عظمة الله رب العالمين: (24) إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي

تاريخ الإضافة 24 يناير, 2025 الزيارات : 31

(24) إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لما قضى الله الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي رواه البخاري، ومسلم

شرح الحديث

لما قضى الله الخلق:

يعني لما أتم الخلق وأتقنه سبحانه وتعالى.

 كتب كتابًا

 وفائدة الكتاب هنا تفيد أن الأمر ثابت لا يتغير، فما كتبه الله لا يُمحى.

وكتابًا ليس المقصود به كتابًا بتعبيرنا الدارج، إنما المقصود هنا بطاقة أو رسالة فيها هذا الكلام

كتب كتابًا فهو عنده فوق العرش

والعندية هنا المقصود بها أهمية ما كُتب، ماذا في هذه الرسالة أو هذه البطاقة؟

إن رحمتي سبقت غضبي أو إن رحمتي تغلب غضبي

الله سبحانه وتعالى، سمى نفسه الرحمن ولم يسمِّ نفسه الغضبان، رغم أنه سبحانه وتعالى يرحم ويغضب، ومن صفاته الرحمة ومن صفاته الغضب، لكنه جعل الرحمة وصف ذات، وجعل الغضب وصف فعل.

الرحمة أحد صفات الله جل جلاله الذاتية:

ما معنى صفة ذاتية؟

لو قلنا على شخص أنه أسمر اللون، هذه تُسمى صفة ذاتية، مثل: أسمر، طويل، أبيض، قصير هذه تسمى صفات ذاتية.

ما هي أفعاله؟ يأكل، يشرب، يمشي، يلعب، ينام، يغضب، يفرح، يضحك؛ هذه تُسمى صفات أفعال.

صفات الذات لا تتغير، أما صفات الأفعال فإنها تتغير وتتجدد هذا معنى تقريبي، بالنسبة لنا نحن البشر.

فحينما نقول إن من أسماء الله عز وجل الرحمن، فهذا معناه أن الرحمة صفة ذات لله، صفة من صفات الله الذاتية جل جلاله؛ فهو سبحانه وتعالى الذي بلغت رحمته الكمال.

والعرب في اللغة العربية يزنون الكلمات على وزن الفعل الماضي فعل، فرَحِمَ على وزن فعل فلما يزنون اسم الرحمن، يقولون إنه على وزن: فعلان هذا الوزن الذي يأتي على سياقه كثير من الكلمات في الوصف قالوا إنه يفيد الكمال في الوصف.

فمن هذه المبالغات أن يُقال: شبعان، غضبان، جوعان، حيران، سكران، نومان

كل هذه تُسمى مبالغات، يعني هو ليس نائمًا فقط، بل إنه نومان نوم عميق.

لا نقول إنه استدفأ وذهب عنه البرد، يقولون: دفيان لا يقولون إنه ارتوى وشرب بعض الماء، بل يقولون: ريان، يعني بلغ الكمال في الوصف.

فلما أتوا عند وصف الرحمة، الله تعالى رحمن، يعني رحمته واسعة شاملة لا حد لها، ولذلك يمكن لأحد أن يتسمى بالرحيم، لأن الرحيم صفة فعل.

لكن لا يجوز التسمي باسم الرحمن نهائيًا، فهذا اسم خاص بالله، لأنه لم يبلغ الكمال في الرحمة إلا الله عز وجل.

أما فعل الرحمة، فالله يرحم، وجعل الرحمة في عباده، وسمى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) [التوبة: 128]

إذًا، فصفة الرحمة صفة ذاتية من صفات الله عز وجل، ورحمته سبحانه وتعالى من أوسع وأشمل وأكمل الصفات.

ولذلك الإمام ابن القيم -رحمه الله- في ملخص كلامه قال: لما أخبر الله تعالى عن استوائه على العرش قال: (الرحمن على العرش استوى) [طه: 5] والعرش هو أعظم المخلوقات، فلماذا لم يقل الملك على العرش استوى أو القهار على العرش استوى؟ لماذا جاء باسم الرحمن؟

قال ابن القيم -رحمه الله-: بما أن العرش أوسع المخلوقات وأعلاها، فإن الرحمة هي أوسع الصفات وأكملها، فناسب أن يستولي على أوسع وأكبر المخلوقات بأوسع وأكمل الصفات: (الرحمن على العرش استوى)

فذكر صفة الرحمة وناسب ذلك لهذا الخلق العظيم، العرش، الذي تكلمنا عنه بالتفصيل فيما سبق

رحمة الله تعالى تعم الجميع: المؤمن والكافر: فهو يرزق الجميع ويعطي الجميع، تخيل، شخص يسب الله، ينكر وجوده، يشرك بالله، يقول في الله عز وجل ما لا يليق به من الصفات، ومع ذلك يرزقهم الله، يعافيهم، يعطيهم، ولا يمنع عنهم، وهذا يسمى عطاء الربوبية، فهو رب العالمين.

أما يوم القيامة، فينقطع عطاؤه إلا عن المؤمنين: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) [الأعراف: 32] يعني هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ولغيرهم، ثم يوم القيامة يكون عطاؤه للمؤمنين وحدهم، ويمنع رحمته وعطاءه عن كل من كفر به، لأن يوم القيامة يوم الجزاء على الأعمال.

أي ملك من ملوك الدنيا أو مسؤول أو رئيس يكتسب سطوته من العقاب.

وأي ملك يريد أن يفرض سطوته وقبضته على بلده أو على حكمه يكون ذلك بسفك الدماء والعقوبات القاسية والسجن وما إلى ذلك.

فإذا علم الملك أو رأى من يعصيه أو يجاهر بعداوته، فإنه لا يرحمه

الملوك غضبتهم أسرع من أي شيء، والعفو عندهم قليل إذا تعلق الأمر بملكهم.

وهذا الأمر معروف تاريخيًا: أي ملك يريد أن يفرض سطوته يكون لديه إثخان في الدماء، يقتل، يسفك، يعذب، يؤذي.

ولكن سبحان الله العظيم! الله ملك الملوك جل جلاله، يستطيع أن يفرض سلطته ويجبر عباده من الإنس والجن على طاعته، وعلى الرغم من هذا، فإنه لم يقهر أحدًا على عبادته.

ليس هناك أحد مقهور على عبادة الله وحده، بل إنه سبحانه وتعالى يرزقهم ويعطيهم، وهم يقولون في الله ما لا يليق، يشركون به، يسبونه، ينكرون وجوده، ومع ذلك يعطيهم سبحانه، وهو يراهم ويسمعهم جل جلاله.

فهنا لماذا قال الله تعالى: إن رحمتي سبقت غضبي؟

يرى العاصي وهو يعصي، وهو الذي أعطاه القدرة: أعطاه القدرة على البصر، والسمع، والحركة، ويفعل ما يفعل، فقدّره على ما فعل، ويحلم عليه فلا يعاجله بالعقوبة، لأن المستعجل أو المتعجل هو من يخاف فوات الشيء.

أنت، مثلاً، الحافلة ميعادها الساعة السادسة، وبينك وبينها ثلاث دقائق، فتجري… لماذا تجري؟ لأنك تخاف فوات الموعد.

فالعجول هو الذي يخاف فوات الشيء.

الله تعالى لا يفوته شيء، فهو حليم لا يعجل.

يعصي من يعصي من عباده ويحلم عليهم، ويمهلهم، ويعطيهم، ويقيم عليهم الحجة، ويرسل إليهم الرسل.

فرعون وقف في قومه يقول: (أنا ربكم الأعلى) [النازعات: 24]

هذه جريمة كبرى! جريمة شخص وقف وقال لله: أنا أنازعك في ربوبيتك.

وزاد في غروره فقال: (ما علمت لكم من إله غيري) [القصص: 38]

وعلى الرغم من هذا، لما أرسل الله موسى وهارون نبييه الكريمين، قال لهما: (فقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى) [طه: 44]

يا الله، يا الله، ما أحلمك! ما أجلك وأعظمك … لعلّه يتذكر أو يخشى

وكان الإمام الشافعي إذا قرأ هذه الآية أخذته رقة ويقول: يا رب، هذا قولك لمن قال: أنا ربكم الأعلى، فما قولك لمن يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى؟!

ففعل فرعون ما فعل من العلو والطغيان، وسفك الدماء، وادعاء الربوبية، والصد عن سبيل الله، ومعاداة الله ورسوله ونبييه موسى وهارون، وعلى الرغم من هذا قال الله لنبييه: فقولا له قولًا لينًا سبحان الله!

ومع هذا، إن آمن الكافر فإن الله تعالى يبدّل سيئاته حسنات ويغفر له ما قد سلف.

وإن تاب العاصي، كذلك، يبدّل الله سيئاته حسنات ويغفر له ما قد سلف.

فهو سبحانه وتعالى رحمته سبقت غضبه -جل وعلا-

فجعل الرحمة هي الغالبة، وجعل الرحمة هي السابقة.

فلا يغضب الله عز وجل إلا بعد الإمهال، وبعد الإنذار، وبعد البيان، ثم إذا جاء عقابه كان عقابًا أليمًا شديدًا.

وهذا الأمر فتح الباب لكل من أساء وعصى أن يتوب إلى الله عز وجل.

والله تعالى يقول: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا) [الزمر: 53]

ففتح الباب لجميع العصاة… كل من أساء، الباب مفتوح للتوبة… سبحان الله العظيم!

وكان عمر بن عبد العزيز إذا قرأ الآية: (ورحمتي وسعت كل شيء) [الأعراف: 156] يقول: اللهم إن لم أكن أهلًا لبلوغ رحمتك، فإن رحمتك أهل لأن تبلغني فأنا شيء، ورحمتك وسعت كل شيء.

ولذلك، سبحان الله، بعض الشعراء اقتبس هذا المعنى في بيتين من الشعر فقال:

أنا خاطئ أنا مذنب أنا عاصي       هو غافر هو راحم هو كافي

قابلتهن ثلاثة بثلاثة           ولتغلبن أوصافه أوصافي

أنا عبد خاطئ، عندي معاصٍ، وعندي تقصير، وعندي ذنوب هذه صفاتي، وهو جل وعلا غافر، راحم، كافٍ، قابلتهن ثلاثة بثلاثة، ولتغلبن أوصافه أوصافي، فذنوبي بجانب عفو الله لا شيء، وأنا إذا غمرتني رحمة الله مع عصياني، فإن الله يتوب عليّ ويرحمني، سبحانه وتعالى.

أصحاب الكهف:

نحن نقرأ سورة الكهف كل جمعة، أين ناموا؟

الإنسان فينا لو سافر ونام في فندق خمس نجوم، لأنه مكان غريب قد لا يأتيه النوم في الليلة الأولى؛ كثير من الناس كذلك.

رغم أنك نائم في تكييف، في أمان، في فرش جميل، في رائحة طيبة، في كل مقومات الراحة موجودة، لكن لا يأتيك النوم.

لماذا؟ لأنك غريب، والإنسان بطبيعته إذا كان غريبًا قد لا يستطيع النوم بسهولة.

انظر لأصحاب الكهف؛ مهددون بالقتل، دخلوا الكهف مضطرين، لأن النهار طلع عليهم وهم يهربون من المدينة، لأن الملك توعدهم بالقتل.

فدخلوا من باب أن ينجوا بأنفسهم الليلة المقبلة ويكملوا المسير بعيدًا عن المدينة الظالمة.

الكهف عبارة عن صخور في الجبل، ظلمة، رطوبة، حشرات، ديدان، حيات، عقارب، كل ما تتخيله، وعندهم ما عندهم من الخوف من الملك الظالم.

وعلى الرغم من هذا، لم يناموا ساعة ولا ساعتين!! بل ناموا 309 سنوات! سبحان الله! والله، هذا من آيات الله.

يا إخواني، الخائف صعب أن ينام.

المستوحش صعب أن ينام.

النوم نفسه على الصخر، في مكان غير مهيأ لمعالم حياة صعبة، كيف تنام؟

ولكنهم ناموا نومًا عميقًا هادئًا. أطول نومة في تاريخ الإنسانية كلها، 309 سنوات.

ولما آووا إلى الكهف قالوا: (ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا) [الكهف: 10]

وفي نفس سياق الآيات، تقرأ: (فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته) [الكهف: 16]

لما ينزل الله عليك الرحمة فلا تستوحش، ولا تفزع، ولا تخاف… فناموا نومًا عميقًا

النعاس بغزوة أحد:

هذا يذكرنا بالنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في غزوة أحد، لما اشتد الأمر جدًا، ماذا حدث؟

ألقى الله عليهم النعاس… ليس نعاسًا يعني النوم العميق، كلا، بل هو الغفلة اليسيرة لتهدأ نفوسهم.

الموت والقتل أمام أعينهم وتغفو أعينهم …سبحان الله!!

ربنا سبحانه وتعالى قال في سورة آل عمران: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) [آل عمران: 154]

ليؤمنهم، وليهدأوا ويسكنوا، الموت أمامهم وهذا شيء يجعل الإنسان لا يستطيع التفكير فضلا عن النوم.

الانتكاسة التي حصلت في غزوة أحد، والإشاعة أن الرسول قُتل، والضغط الشديد، كل هذا سبب ارتباكًا كبيرًا جدًا.

فرب العالمين جل جلاله ينزل على المؤمنين نعاس الأمنة، هذه رحمة من الله سبحانه وتعالى.

ولذلك كان ابن مسعود يقول: النعاس في القتال من علامات المؤمنين، والنعاس في الصلاة من علامات المنافقين وقرأ قول الله تعالى: (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى) [النساء: 142] فسبحان الله العظيم!

والكلام عن رحمة الله يطول، لكن الخلاصة، أننا نتعامل مع رب رحيم، بل هو أرحم الراحمين.

رحمته سبقت غضبه

فهو حليم لا يعجل بالعقوبة

وهو لا يعجل بالعقوبة إلا بعد إقامة الحجة، والإنذار، والإعذار، والإمهال، فإذا أخذ من يأخذ، كان أخذه أليمًا شديدًا.

 

نسأل الله تعالى أن ينشر لنا من رحمته،

وأن يهيئ لنا من أمرنا مرفقًا،

وأن يغمرنا بواسع فضله ورحمته ولطفه وفيض كرمه

اللهم آمين

 


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 9 يناير, 2025 عدد الزوار : 13996 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين