(21) يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار.
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: “أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ” ثم قال صلى الله عليه وسلم: «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده وقال: عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان، يخفض ويرفع» رواه البخاري
هذا الحديث أوله قدسي من كلام الله عز وجل:
يا ابن آدم، أَنفق أُنفق عليك:
أَنفق: فعل أمر؛ الله تعالى يدعو عباده إلى الإنفاق، سواء كانت النفقة الواجبة كالنفقة على الأولاد والزوجة، أو على الوالدين إن كانوا في حاجة إلى النفقة، أو الزكاة طبعاً، أو النفقة المستحبة كالصدقات وأعمال البر والخيرات.
أُنفق عليك: أي: أعوضه لك، وأعطك خلفه، بل أكثر أضعافا مضاعفة، وهو معنى قوله عز وجل: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} [سبأ:39]، فالله تعالى وعد كل من ينفق بأن ينفق الله عليه، أي يخلف عليه بالخير.
ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: يد الله ملأى
والوصف بـملأى هنا وصف مبالغة مثل: “الأسماء الحسنى”، مبالغة في الكمال، فـ ملأى تعني الامتلاء الكامل.
وهذا إشارة إلى أن ما في خزائن الله سبحانه وتعالى كثير، لا ينفد أبداً، كما قال تعالى: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) [النحل: الآية 96]، وقال: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [الحجر: الآية 21]
ومع سعة إنفاق الله على عباده، يمكننا أن نتخيل كم عدد المخلوقات التي خلقها الله، وكم يساق لها من أرزاق لتعيش وتأكل وتحيا، وكم هيّأ الله لها من معايش، وكم أنعم الله على عباده من رزق في ماء ينزل من السماء، ونبات، وحيوان، وخيرات، وما يهبهم من عافية وأولاد.
وعلى الرغم من هذا، فإن الله لا ينقص ما ينفقه مما في يده شيئاً.
يد الله ملأى، لا تَغيضها نفقة
أي لا ينقصها شيء، قال تعالى: (وغيض الماء) [هود: الآية 44]، أي: لا تنقصها، «نفقة» مهما عظمت أو كثرت.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: سحاء الليل والنهار
والسحاء هو نزول الشيء بكثرة من أعلى إلى أسفل، فنعم الله تعالى تتنزل في الليل وفي النهار بلا حساب.
ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتم كم أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟
لو أن غنياً من البشر أنفق على أسرته أو شركته، فإن ثروته ولا شك تنقص.
أما رب العزة جل وعلا الذي يطعم من في السماوات والأرض، فإن ذلك لا ينقص مما عنده شيئاً.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإنه لم يَغِضْ ما في يده
أي: لم يَنقُصْ ما في يَدِه شيء.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: وكان عرشه على الماء
إشارة إلى قدرة الله المطلقة في خلقه وإبداعه.
وأيضاً قال: وبيده الميزان يخفض ويرفع
فيحكم بالعدل بين خلقه «يخفض» من يشاء، «ويرفع» من يشاء، والمقصود بالميزان هنا هو ميزان المقادير، فليس في الكون شيء يسير وفق الصدفة أو الاعتباط، إنما كل شيء عند الله بقدر وميزان، قال تعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [القمر: الآية 49]، فكل ذرة في الكون تتحرك بحساب، وكل ساكن يتحرك بحساب.
وهذا ما هدانا إليه العلماء من قوانين كونية وفلكية، كحركة الشمس والقمر، والمد والجزر، ونزول المطر.
اكتشف العلماء القوانين لأنها ثابتة متكررة، وصاروا يدرسونها ويفهمون بها نظام الكون؛ فكل ذرة في الكون تتحرك بحساب، وكل متحرك يسكن بحساب، وكل ساكن يتحرك بحساب، وكل شيء عند الله بميزان.
والعلماء اهتدوا إلى هذا النظام الكوني أو النظام الفلكي بقوانين ثابتة في الكون، مثل شروق الشمس وغروبها، وحركة القمر وما يعقبها من مد وجزر، وحركة الرياح، ونزول المطر وكل هذه الأشياء اكتشف العلماء قوانينها لأنها ثابتة متكررة متعاقبة، فتكرار الشيء يلفت النظر إلى أن له قانوناً.
وصارت هناك قوانين تدرس، مثل قوانين الحركة، وقوانين الحرارة، وقوانين الجاذبية وهكذا.
عندما اكتشف العلماء القوانين، علموا أن كل شيء في الكون بميزان، فصاروا يكتشفون أشياء كثيرة جداً في الكون مما لم يخطر بالبال من قبل قال الله تعالى: (وكل شيء عنده بمقدار) [الرعد: الآية 8]
الله تعالى بيده الميزان، يخفض ويرفع، إشارة إلى ما يجريه من مقادير؛ يخفض ما يشاء ويرفع ما يشاء، وهذا كقوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) [آل عمران: الآية 26]
وكل مسائل الخلق، وكل ما يرجونه، إذا سألوا الله فأعطاهم، فإن ذلك لا ينقص مما عنده شيئاً.
جريان الأرزاق بأسبابها:
والإشارة في الحديث إلى أن الله غني كريم، عنده خزائن كل شيء، وعطاؤه بحساب
عطاء الله ليس اعتباطاً أو جزافاً، بل جعل كل شيء بميزان، وجعل كل شيء بأسبابه، وقدر في الكون قوانين للارتزاق، والحركة، والاكتساب.
وهذه الأشياء كلها، نحن نتفاعل معها مستعينين بالله عز وجل، مع علمنا أن الله على كل شيء قدير، قال الله تعالى: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) [الذاريات: 58]
قال العلماء: إن الله سبحانه وتعالى قدر الأرزاق بأسبابها، فأي رزق في الكون جعله الله بسبب، وقدر أيضاً أرزاقاً بغير أسبابها، وهذا معنى قوله تعالى: (ويرزقه من حيث لا يحتسب) [الطلاق: الآية 3]، فهذا الرزق من حيث لا تحتسب حتى تعلم أن هناك باباً يفتح عليك بأمر الله إذا شاء، لكن لا تهمل الأسباب؛ خذ بالأسباب كما أمرك الله، واجعل الأرزاق والمقادير تجري كما أراد الله سبحانه وتعالى.
فالله تعالى بيده الميزان، يخفض ويرفع، كل شيء عنده بميزان دقيق.
ولذلك قال سفيان الثوري: إذا سألت الله فاعلم أنك لا تسأل فقيراً ولا بخيلاً.
إذا سألت الله فاعلم أنك لا تسأل فقيراً ليس عنده شيء، بل هو الغني جل جلاله
ولا تسأل بخيلاً؛ فالله تعالى لا يبخل؛ فهو أكرم الأكرمين لكنه يعطي بحساب، ويمنع بحساب فعطاؤه إنعام، ومنعه إنعام.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه،
ويثبتنا على الحق إلى أن نلقاه
اللهم آمين