـهُ وَاللَّهُ بِكُـلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) التغابن
يعني أن من أصـابته مصـيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره، فصبر واحتسب، واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقيناً صادقاً، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيراً منه، روى ابن كثير عن ابن عباس أنه قــال، في قوله تعالى: ( وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْــدِ قَلْبَهُ): يعني يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيـــــبه. يقول ابن دقيق العيد: (هذا هو الإيمان بالقدر، والإيمان به واجــــب، خيره وشــره، و إذا تيقن المؤمن هذا، فما فائدة سؤال غير الله والاستعانة به )
الرضا بما قضى الله :
فما أصابك هو مراد الله فيك فلا خطأ ولا خلل ، ولا كما يقول البعض فلان محظوظ أو فلان منحوس ، فنحن المسلمين لا نعتقد بما يسمى الحظ والنحس لأننا نؤمن أن كل شيء بقضاء الله وقدره فلا مغالبة في الرزق أو الأجل أو دفع ضر أو جلب نفع ، فكل شيء بإرادة الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍّ خير ,احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تَعْجَز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل فإن لَوْ تفتح عمل الشيطان” رواه مسلم .
من لم يمت بالسيف مات بغيره :
يروي الشيخ عائض القرني أن شابا في دمشق حجز ليسافر ، وأخبر والدته أن موعد إقلاع الطائرة في الساعة كذا وكذا ، وعليها أن توقظه إذا دنا الوقت ، ونام هذا الشاب ، وسمعت أمه الأحوال الجوية في التلفزيون ، وأن الرياح هوجاء ، وأن الجو غائم ، وأن هناك عواصف رملية ، فأشفقت على وحيدها وبخلت بابنها ، فما أيقظته أملا في أن تفوته الرحلة ؛ لأن الجو لا يساعد على السفر ، وخافت من الوضع الطارئ ، فلما تأكدت من أن الرحلة قد فاتت ، وقد أقلعت الطائرة بركّابها ، أتت إلى ابنها توقظه فوجدته ميتا في فراشه، وصدق الله العظيم إذ يقول : ( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )الجمعة:8.لا تحزن ص(341) –
( رفعت الأقلام وجفت الصحف)
وقوله صلى الله عليه وسلم ( رفعت الأقلام وجفت الصحف) هو كناية عن تقدم كتابة المقادير كلها والفراغ منها من أمد بعيد فإن الكتاب إذا فرغ من كتابه ورفعت الأقلام عنه وطال عهده فقد رفعت عنه الأقلام ، وجفت الصحف التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها وهذا من أحسن الكنايات وأبلغها .
وقد دل الكتاب والسنن الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى قال الله تعالى : (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير )الحديد 22
وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ) صحيح مسلم
وفيه أيضا عن جابر أن رجلا قال يا رسول الله فيم العمل اليوم ؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل ؟
قال : لا بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير.
قال : ففيم العمل ؟
قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له .
وحديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أول ما خلق الله القلم ثم قال اكتب فكتب في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة )أخرجه الإمام أحمد
وهذا يدل على أن ما في علم الله تعالى، أو ما أثبته سبحانه في أم الكتاب ثابت لا يتبدل ولا يتغير ولا ينسخ، وما وقع وما سيقع كله بعلمه تعالى وتقديره ، وهذه الجملة من الحديث تأكيد لما سبق من الإيمان بالقدر، والتوكل على الله وحده، وأن لا يتخذ إلهاً سواه، فإذا تيقن المؤمن هذا فما فائدة سؤال غير الله والاســتعانة به ، ولهذا قال : ( رفعت الأقلام وجفت الصحف ): أي لا يكون خلاف ما ذكرت لك بنسخ ولا تبديل.
يقول ابن رجب الحنبلي : واعلم أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل وما ذكر قبله وبعده فهو متفرع عليه وراجع إليه ؛ فإن العبد إذا علم أن لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة ؛علم حينئذ أن الله وحده هو الضار النافع المعطي المانع ؛ فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل وإفراده بالطاعة ، وحفظ حدوده ؛ فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار ، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر ولا يغني عن عابده شيئا ، فمن يعلم أنه لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع غير الله أوجب له ذلك إفراده بالخوف ، والرجاء، والمحبة والسؤال، والتضرع ، والدعاء ، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعا ، وأن يتقي سخطه ، ولو كان فيه سخط الخلق جميعا ، وإفراده بالاستعانة به والسؤال له ، وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء ، خلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد ونسيانه في الرخاء ودعاء من يرجون نفعه من دونه .
قال الله عز وجل (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ) الزمر38
ومعنى هذا أن حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق ، والتقدير الماضي يعني أن العبد يجهد على أن يرضي نفسه بما أصابه ، فمن استطاع أن يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور فليفعل ، فإن لم يستطع الرضا فإن في الصبر على المكروه خيرا كثيرا
فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب ، أحدهما أن يرضى بذلك وهي درجة عالية رفيعة جدا ، قال الله عز وجل (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه )
قال علقمة : هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى
ومما يدعو المؤمن إلى الرضا بالقضاء تحقيق إيمانه بمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته سراء شكر ، وكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، وكان خيرا له ، وليس ذلك إلا للمؤمن )
وقال أبو الدرداء : إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به
وقال ابن مسعود إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا وجعل الهم والحزن في الشك والسخط
وقال عمر بن عبد العزيز أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر فمن وصل إلى هذه الدرجة كان عيشه كله في نعيم وسرور
وقال عبد الواحد بن زيد الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين .
والدرجة الثانية أن يصبر على البلاء وهذه لمن لم يستطع الرضا بالقضاء فالرضا فضل مندوب إليه مستحب والصبر واجب على المؤمن حتم وفي الصبر خير كثير فإن الله أمر به ووعد عليه جزيل الأجر قال الله عز وجل (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) الزمر
وقال (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) البقرة
والفرق بين الرضا والصبر أن الصبر كف النفس وحبسها عن السخط مع وجود الألم وتمني زوال ذلك وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع والرضا انشراح الصدر وسعته بالقضاء وترك تمني زوال الألم وإن وجد الإحساس بألم لكن الرضا يخففه ما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة ، وإذا قوي الرضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية كما سبق .اهـ
واختم بعبارة لجعفر الصادق رحمه الله قال : (إن الله أراد بنا أشياء ،وأراد منا أشياء ،فما أراده بنا أخفاه عنا ،وما أراده منا بيَّنه لنا ،فما بالنا نَنْشغل بما أراده بنا … عمَّا أراده منا؟!)