لبيك اللهم لبيك دلالات ومعاني إيمانية
لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك .. لا شريك لك .. شعار في هذه الأيام يملأ الآفاق، ويتردد على الأسماع، ويبلغ الأقطار؛ فالإعلام المسموع والمرئي ينقل هذا الشعار من موقعه في مواقيت الإحرام، ومشاعر الأنساك إلى العالم كله، وفي أيام الحج تكاد تكون التلبية هي أكثر ما يطرق الأسماع،وتكون مناظر الحجاج وهم محرمون هي أكثر ما يغشى الأبصار.
كلمات رائعة .. فيها إسلام واستسلام.. هي استجابة متكررة لخالق عظيم رحيم .. لبيك استسلاما وخضوعاً وانقيادا لك يارب .. هي تلخص لكل ما فيالفريضة من معانٍ ودلالات .. وهي تلبية واستجابة لنداء الخليل إبراهيم عليه السلام:- ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىكُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) الحج:27
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قَالَ: “لَمَّافَرَغَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلامُ- مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ قِيلَ لَهُ: أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، قَالَ: رَبِّ: وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي!! قَالَ: أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلاغُ، قَالَ: فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلامُ-: يَا أَيُّهَا النَّاسُ: كُتِبَعَلَيْكُمُ الْحَجُّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، قَالَ: فَسَمِعَهُ مَابَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، أَلا تَرَى أَنَّ النَّاسَ يَجِيئُونَ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ يُلَبُّونَ!!”. صححه الحاكم.
فلبّى المؤمنون نداءه من زمنه إلى يومنا هذا، وسار نبينا محمد على سيرة أبيه الخليل -عليهما الصلاة والسلام-، فدعا الناس للحج كما دعا إبراهيم، وقام في الناس خطيبًا فقال -عليه الصلاة والسلام-: “إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ“،فلبى الصحابة -رضي الله عنهم- نداءه، ولباه التابعون وأتباعهم، ولم تنقطع تلبية أمته إلى يومنا هذا؛ ففي كل عام يفد الحجاج من شتى الأقطار تلبيةلنداء الخليلين إبراهيم ومحمد -عليهما الصلاة والسلام-.
ولهذا كان شعار الحج والعمرة التلبية، لبيك اللهم لبيك، ومن تأمل هذه الجملة علم لم كانت شعار النسك، وعرف لم التصقت بالإحرام.
معنى التلبية :
إن علماء اللغة والشريعة قد استوقفتهم التلبية؛ لكونها شعار النسك، ولاشعار معها، ولا يغني عنها غيرها، فتفننوا في عرض معانيها، وبيان الارتباط الوثيق بينها وبين العبودية لله تعالى؛ ما يدل على اتساع اللغة العربية ومتانتها، وغزارة ما في التلبية من المعاني العظيمة.
لبيك اللهم لبيك“، أي: إجابة لك بعد إجابة؛ ولهذا كررت التلبية إيذانًا بتكرير الإجابة. فالمُرَاد التكرير والتكثير والتوكيد.
والتلبية انقياد، أي: انقدت لك يا رب، وسعيت لك بنفس خاضعة ذليلة. وفي التلبية معنى اللزوم، كأن الملبي بتلبيته يقول: رب إني مقيم على طاعتك،ملازم لها.
وتأتي التلبية بمعنى المواجهة، كأن الملبي يقول: متوجه إليك يارب، مواجهك بما تحب.
وفي التلبية معنى الحب، أي حبًّا لك يا رب بعد حب.
وفي التلبية إعلان الخلوص لله تعالى، كأن المحرم لما تجرد من ثيابه ولبس الإحرام قد تجرد من كل شيء، وأقبل على الله تعالى، والمعنى أخلصت لُبي وقلبي لك، وجعلت لك لبي وخالصتي.
وفي التلبية قبول للطاعة بانشراح صدر،وفرح قلب، كأن المحرم وهو يلبي يقول: إني منشرح الصدر، متسع القلب لقبولدعوتك يا رب وإجابتها.
والمحرم قريب من الله تعالى بانخلاعه من لبسه، ومفارقته وطنه، فكأنه وهويلبي يقول: اقترابًا إليك يا رب بعد اقتراب، كما يتقرب المحب من محبوبه.
قال ابن القيم رحمه الله في «تهذيب السنن» (5/175-182) :
في معنى التلبية ثمانية أقوال:
أحدهما: إجابة لك بعد إجابة، ولهذا المعنى كرّرت التلبية إيذانًا بتكرير الإجابة.
الثاني: أنّه انقياد، من قولهم: لببت الرجل إذا قبضت على تلابيبه، ومنه لببتهبردائه. والمعنى: انقدت لك وسعت نفسي لك خاضعة ذليلة، كما يفعل بمن لبببردائه وقبض على تلابيبه.
الثالث: أنّه من لبّ بالمكان إذا قام به ولزمه. والمعنى: أنا مقيم على طاعتك ملازم لها. اختاره صاحب الصحاح
الرابع: أنّه من قولهم: داري تلبّ دارك، أي تواجهها وتقابلها. أي مواجهتك بما تحبّ متوجه إليك. حكاه في «الصحاح» عن الخليل.
الخامس: معناه: حبًّا لك بعد حبّ، من قولهم: امرأة لبّة إذا كانت محبّة لولدها.
السادس: أنّه مأخوذ من لُبّ الشيء، وهو خالصه، ومنه لبّ الطعام، ولبّ الرجل عقلهوقلبه. ومعناه: أخلصت لبّي وقلبي لك، وجعلت لك لبّي وخالصتي.
السابع: أنّه من قولهم: فلان رخي اللبب، وفي لبّ رخي. أي في حال واسعة منشرح الصدر. ومعناه: أنّ منشرح الصدر متّسع القلب لقبول دعوتك وإجابتها متوجّه إليك بلبب رخي يوجد المحب إلى محبوبه لا بكره ولا تكلّف.
الثامن: أنّه من الإلباب، وهو الاقتراب. أي اقترابا إليك بعد اقتراب، كما يتقرّب المحبّ من محبوبه،
حكمها :
أجمع العلماء على : أن التلبية مشروعة . فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” يا آل محمد ، من حج منكم فليهل (ليرفع صوته بالتلبية ) في حجته ” رواه أحمد
وهي سنة ، ويستحب اتصالها بالإحرام . فلو نوى النسك ولم يلب ، صح نسكه ، دون أن يلزمه شئ لان الإحرام عندهما ينعقد بمجرد النية .
لفظها :
روى مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد لك والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ” .
لبيك : أي دواما على طاعتك ، وإقامة عليها مرة بعد أخرى ، من ” لب ” بالمكان ، و ” ألب ” . إذا أقام به .
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها ” لبيك ، لبيك ، لبيك وسعديك والخير بيديك ، لبيك والرغباء إليك ، والعمل “
وسعديك : أي إسعاد بعد إسعاد ، من المساعدة والموافقة على الشئ .
” الرغباء ” أي الطلب والمسألة ، والمعنى الرغبة إلى من بيده الخير ، وهو المقصود بالعمل .
ما ورد في السنة في فضل التلبية:
إن أمر التلبية عظيم، وإن شأنها لكبير، وإلا لما جعلها الله تعالىشعارًا للنسك تتابع عليه الرسل -عليهم السلام- منذ أن لبى إبراهيم إلى أنيلبي المسيح في آخر الزمان.
روى ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ بِوَادِي الأَزْرَقِ، فَقَالَ: “أَيُّ وَادٍهَذَا؟!”، فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الأَزْرَقِ، قَالَ: “كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلامُ- هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ“، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ: “أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟!”، قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى، قَالَ: “كَأَنِّيأَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى -عَلَيْهِ السَّلامُ- عَلَى نَاقَةٍحَمْرَاءَ جَعْدَةٍ عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِخُلْبَةٌ وَهُوَ يُلَبِّي“. رواه مسلم.
والجؤار بالتلبية هو رفعالصوت بها، وورد في رواية أخرى أن موسى -عليه السلام- كان يضع أصبعيه فيأذنيه أثناء التلبية من شدة التصويت بها.
وقال ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: “كَانَتْ تَلْبِيَةُ مُوسَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَبَّيْكَ،عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدَيْكَ. وَكَانَتْ تَلْبِيَةُ عِيسَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَبَّيْكَ، عَبْدُكَ وَابْنُ أَمَتِكَ. وَكَانَتْ تَلْبِيَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَبَّيْكَ، لاشَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ“. رواه البزار.
ولما اندرس دين الخليل -عليه السلام-، وانتشر الشرك في العرب، بقيت التلبيةمما بقي من دين الخليل -عليه السلام-، وحافظ عليها الحنفاء في مكة بعدانتشار الشرك فيها، وكانت تلبية زيد بن عَمْرو بن نفَيْل قبل الإسلام: لبيْك حقًّا حَقًّا، تعبُّدًا وَرقًا.
ومن عظمة التلبية وأهميتها أن جبريل -عليه السلام- أوصى هذه الأمة برفع الصوت بها، فعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ: مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُواأَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ“. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
ومن عظيم أمر التلبية أن الجمادات تلبي مع الملبي فيكون له من الأجر ما لايحصى، كما في حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “مَامِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي، إِلا لَبَّى مَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، مِنْحَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ مَدَرٍ، حَتَّى تَنْقَطِعَ الأَرْضُ، مِنْهَاهُنَا وَهَاهُنَا“. رواه ابن ماجه وصححه الألباني
ولو لم يكن في التلبية إلا أن من مات محرمًا يبعث يوم القيامة ملبيًا لأنهاشعار النسك؛ لكان ذلك كافيًا في بيان فضلها، ولزوم الحرص عليها، ورفعالصوت بها، وفي قصة الرجل الذي وقصته راحلته في عرفة فمات وهو محرم قالالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “اغْسِلُوهُبِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُحَنِّطُوهُ،وَلاَ تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا“. رواه الشيخان.
وروى ابن ماجة عن جابر رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ما من محرم يضحي يومه (يظل يومه) يلبي حتى تغيب الشمس ، إلا غابت ذنوبه فعاد كما ولدته أمه ” ضعفه الألباني
وعن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ما أهل مهل قط ، إلا بشر ، ولا كبر مكبر قط إلا بشر ” . قيل : يا نبي الله : بالجنة ؟ قال : ” نعم ” . رواه الطبراني وحسنه الألباني
استحباب الجهر بها :
1 – عن زيد بن خالد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” جاءني جبريل عليه السلام فقال : مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية ، فإنها من شعائر الحج ” . رواه ابن ماجة
2 – وعن أبي بكر رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الحج أفضل ؟ فقال : ” العج والثج ”رواه الترمذي ، وابن ماجه . ” العج ” رفع الصوت بالتلبية .
” الثج ” نحر الهدي .
3 – وعن أبي حازم قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحرموا ، لم يبلغوا الروحاء حتى تبح أصواتهم .
وقد استحب الجمهور رفع الصوت بالتلبية ، لهذه الاحاديث : وقال مالك : لا يرفع ( الملبي ) الصوت في مسجد الجماعات بل يسمع نفسه ومن يليه ، إلا في مسجد منى والمسجد الحرام ، فإنه يرفع صوته فيهما .
وهذا بالنسبة للرجال ، أما المرأة فتسمع نفسها ومن يليها ، ويكره لها أن ترفع صوتها أكثر من ذلك .
وقتها :
يبدأ المحرم بالتلبية من وقت الإحرام ، إلى رمي جمرة العقبة يوم النحر ، بأول حصاة ثم يقطعها ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة . رواه الجماعة
وأما المعتمر فيلبي حتى يستلم الحجر الأسود .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر . رواه الترمذي
التلبية عند السلف :
وعمل الصحابة -رضي الله عنهم- بوصية جبريل هذه ” يَا مُحَمَّدُ: مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُواأَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، فَإِنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْحَجِّ“، فكانوا يكثرون التلبية،ويرفعون الصوت بها؛ إظهارًا لشعائر الله تعالى، وتعظيمًا له، وتمييزًا لحالالإحرام عن غيرها، وإعلان الوفادة على الله تعالى، والانقطاع له في أداءهذا النسك العظيم.
قال بَكْر بن عبد الله المزني -رحمه الله تعالى-: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ “فَلَبَّى حَتَّى أَسْمَعَ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ“.
وكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ -رضي الله عنه- يَقُولُ: “التَّلْبِيَةُ زِينَةُ الْحَجِّ“.
وعَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ -رحمه الله تعالى- قَالَ: “كَانَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لايَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحُّ أَصْوَاتُهُمْ مِنْ شِدَّةِ تَلْبِيَتِهِمْ“.
وخلفهم التابعون فساروا سيرتهم في العناية بالتلبية، ورفع الصوت بها، قال مَكْحُول -رحمه الله تعالى-: “التَّلْبِيَةُ شِعَارُ الْحَجِّ، فَأَكْثِرُوا مِنَ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ كُلِّ شَرَفٍ وَفِي كُلِّ حِينٍ، وَأَكْثِرُوا مِنَ التَّلْبِيَةِ وَأَظْهِرُوهَا“.
وعَنْ أَيُّوبَ السختياني قَالَ: رَأَيْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُوقِظُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَقُولُ: “قُومُوا لَبُّوا، فَإِنَّ زِينَةَ الْحَجِّ التَّلْبِيَةُ“.
وقال سُفيان بن عُيينَة :- حَجَّ عليُّ بن الحسين فلما أَحْرَم واسْتَوتْ به راحلته اصْفَرَّ لَونُه وانْتَفَضَ ووَقَعَتْ عليه الرَّعْدَة ولم يستطعأن يُلَبِّي ، فقيل له :- لِمَ لا تُلَبِّي ؟ .. فقال :- أخشى أن يُقال لي :- لا لبيك ولا سعديك ، فلمَّا لَبَّى غُشِي عليه ووَقَع من على راحلته فلميزل يَعتَرِيه ذلك حتى قضى حجَّه .
– وكان شريح رحمه الله إذا أحرم كأنه حيّة صماء من كثرة الصمت والتأمل والإطراق لله عز وجل
– ولما حَجَّ جعفر الصادق أراد أن يُلبِّي فتغيَّر وجهه ، فقيل له :- مَالك يا حفيد بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .. فقال :- أريد أن أُلَبِّي وأخاف أن أسمع غير الجواب.
من أفضل ما كتب فى معانى التلبية:
قال ابن القيم رحمه الله: وقد اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة:
إحداها: أن قولك لبيك يتضمن إجابة داع دعاك ومناد ناداك، ولا يصح في لغة ولا عقل إجابة من لا يتكلم ولا يدعو من أجابه.
الثانية: أنها تتضمن المحبة كما تقدم، ولا يقال لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه، ولهذا قيل في معناها: أنا مواجه لك بما تحب، وأنها من قولهم امرأة لبة أي محبة لولدها.
الثالثة: أنها تتضمن التزام دوام العبودية، ولهذا قيل: هي من الإقامة أي أنا مقيم على طاعتك.
الرابعة: أنها تتضمن الخضوع والذل أي خضوعا بعد خضوع من قولهم: أنا ملب بين يديك أي خاضع ذليل.
الخامسة: أنها تتضمن الإخلاص ولهذا قيل: إنها من اللب وهو الخالص.
السادسة: أنها تتضمن الإقرار بسمع الرب تعالى إذ يستحيل أن يقول الرجل لبيك لمن لا يسمع دعاءه.
السابعة: أنها تتضمن التقرب من الله ولهذا قيل: إنها من الإلباب وهو التقرب.
الثامنة: أنها جعلت في الإحرام شعاراً لانتقال من حال إلى حال ومن منسك إلى منسك، كما جعل التكبير في الصلاة سبعاً للانتقال من ركن إلى ركن؛ ولهذا كانت السنة أن يلبي حتى يشرع في الطواف فيقطع التلبية ثم إذا سار لبى حتى يقف بعرفة فيقطعها ثم يلبي حتى يقف بمزدلفة فيقطعها ثم يلبي حتى يرمي جمرة العقبة فيقطعها. فالتلبية شعار الحج والتنقل في أعمال المناسك، فالحاج كلما انتقل من ركن إلى ركن قال: لبيك اللهم لبيك، كما أن المصلي يقول في انتقاله من ركن إلى ركن: الله أكبر، فإذا حل من نسكه قطعها كما يكون سلام المصلي قاطعا لتكبيره.
التاسعة: أنها شعار لتوحيد ملة إبراهيم الذي هو روح الحج ومقصده بل روح العبادات كلها والمقصود منها، ولهذا كانت التلبية مفتاح هذه العبادة التي يدخل فيها بها.
العاشرة: أنها متضمنة لمفتاح الجنة وباب الإسلام الذي يدخل منه إليه وهو كلمة الإخلاص والشهادة لله بأنه لا شريك له.
حادية عشرة: أنها مشتملة على الحمد لله الذي هو من أحب ما يتقرب به العبد إلى الله وأول من يدعي إلى الجنة أهله وهو فاتحة الصلاة وخاتمتها.
الثانية عشرة: أنها مشتملة على الاعتراف لله بالنعمة كلها ولهذا عرفها باللام المفيدة للاستغراق أي النعم كلها لك وأنت موليها والمنعم بها.
الثالثة عشرة: أنها مشتملة على الاعتراف بأن الملك كله لله وحده فلا ملك على الحقيقة لغيره..) إلى آخر ما ذكر ابن القيم رحمه الله في حاشيته على سنن أبي داود (5/178).
فلبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
ويقول الأستاذ مصطفى مشهور :- ( التلبية وما تحمل ألفاظها من معانيالاستجابة لداعي الله وما فيها من تنزيه عن الشرك وأن الحمد له وحدهوالنعمة والملك له وحده ، ثم إن تكرارها باللسان وانشغال القلب بها فيهتأكيد وتثبيت لمعاني الإيمان والتوحيد والشعور بفضل الله وفقرنا إليه) ..
ويقول الدكتور خالد أبو شادي :- ( ومعنى التلبية :- إجابة نداءالله عز وجل على الفور مع كمال المحبة والانقياد، وتكرار كلمة ( لبيك) وَعدٌ منك لربك بطاعة بعد طاعة وشهادة منك على نفسك بإجابة بعد إجابة ،فَارْجُ الله أن تكون صادقا في دعواك ، واخْشَ أن تكون غير ذلك فيقال لك : لا لبيك ولا سعديك)
إلهنا ما أعدلك !… مليك كل من ملك
كان أبو نواس مسرفاً على نفسه لكنه كثيراً ما يرجع إلى الله مستغفراً نادماً، وفي لحظة من لحظات صفائه أطلق من قلبه هذه الأبيات الرائعة، يناجي بها ربه ومولاه، فعش مع هذه الأبيات لتتعرف على تلك المناجاة.
لبيك قد لبيت لـــك… لبيك إن الحمد لـك
والملك لا شريك لك… والليل لما أن حلك
والسابحات في الفلك …على مجارى المُنسلك
ما خاب عبدٌ أملك …أنت له حيثُ سلك
لولاك يا رب هلك ….كل ُنبيِ وملك
وكلُ من أهل لك… سبح أو لبى فلك
يا مخطئا ما أغفلك… عجل وبادرأجلك
واختم بخير عملك.. لبيك إن الملك لك
والحمد والنعمة لك… والعز لا شريك لك