شرح الأربعون النووية:39- إن الله تجاور لي عن أمتي

تاريخ الإضافة 5 نوفمبر, 2024 الزيارات : 34

شرح الأربعون النووية

39- إن الله تجاور لي عن أمتي

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) حديث حسن، رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما.

شرح الحديث

من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن عفا عن إثم الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه، فقال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]. والمؤاخذة على الأفعال مشروطة بقصدها، وفي هذا الحديث فضل لهذه الأمة على سواها من الأمم، وفضل لنبينا على غيره من النبيين.

(إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي ) وفي بعض الروايات: “وضع”، والمعنى: عفا، أو رفع. 

(عَنْ أُمَّتِي) أي لأجل كرامتي عليه، وزيادةً في اعتنائه “عن أمتي”: أي دون الأمم السابقة، فكانوا يُؤاخذون بالخطأ والنسيان والإكراه.

والمقصود أن الله تجاوز لي عن أمتي إثم أو عقاب أو حكم الخطأ أو النسيان أو ما استكرهوا عليه.

ورفع الإثم في الآخرة لا يعني رفع الحكم في الدنيا كضمان المتلفات، كما لا يمنع بقاء ذات الخطأ والنسيان والاستكراه

(الْخَطَأَ) الخطأ في اللغة يُطلق على معانٍ:

  1. ضد الصواب، وليس مرادًا هنا.
  2. ضد العمد؛ ومنه قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَئًا ﴾ [النساء: 92]. وهذا هو المعنى المقصود في الحديث.
  3. كما يُطلق الخطأ على الذنب أيضًا؛ ومنه حديث: “من اختكر فهو خاطئ”. ومن كلام إخوة يوسف: ﴿ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 97]، وقولهم: ﴿ وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 91].

وقيل: الخاطئ مَن فعل ما لا ينبغي، والمخطئ مَن أراد الصواب فصار إلى غيره. قال أبو عبيدة: خَطِئ وأَخْطَأَ بمعنى واحد.

ويمتنع أن يكون المراد من الحديث المعنى الثالث؛ لأن معناه إسقاط الشريعة ورفع التكليف، وهو مخالف لكثير من النصوص ويؤدي إلى الاستهتار بالشرع ونصوصه.

معنى الخطأ اصطلاحًا هو الزلل عن الحق عن غير تعمد. عرفه الجرجاني بقوله: “هو ما ليس للإنسان فيه قصد”.

والخطأ من عوارض الأهلية المكتسبة؛ لأنه لا يخل بأسس الأهلية وقواعدها، وهي الحياة والعقل والتمييز.

أقسام الخطأ:

  1. خطأ في الفعل: وهو أن يقع من المكلَّف فعل لم يكن قاصدًا إليه أصلاً. ومن أمثلته: ما لو رمى شيئًا فأصاب إنسانًا أو حيوانًا، أو كما لو رمى عامل شيئًا من أعلى العمارة، أو كما لو حفر حفرة بإذن ولي الأمر لغرض مشروع فسقط فيها إنسان.
  2. خطأ في القصد: وهو أن يقصد إلى الفعل فيخطئ في محله، كمن رمى إنسانًا يظنه طيرًا، أو يقصد إلى هدف يحسبه مرمىً فظهر إنسانًا. فالخطأ في ذات القصد؛ لأن الفعل اتجه إلى مقصده، ولكن الخطأ كان في أصل القصد، كمن رمى مسلمًا يظنه حربيًا.
  3. خطأ في التقدير: كما في حالة الأطباء حين يبذلون أقصى الجهد في التعرف على الداء وعلاجه، فيقع الخطأ الذي ينشأ عنه الضرر، أو يؤدي إلى قطع عضو أو طرف لا حاجة إلى قطعه، والخطأ الفاحش في التقدير يكون معه إهمال.

    كمن رمى إنسانًا يظنه طيرًا، أو يقصد إلى هدف يحسبه مرمىً فظهر إنسانًا. فالخطأ في ذات القصد؛ لأن الفعل اتجه إلى مقصده، ولكن الخطأ كان في أصل القصد، كمن رمى مسلمًا يظنه حربيًا.

    1. خطأ في التقدير:
      كما في حالة الأطباء حين يبذلون أقصى الجهد في التعرف على الداء وعلاجه فيقع الخطأ الذي ينشأ عنه الضرر، أو يؤدي ذلك إلى قطع عضو أو طرف لا حاجة إلى قطعه، والخطأ الفاحش في التقدير يكون معه إهمال.

    أثر الخطأ على حقوق الله والعباد:

    • فيما يتعلق بحقوق الله:
      فالأصل أنه لا مُؤَاخَذَة؛ للآية والحديث. وكذا قوله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ، وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [الأحزاب: 5].
    • أما في حق العباد فعلى أحوال:
      1. ما يعتبر فيه الخطأ سببًا في التخفيف:
        كما لو قتل غيره خطأً، فتجب الدية على عاقلته في ثلاث سنين، فاعتُبر الخطأ سببًا في التخفيف من القصاص إلى الدية، ومن النفس إلى العاقلة، ومن على الفور إلى الإمهال على ثلاث سنوات.
      2. ما لا يعتبر فيه الخطأ عذرًا:
        كما لو أخذ مال غيره يظنه ماله.

(وَالنِّسْيَانَ) النسيان لغةً: بكسر النون ضد الذكر والحفظ.

  1. فهو ترك الإنسان ضبط ما استودع.
  2. أو عدم استحضار الشيء وقت الحاجة إليه.
  3. وقد يُطلق على الترك؛ ومنه: ﴿ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237].
  4.  وقد يُطلق على التأخير؛ ومنه: ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ [البقرة: 106]؛ أي نؤخرها.

وعليه، يكون النسيان في قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]؛ أي تركنا شيئًا من طاعتك عن غفلة منا.

قال في “المصباح”: “نسيتُ الشيء أنساه نسيانًا، مشترك من معنيين:

  1. أحدهما: ترك الشيء عن ذهول وغفلة، وذلك خلاف الذكر.
  2. الترك على تعمد؛ ومنه: ﴿ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237].

فرع في أثر النسيان على الأحكام المتعلقة بحق الله تعالى:
الأصل أن النسيان عذر يرفع الإثم والمؤاخذة بالنسبة لحق الله تعالى للآية والحديث.

وذلك لأن مناط العقوبة هو القصد، وهو غير متحقق في الناسي، تيسيرًا من الله تعالى على عباده ورفعًا للحرج والمشقة عنهم بالنسبة لأعمال الآخرة، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقال: ﴿يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنكُمْ﴾ [النساء: 28].

فرع في أثر النسيان على الأحكام المتعلقة بحقوق العباد
الأصل أن النسيان لا يُعتبر عذرًا شرعيًا فيما يتعلق بحقوق العباد. قال السيوطي: “اعلم أن قاعدة الفقه أن الجهل والنسيان مسقط للإثم مطلقًا”. وأما الحكم فقد قُسِّمَ الكلام عليه إلى أربعة أقسام بحسب متعلقه:

  1. إن وقعا في ترك مأمور؛ لم يسقط الحكم.
    مثاله: من نسي صلاة أو صيامًا أو كفارة أو نذرًا؛ أو وقف بغير عرفة نسيانًا أو جهلًا، يجب تداركه بالقضاء، ولو فاضل في الأصناف الربوية جاهلًا؛ فإن العقد يبطل.
  2. إن وقعا في فعل منهي ليس من باب الإتلاف؛ فلا شيء يلزمه.
    مثاله: من شرب خمرًا جاهلًا أو ناسيًا؛ لم يُحدّ، ومن أكل في الصيام ناسيًا ولو كثيرًا، أو تكلم في الصلاة قليلًا ودون الكثير، أو ارتكب محظورًا من محظورات الإحرام ناسيًا، فلا شيء عليه.

    ووجه التفريق بين كثير الأكل في الصيام وكثير الكلام في الصلاة أنَّ الفعل الكثير في الصلاة كالأكل يُبطلها في الأصح لندوره، بخلاف الصوم؛ لأنه لا يندر فيه، ولأن في الصلاة هيئة مُذَكِّرَة وهي هيئات الركوع والسجود ونحوهما، بخلاف الصوم فلا توجد فيه هيئة مذكرة.

  3. إن وقعا في فعل منهي فيه إتلاف؛ لم يسقط الحكم للضمان.
    مثاله: إتلاف مال الغير نسيانًا أنه للغير.
  4. إن وقعا في فعل يُوجب العقوبة؛ كان النسيان والجهل شبهة في إسقاطها.
    مثاله: من زنى جاهلًا بتحريم الزنى لم يُحدّ.

مستثنيات من القاعدة السابقة:
قاعدة: “من علم تحريم شيء، وجهل ما يترتب عليه لم ينفعه ذلك”. كمن علم حرمة الزنا وجهل الحد، فإنه يُقام عليه الحد بالاتفاق.

(وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) راعى في هذا الفعل معنى الأمة فأتى بصيغة الجمع؛ وإلا لقال: “وما استكرهتَ عليه” بصيغة المفرد.

و”ما” هنا تعم القول والفعل، إلا أنه يباح عند الجمهور (مالك والشافعي وأحمد) لمن أُكره على أي قول أن يقوله؛ لأنه إذا رُخص في كلمة الكفر، فما دونه من باب أولى.

وأما في الأفعال، ففيها خلاف وتفصيل، وعند الجمهور أنه فيما دون القتل والزنا يجوز للمكره الفعل، وأما القتل فلا يجوز بأي حال من الأحوال، وكذلك لا يجوز عند الحنابلة أن يزني الرجل لو أُكره على ذلك بأي حال من الأحوال، وقال ابن العربي: الصحيح أنه يجوز الإقدام على الزنى ولا حد عليه خلافًا لمن ألزمه بذلك.

ولم يقل: “والإكراه” نظير الخطأ والنسيان؛ لأنهما يتبادران في خطأ النفس ونسيانها.

أما في الإكراه فقد يتبادر إكراه النفس غيرها، أو يحتمل هذا وذاك، والأول غير معفو عنه، والسين والتاء زائدتان. ومعنى “اسْتَكْرِهُوا”: أي حُمِلُوا عليه قهرًا بإكراه أو إلجاء.

الإكراه لغة: حمل الغير على ما لا يرضاه. والمُكرَه: ما يكرهه الإنسان ويشق عليه ويُجمَعُ على مكاره. والكُره ضد الحب. وكَرِهَ الشيء: كُرهًا وكراهة وكراهية. والكُره بالفتح المشقة، وبالضم القهر، وقيل: بالفتح الإكراه، وبالضم المشقة.

الإكراه اصطلاحًا: حمل الغير على أمر يكرهه ولا يريد مباشرته بالوعيد الشديد. أي حمل الغير على أمر يكرهه ولا يرضاه طبعًا أو شرعًا، وهذا يشمل الإكراه على الأقوال والأفعال.

شروط الإكراه وأركانه
ومن التعريف يمكن استفادة شروط الإكراه المعتبر وأركانه التي يتحقق شرعًا بها:

  1. أن يكون المكرِه قادرًا على تحقيق ما هدد به، إما بولاية أو تغلّب أو فرط هجوم، فإن لم يكن قادرًا لم يتحقق الإكراه.
  2. أن يكون المُكرَه عاجزًا عن أن يدفع عن نفسه بالهرب أو الاستغاثة أو المقاومة.
  3. أن يكون التهديد بأمر يتضمن إتلاف نفس أو عضو أو بما دون ذلك كالحبس أو القيد.
  4. أن يكون ما توعد به غير مستحق على المُكرَه، أو مما يحرم على المُكرِه فعله، فلو قال ولي القصاص للجاني: “طلّق امرأتك وإلا اقتصصتُ منك”، لم يكن إكراهًا؛ لأن القصاص من الفاعل حقٌ له على الجاني، إن شاء أخذه وإن شاء تركه.
  5. أن يكون ما هدده به سينفذه عاجلًا وليس آجلًا، فلو قال له: “سأقتلك بعد سنة”، لم يكن إكراهًا.
  6. أن يحصل الخلاص من المتوعد أو المُهدَّد به بفعل المُكرَه عليه، فلو قال المكرِه: “اقتل نفسك وإلا قتلتك”، فليس بإكراه؛ لأنه لو قتل نفسه فكيف تتحقق نجاته من المتوعد به بعد أن ذهبت نفسه.

ثم اعلم أنه لا يُتصور الإكراه على شيء من أفعال القلوب. واعلم أيضًا أنه إذا ظهر من المُكرَه ما يدل على رضاه بما يُكره عليه، ووجدت رغبة لديه فيه، فإنه يصح منه ما يوقعه من العقود وغيرها، ولا يُعتد بالإكراه ولو كان قائمًا، لصحة قصده لما يصدر عنه من تصرف.

أقسام الإكراه

  1. إكراه ملجيء:
    وهو الذي لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار، كإلقاء شخص من شاهق فوقع على آخر فقتله، وهذا النوع ينعدم فيه رضا الفاعل واختياره للفعل، وهذا النوع يمنع من التكليف بالفعل المُكرَه عليه.
  2. إكراه غير ملجيء:
    وهو الذي يبقى معه للشخص قدرة بما دون قتل الإنسان أو إهلاك الأعضاء وإتلافها؛ كالضرب الذي لا يُخاف منه التلف؛ كاللطمة أو الحبس والتقييد. وهذا النوع ينعدم فيه رضا الفاعل، ولا ينعدم اختياره؛ إذ إنه يتمكن من الصبر على ما هدد به.

الإكراه غير الملجيء قسمان:
أ. إكراه بحق: كالحاكم يُكره الغاصب على ردّ ما اغتصبه، أو يُكره المدين الموسر على سداد دينه، فهذا الإكراه لا يرفع الحكم عن المكلف، بل يكون الفعل من المكلف معتبرًا شرعًا.

ب – الإكراه بغير حق
هذا محل الخلاف بين العلماء، ولهم في ذلك تفاصيل:
أولًا: باعتبار الفعل المهدد به من قتل أو إتلاف عضو أو دون ذلك.
ثانيًا: باعتبار المكرَه عليه من قتل أو زنا أو دون ذلك.
وقد ذهبوا إلى أن الإكراه على القتل لا يحصل إلا بالتهديد به. أما إذا كان الإكراه على ما دون القتل، كشرب خمر أو إتلاف مال مسلم أو ترك واجب كالصلاة ونحوها؛ فقد اختلفوا في حصول الإكراه في هذه الحالات.

الفرق بين الإكراه الملجئ وغيره

  1. الإكراه غير الملجئ لا ينافي خطاب التكليف، فالمكرَه لا يمتنع تكليفه لإمكان الفهم والامتثال وإن كان على كره، أما الملجئ فالصواب أنه يمتنع تكليفه؛ لأنه يصبح كالآلة المحضة.
  2. الإكراه لا يُزيل الاختيار والقدرة، بخلاف الإلجاء.
  3. الإكراه يتحقق بالقول والفعل، والإلجاء بالفعل فقط.

وسائل الإكراه:
واختلف العلماء في وسائل الإكراه كما يلي:

  1. الإكراه لا يحصل إلا بالقتل فقط؛ فإن كان بما دونه فلا يُعتد به.
  2. يحصل الإكراه بالقتل وبقطع الأعضاء أو الضرب الذي يُخاف معه الهلاك.
  3. يتحقق الإكراه بما يسلب الاختيار ويجعل المكرَه كالهارب من الأسد يدخل في النار ولا يبالي، ويمشي على الشوك ولا يدري.
  4. يحصل الإكراه بعقوبة بدنية تتعلق بها القصاص كقطع أو جرح.
  5. يحصل بعقوبة بدنية شديدة كالحبس الطويل، لا مجرد الحبس أو الحبس المطلق.
  6. يحصل الإكراه بما ذُكر جميعًا، أو بأخذ مال المكرَه أو إتلافه.
  7. يحصل الإكراه بكل شيء يُفضِل العاقل ويُؤثر الإقدام عليه خوفًا من وقوع ما هُدِّد به.

وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والأفعال المكرَه عليها، والشيء الذي يُخوَّف به. فالإكراه على الطلاق، مثلًا، يحصل بالتخويف بالقتل وقطع العضو والحبس الطويل والضرب الكثير أو المتوسط لمن لا يحتمله ولم يُعَدَّ له. وكذلك يحصل الإكراه بالتخويف بالصفع والإهانة لذوي المروءات في الملأ، وتشويه الوجه، ونحو ذلك، كما يحصل بقتل الوالد وإن علا، والولد وإن سفل على الصحيح.

أما بالنسبة للإكراه على القتل، فإن التخويف بالحبس أو قتل الولد لا يُعتبر إكراهًا، بينما يُعتبر كل ما ذُكر إكراهًا فيما يتعلق بإتلاف المال. وقد اختار الإمام النووي – رحمه الله – أن الإكراه يختلف من حيث الأشخاص والأفعال المكرَه عليها والأمور المُهدَّد بها.

الإكراه يتحقق بأمرين:

  1. نفسي ومعنوي: وهو إحداث الخوف في نفس المكرَه.
  2. مادي: التهديد بإحداث ضرر.

أثر الإكراه في المحرمات
يتنوع حكم الإقدام على المحرمات بسبب الإكراه بحسب التقسيم الآتي للمحرمات:

  1. حرمة لا تسقط بالإكراه ولا تدخلها الرخصة (فالحديث عام مخصوص بهذه الأنواع): كقتل المسلم والزنا؛ لأن دليل الرخصة هنا خوف التلف، وهو حاصل إما بفعل المكرِه أو المكرَه، وكلاهما سواء.
    • يحصل التعارض بين نفس المكرِه والمكرَه عليه فيسقط الإكراه للتعارض.
    • وفي القتل، إذا قتله، فكأنه قتله بلا إكراه، فيحرم.
    • وفي الزنا، لأنه قتل معنوي للولد مع ثبوت الإثم، لكن لا يثبت الحد للشبهة في حالة الإلجاء دون الإكراه، وكذلك الإلجاء في المرأة على الزنا لا يُثبت إثمًا ولا حدًا.

أما تمكين الرجل من نفسه تحت التهديد بالقتل أو منع الطعام والشراب حتى الموت، فقد ذكر ابن القيم – رحمه الله – أنه يُقال بعدم جواز ذلك، ويصبر على الموت، بخلاف المرأة حيث يجوز لها ذلك وإن كان الصبر أفضل.

ثم ساق ابن القيم رواية عن أبي عبد الرحمن السلمي، حيث أُتي عمر بامرأة جهدها العطش، فمرت على راعٍ، فاستسقته فأبى إلا أن تمكنه من نفسها، فشاور الناس في رجمها، فقال علي – رضي الله عنه -: هذه مضطرة، فخلى سبيلها.

وأشارت بعض الروايات أنها خافت على نفسها الهلاك، وأنها امتنعت عدة مرات قبل أن تمكنه.

  1. حرمة تسقط عند الاضطرار
    وذلك كالإكراه على شرب الخمر وأكل الخنزير، قال تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ [الأنعام: 119]. وقد استثنى الله تعالى حال الضرورة، والاستثناء من التحريم هنا يعني إباحة المحرمات عند الاضطرار، إلا إذا كان الإكراه ناقصًا لعدم استيفاء شرطه، فإذا كان مكرَهًا في حالة مجاعة أو نحوها وترك الأكل عالِمًا بسقوط التحريم فإنه يؤاخذ على ذلك. أما إذا لم يكن عالمًا، فلا يُؤاخذ؛ لأنه قصد بامتناعه مراعاة الشرع في التحرز عن ارتكاب ما يعتقده محرّمًا.
  2. حرمة لا تسقط بالإكراه لكنها تحتمل الرخصة
    كحق من حقوق الله تعالى، كإجراء كلمة الكفر ترخصًا على اللسان، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]. وقد قيل إنه يجب عليه استخدام التعريض قبل النطق بكلمة الكفر.
  3. حرمة لا تسقط بالإكراه لكنها تحتمل الرخصة
    في حقوق العباد؛ كإتلاف المال، فتسقط بالإكراه التام ويلزم الضمان. فلو أتلف المكرَه مال غيره ليصون نفسه، فإنه يلزم الضمان؛ لأن حرمة النفس مقدمة على حرمة المال، لكنه تعدى على مال غيره، قال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188].

الفرق بين المكرَه والمضطهد
المكرَه يقصد دفع الضرر باحتمال ما أُكره عليه، بينما المضطهد يسعى للوصول إلى حقه عبر الالتزام بما طُلِب منه. وكلاهما غير راضٍ عما التزم به.

فوائد فقهية

  1. في عقود المكرَه وفسوخه وأيمانه
    الطلاق، والخلع، والبيع، والحلف، وسائر الأقوال يُتصوّر فيها الإكراه. سواء في العقود كالبيع والنكاح، أو الفسوخ كالخلع والطلاق، وكذلك الأيمان والنذور. فإذا تحقق الإكراه بشروطه، وانتفت موانعه، فلا يترتب عليه حكم من الأحكام في الدنيا ولا يُؤاخذ به في الآخرة. وهذا رأي جمهور العلماء، كمالك والشافعي وأحمد.

    وقد ورد عن ابن عباس قوله فيمن يُكرهه اللصوص فيطلق: “ليس بشيء”. ورُوي نحوه عن ابن عمر وغيره من الصحابة، وبه قال الشعبي والحسن.
    وقال أبو حنيفة: “طلاق المكرَه يلزم”؛ لأنه يفتقد الرضا فقط، وليس وجود الرضا شرطًا في الطلاق كالهازل. بينما قال القرطبي إن هذا قياس باطل، فالهازل قاصد للإيقاع بخلاف المكرَه.

  2. في أفعال الجاهل والناسي
    من يرى أن جميع المحرمات في العبادات وغير العبادات، إذا فعلها الإنسان جاهلًا أو ناسيًا أو مكرَهًا، فلا شيء عليه فيما يتعلق بحق الله. أما حق الآدمي فلا يُعفى عنه من حيث الضمان، وإن كان يُعفى عنه من حيث الإثم. فجميع المحرمات يرفع حكمها بهذه الأعذار، أما المأمورات فإنها لا تسقط أداؤها أو قضاؤها ويُعفى فقط عن الإثم في تأخيرها بعذر.

أمثلة على ذلك

    • الصلاة: رجل تكلم في الصلاة يظن أن الكلام جائز، فلا تبطل صلاته؛ لأنه جاهل، وقد ثبت في حديث معاوية بن الحكم – رضي الله عنه – أنه تكلم في الصلاة، ولم يأمره النبي ﷺ بالإعادة.
    • الصيام: لو أكل الصائم يظن أن الشمس قد غربت، ثم تبين أنها لم تغرب، فلا يُؤمر بالقضاء، كما ثبت عن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنها – أنهم أفطروا في يوم غيم ثم طلعت الشمس، ولم يؤمروا بالقضاء.
    • الزنا: لو زنى رجل عاش في بلاد غير مسلمة يظن أن الزنا حلال، فلا يقام عليه الحد ويُقبل قوله، بخلاف ما لو قال من عاش بين المسلمين إنه لا يدري أن الزنا حرام؛ فإنه يقام عليه الحد.
    •  

      الفرق بين الجاهل والمخطئ والناسي

      • الجاهل: من لم يعلم الحكم الشرعي أو غاب عنه.
      • المخطئ: من علم الحكم لكنه ارتكب الخطأ عن غير قصد.
      • الناسي: من غاب عنه الفعل أو نسي الحكم الشرعي وقت القيام به.

      الخلاصة
      الحديث يدل على رفع الإثم والمؤاخذة في حالات الخطأ والنسيان والإكراه، مع اختلاف الحكم بحسب نوع الحق (حق الله أو حق العباد)؛ بحيث يُعفى عن الإثم بحق الله، بينما يبقى ضمان الحقوق في حقوق العباد.

      وهنا لا بد من التنويه بأن الجهل بما يترتب على الفعل ليس بعذر، إنما العذر إذا جهل الحكم، ولهذا ألزم النبي ﷺ الأعرابي الذي جامع في نهار رمضان بالكفارة مع أنه كان لا يدري أن في ذلك كفارة.

      هـ – ولو ترك رجل واجبًا فلا بد من فعله
      لأن النبي ﷺ قال: “من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها” (أخرجه البخاري)، فعذره عن التأخير ولم يعذره عن القضاء. فهذا في النسيان. أما بالنسبة للجهل، فقد ورد عن الرجل الذي جاء وصلى ولم يطمئن في صلاته، أن النبي ﷺ قال له: “ارجع فصل فإنك لم تصلِّ”، فرجع وصلى صلاة لا يطمئن فيها، ثم جاء فسلم على النبي ﷺ، فقال: “ارجع فصل فإنك لم تصلِّ”، وكرر ذلك ثلاث مرات حتى قال المصلي: “والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني”، فعلمه النبي ﷺ. وهنا لم يعذره بالجهل؛ لأن هذا واجب، والواجب يمكن تداركه مع الجهل فيفعله.

      الواجبات وتسقطها بالجهل
      هناك خلاف بين العلماء حول الواجبات: هل تسقط بالجهل مطلقًا، أم يقال: تسقط إذا كان الجهل غير مقصِّر، فإن كان مقصرًا لم يعذر؟

والظاهر أن الواجبات تسقط بالجهل ما لم يمكن تداركها في الوقت؛ لذلك أمره النبي ﷺ بقضاء الصلاة الحاضرة فقط. ومثل ذلك لو بلغت المرأة دون خمس عشرة سنة وظنت أن الصوم لا يلزمها إلا بتمام خمس عشرة سنة كما هو الحال في بعض المناطق الريفية، فتركت الصيام لسنين، فإننا لا نلزمها بالقضاء لجهلها وعدم تقصيرها؛ لأن أهلها أخبروها بذلك، وليس لديها من تسأله.

التفريق بين الجهل المعتبر وغيره
فلو ترك الواجب الذي تعلق به حق الغير، كالزكاة، فإننا نلزمه بأداء ما مضى؛ لأن الزكاة ليس لها وقت محدد يفوت بفواته، فلو أخرها عمدًا لسنوات لزمه إخراجها عن السنوات الماضية.

فوائد الحديث

  1. رحمة الله بالأمة: يظهر الحديث رحمة الله الواسعة بعباده، حيث يعفو عنهم في حالات ضعف الإنسان الخارجة عن إرادته، مثل الخطأ والنسيان.
  2. رفع الإثم عن المخطئ والناسي والمكره، لأن الله تجاوز عن الأمة في هذه الحالات.
  3. تحفيز المؤمن على الاجتهاد في العبادة؛ لأن المؤمن يعلم أن الله لا يؤاخذه بالخطأ والنسيان، فإنه يجتهد في العبادة والأعمال الصالحة دون خوف أو تردد، مطمئناً إلى رحمة الله.
  4.  الحديث يرسخ قاعدة “الأمور بمقاصدها”؛ فإذا كان الخطأ غير مقصود أو النسيان خارج عن الإرادة، فإن الحكم يختلف عمَّا إذا كان عن قصد ووعي.
  5. التأكيد على يسر الشريعة الإسلامية: لأن الشريعة جاءت للتيسير ورفع الحرج، حيث رفع الله الحرج عن الأمة في حالات خارجة عن إرادتها.

 


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 9 ديسمبر, 2024 عدد الزوار : 13941 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع