فقه الصلاة : 22-حكم القنوت في الفرائض

تاريخ الإضافة 8 يونيو, 2023 الزيارات : 5909

فقه الصلاة : 22-حكم القنوت في الفرائض

ماهو القنوت :

القنوت: هو الدعاء والطاعة ومنه قوله تعالى : (والقانتين والقانتات)  ويطلق على السكوت ومنه قوله تعالى (وقوموا لله قانتين) أي لا يكلم بعضكم بعضا في الصلاة ، ويطلق على طول القيام في الصلاة وفي الحديث (أفضل الصلاة طول القنوت) ،وقنت الرجل : أي دعا .

القنوت في الصلوات الخمس:

يشرع القنوت جهرا في الصلوات الخمس عند النوازل (النازلة : ” هي الشدائد والمصائب كالحروب والكوارث)، فعن ابن عباس قال : قنت الرسول صلى الله عليه وسلم شهرا متتابعا ، في الظهر والعصر ، والمغرب ، والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة : يدعو عليهم ، على حي من بني سليم وعلى رعل وذكوان وعصية ، ويؤمن من خلفه . رواه أبو داود

من هم رعل وذكوان وعصية ؟ هؤلاء قوم غدروا بسبعين من الصحابة ، ولهم قصة تعرف بالسيرة بحادثة بئر معونة .

مأساة بئر معونة

قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر صفر عام 4هـ ، رجلٌ من بني عامر هو مُلاعِب الأسِنَّة أبو براء عامر بن مالك، وقدَّم هديَّةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فلم يُسلِم، وقال: يا محمد، لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك، فإني أرجو أن يستجيبوا لك.

فقال: “إِنِّي أَخَافُ عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ”. فقال أبو براء: أنا جارٌ لهم.(يعني هم في جواري وحمايتي)

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو من بني ساعدة في سبعين من خيرة الصحابة، وكانوا يُعرفون بالقرَّاء، يقرءون القرآن ويتدارسونه ليل نهار، منهم حرام بن ملحان، وعامر بن فهيرة، فنزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر، وحَرَّة بني سُليم، وبعثوا حَرَام بن مِلْحان برسالة من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل يدعوه إلى الإسلام ؛ وعامر بن الطفيل هو ابن أخي عامر بن مالك ، وكان عامر بن الطفيل رجلاً شريرًا غادرًا، فقتل الصحابي الجليل حرام بن ملحان؛ حيث أوصى أحد حرَّاسه أن يأتي من خلفه ويطعنه في ظهره، رغم أن الرسل لا تُقتل، فطعنه الحارس بحربة كبيرة من خلفه فخرجت من بطنه، فلما رأى حرام  ذلك، أخذ الدم الذي يسيل من جسده ويدهن به وجهه وهو يقول: “فزتُ وربِّ الكعبة”، وكان الذي قتل حرام  هو جبار بن سلمى، فقد أخذ يسأل عن قول الصحابي: “فزتُ ورب الكعبة”، فقال: ما فاز، أوَلستُ قد قتلته؟ فقالوا له: إنها الشهادة عند المسلمين ،وكان ذلك سببًا في إسلامه . فذهب إلى المدينة ودخل في الإسلام .

ثم إن عامر بن الطفيل الغادر استعدى عليهم بني عامر، فأبوا لجوار أبي براء عامر بن مالك إياهم، فاستعدى بني سُليم فنهضت منهم عُصيَّة ورِعل وذَكوان، فجاؤوا حتى أحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد فقد أصيب بجروحٍ وظنوه قد قتل، ولكنه عاش حتى شهد الخندق في العام الخامس، ولقي ربه شهيدًا.

وقد تأثر النبي صلى الله عليه وسلم لمقتلهم حتى قال أنس رضي الله عنه: “فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَدَ على شيء ما وجد عليهم”؛ فقد كان عددهم يُوازِي عدد قتلى أحد، إضافة إلى أنهم من القرَّاء العبَّاد، وقد قتلوا غدرًا وغيلة؛ ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قَتَلَتهم شهرًا كاملاً؛ كما جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وفيه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه خبرُ مقتل أصحابه وغدر بني سليم بهم قنت شهرًا يدعو في الصبح على أحياءٍ من أحياء العرب، على رعْل وذكوانَ وعُصَّيه وبني لحيان”.
 
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا مُتتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو عليهم، على حي من بني سليم، على رعل وذكوان وعصيَّة، ويؤمِّن مَنْ خَلْفَه”؛ رواه الإمام أحمد
ومن هنا أخذ العُلماء من ذلك مشروعية القنوتِ في الصلوات الخمس في النازلة العظيمة تنزل بالمسلمين

وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع ، فربما قال ، إذا قال سمع الله لمن حمده : ربنا ولك الحمد : ( اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، والمستضعفين من المؤمنين . اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) قال يجهر بذلك ويقولها في بعض صلاته ، وفي صلاة الفجر ( اللهم ألعن فلانا وفلانا ) حيين من أحياء العرب حتى أنزل الله تعالى : ( ليس لك من الأمر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) رواه أحمد والبخاري .

ما قصة عياش والوليد وسلمة رضي الله عنهم ؟ 

عياش بن أبي ربيعة : صحابي جليل من قبيلة بني مخزوم ، وأخوه لأمه أبو جهل بن هشام، وقد سمع عياش بدعوة الإسلام فأسلم مبكراً قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى دار الأرقم، وكان بخلاف أخيه أبي جهل يدعو إلى الإسلام ويستمع إلى القرآن الكريم، ويقدم ماله في سبيل الله، وقد استجاب لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى أرض الحبشة، ثم عاد إلى مكة حتى أمر الرسول بالهجرة إلى المدينة، فخرج عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة حتى قدما المدينة، وأحست قريش بفرار عياش، وأخذت الألسنة تتناول أبا جهل أيدعي أنه عدو المسلمين، بينما أقرب الناس إليه يتابع محمداً فيما جاء به، ويفر إلى يثرب، فلم يستطع أبو جهل أن يتحمل، وصمم على الذهاب إلى المدينة لإحضار أخيه.

في جنح الظلام كانت مطية أبي جهل وأخيه الحارث بن هشام تسابق الريح إلى المدينة، والتقى الأخوة الثلاثة، وقال أبو جهل: يا عياش لماذا فعلت هذا وخرجت من مكة خلسة، أكنت تخاف أحداً؟ ومن هذا الذي يستطيع أن ينال منك؟، لقد جئناك لأن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تشاهدك، فرق لذلك وأثر في قلبه ما عزمت عليه أمه، فرق لها فقال عمر له: يا عياش إنه والله إنْ يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت. فقال: أبر قسم أمي، ولي هنالك مال فآخذه. قال عمر: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا فلك نصف مالي ولا تذهب معهم. قال: فأبى علي إلا أن يخرج معهما فلما أبى إلا ذلك قلت له: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.فخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا ابن أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى. قال: فأناخ وأناخا؛ ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة. قال ابن إسحاق: فحدثني به بعض آل عياش بن أبي ربيعة: أنهما حين دخلا به مكة دخلا به نهارا موثقا ثم قالا: يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا.

حتى كان يوماً والرسول بين صحابته بالمدينة، قال: من لي بعياش وهشام بن العاص؟ فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك بهما يا رسول الله، فتبعهما حتى عرف موضعهما وكانا محبوسين في بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور عليهما وقطع القيود وحملهما على بعيره، حتى قدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

وأما ( سلمة بن هشام ) فهو من الصحابة وفضلائهم، وهاجر إلى الحبشة ومُنِعَ من الهجرة إلى المدينة، وعُذب في الله – عز وجل – فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو له في صلاته في القنوت له ولغيره من المستضعفين. ولم يشهد بدرًا لذلك. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قنت في الركعة من صلاة الصبح قال: “اللهم أنجِ الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين بمكة”. وهؤلاء الثلاثة من بني مخزوم، فأما الوليد بن الوليد فهو أخو خالد، وأما عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة فهو ابن عم خالد ، وهاجر سلمة بن هشام إلى المدينة بعد الخندق.

وقوله : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر ) أصل الوطأة الدوس بالقدم ، ومن وطأ الشيء برجله بشدة فقد استقصى في إهلاكه وإهانته ، فيكون المعنى : اجعل بأسك وعذابك الشديد عليهم.

وقوله : ( اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) هي المشار إليها في قوله تعالى من سورة يوسف : ” ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد ” فكانت عليهم سبعة أعوام عمهم فيها القحط ونقص الطعام ، فيكون المعنى هنا :هو الدعاء عليه بالقحط العظيم

والمشروع أن يكون القنوت يسيراً . فيبتعد عن الإطالة لحديث أَنَسٍ رضي الله عنه لما سئل : هَلْ قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ؟ قَالَ : ” نَعَمْ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا ” أخرجه مسلم .

وقد ظهر لنا من الأحاديث السابقة أن قنوت النبي صلى الله عليه وسلم كان جُملاً قليلة . والسعيد من وفق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
وينبغي أيضا الاقتصار في الدعاء على النازلة ؛ فلا يزيد في قنوته أدعية أخرى ، وإنما يقتصر على النازلة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
والذي يظهر من الأدلة السابقة وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرر الدعاء نفسه في قنوته حينما قنت شهراً ، وربما كان بينها اختلاف يسير .

ونستنبط من الحديث أن القنوت مشروع عند وجود سببه ( وهو النازلة بالمسلمين ) فإذا زال السبب ترك القنوت ، أما قنوت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً فليس مقصوداً منه التحديد ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك القنوت لما زال سببه بقدوم من قنت لهم ، كما يدل على ذلك حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه : ” أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ بَعْدَ الرَّكْعَةِ فِي صَلَاةٍ شَهْرًا إِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ الدُّعَاءَ بَعْدُ فَقُلْتُ أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ قَالَ فَقِيلَ وَمَا تُرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا  “. أخرجه مسلم .
قال ابن القيم : ” إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم ، وللدعاء على آخرين ، ثم تركه لما قدم من دعا لهم ، وتخلصوا من الأسر ، وأسلم من دعا عليهم و جاؤوا تائبين ، فكان قنوته لعارض ، فلما زال ترك القنوت “. (زاد المعاد 1/272 ) .

وليس لقنوت النوازل صيغة معينة ، وإنما يدعو في كل نازلة بما يناسب تلك النازلة أما الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن : ” اللهم اهدنا فيمن هديت .. الخ ” فإنما هو في قنوت الوتر ، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قنوت النوازل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ” فالسنة أن يقنت عند النازلة ويدعو فيها بما يناسب القوم المحاربين ” . (مجموع الفتاوى 21/155 ) .
وقال أيضاً : ” وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة . وإذا سمى من يدعو لهم من المؤمنين ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين كان ذلك حسناً “.( مجموع الفتاوى 22/271 ) .
و قال أيضاً : ” عمر رضي الله عنه قنت لما نزل بالمسلمين من النازلة ، ودعا في قنوته دعاءً يناسب تلك النازلة ، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قنت أولاً على قبائل بني سليم الذين قتلوا القراء ، دعا عليهم بالذي يناسب مقصوده ، ثم لما قنت يدعو للمستضعفين من أصحابه صلى الله عليه وسلم دعا بدعاء يناسب مقصوده . فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تدل على شيئين :
أحدهما : أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه ، ليس بسنة دائمة في الصلاة .
الثاني : أن الدعاء فيه ليس دعاء راتباً ، بل يدعو في كل قنوت بالذي يناسبه ، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم أولاً وثانياً ، وكما دعا عمر رضي الله عنه لما حارب من حاربه في الفتنة ، فقنت ودعا بدعاء يناسب مقصوده ” ( مجموع الفتاوى 23/109 ) .

فوائد :
قال النووي : ” وحديث قنوت النبي صلى الله عليه وسلم حين قُتل القراء رضي الله عنهم يقتضي أنه كان يجهر به في جميع الصلوات ، هذا كلام الرافعي . والصحيح أو الصواب استحباب الجهر ” . ( المجموع 3/482 ) .

وقال ابن حجر : ” وظهر لي أن الحكمة في جعل قنوت النازلة في الاعتدال دون السجود مع أن السجود مظنة الإجابة كما ثبت ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ) وثبوت الأمر بالدعاء فيه أن المطلوب من قنوت النازلة أن يشارك المأموم الإمام في الدعاء ولو بالتأمين ،ومن ثمَّ اتفقوا على أنه يجهر به ” (فتح الباري 2/570 ) .

وإتماما للفائدة فقد اختلف الفقهاء في هذا القنوت على ثلاثة أقوال:
الأول: وهو مذهب الحنفية، أن الإمام يقنت في الصلاة الجهرية عند وقوع النازلة

والثاني ما ذهب إليه المالكية : ألا يقنت في غير الصبح مطلقاً، لكن لو قنت لم تبطل الصلاة.
والثالث: ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة وهو مشروعية القنوت للنازلة في جميع الصلوات المكتوبة .
والصحيح من مذهب الحنابلة أن القنوت يكون في جميع الصلوات المكتوبة إلا الجمعة.

والراجح القول الثالث لما سقناه من أدلة .

القنوت في صلاة الصبح :

ليس في السنة – مطلقا – ما يدل على تخصيص صلاة الفجر بالقنوت دون سائر الصلوات، وقد استدل من جوزه – كما هو مذهب الإمامين مالك والشافعي رحمهما الله – بأدلة منها الصحيح ومنها الضعيف ، والصحيح الذي احتجوا به، فعله النبي صلى الله عليه وسلم لعارض كنازلة أو مهمة و نحوهما ثم تركه واستقر الأمر على ذلك كما سيأتي بيانه بإذن الله ،وأما الضعيف فلا حاجة لنا إلى ذكره ، فالأحكام لا تبنى على الضعيف من الأحاديث كما هو معلوم .

استدل القائلون بالقنوت في الفجر بأدلة ، منها ما رواه الإمام مسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في صلاة الفجر والمغرب .

وهذا الحديث من أصح الأدلة التي احتج بها من جوز القنوت في الفجر على معنى الدعاء المعروف.

ويجاب : أن هذا الحديث ليس فيه حجة ، وذلك من وجهين :

الوجه الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الفجر والمغرب شهرا ثم ترك القنوت ، وكان سبب قنوته أنه كان يدعو على حي من أحياء المشركين .

ودليله ذلك : ما رواه البخاري من حديث أنس بن مالك – رضي الله – عنه قال : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا بعد الركوع في صلاة الصبح يدعو على رعل وذكوان ويقول عصية عصت الله ورسوله

وكذا رواه ابن ماجة في سننه من حديث أنس ، ان رسول الله كان يقنت في الصبح ، يدعو على حي من أحياء العرب شهرا ثم ترك .

و رواه الخطيب أيضا من طريق قيس بن الربيع عن عاصم بن سليمان قال : قلنا لأنس بن مالك: إن أقواما يزعمون إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت قال : كذبوا إنما قنت شهرا واحدا يدعو على حي من أحياء المشركين.

الوجه الثاني : أن هذا الحديث ملزم لمن قال بالقنوت في الفجر أن يقول به أيضا في المغرب وإلا تناقض ، فما بال القنوت اختص بالفجر دون المغرب وهما في سياق واحد ؟؟

يقول ابن القيم رحمه الله [ زاد المعاد 1/269] : فإن قلتم قنوت المغرب منسوخ ، قال لكم منازعوكم من أهل الكوفة وكذلك قنوت الفجر سواء ، ولا تأتون بحجة على نسخ قنوت المغرب إلا كانت دليلا على نسخ قنوت الفجر سواء ولا يمكنكم أبدا أن تقيموا دليلا على نسخ قنوت المغرب وإحكام قنوت الفجر ،فإن قلتم : قنوت المغرب كان قنوتا للنوازل ، لا قنوتا راتبا ، قال منازعوكم من أهل الحديث : نعم كذلك هو ، وكذلك قنوت الفجر سواء ، وما الفرق ؟ قالوا : ويدل على أن قنوت الفجر كان قنوت نازلة ،لا قنوتا راتبا أن أنسا نفسه اخبر بذلك وعمدتكم في القنوت الراتب إنما هو أنس ، وأنس أخبر أنه كان قنوت نازلة ثم تركه ، ففي” الصحيحين” عن أنس قال : قنت رسول الله شهرا يدعو على حي من أحياء العرب ثم تركه . أهـ كلام ابن القيم رحمه الله.

بل قد ثبت صراحة ما يدل على عدم اشتهار القنوت إلا في أيام النوازل .

فقد روى الإمام الترمذي عن أبي مالك الأشجعي قال : قلت لأبي يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي هاهنا في الكوفة نحوا من خمس سنين ، أكانوا يقنتون ، قال : أي بني محدث .

بل رواه النسائي بلفظ : صليت خلف رسول الله فلم يقنت وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت وصليت خلف عمر فلم يقنت وصليت خلف عثمان فلم يقنت وصليت خلف علي فلم يقنت، ثم قال : يا بني إنها بدعة .

قال السندي في حاشيته على النسائي [ 1/ 549 ] معلقا على هذا الأثر : وهذا يدل على أن القنوت في الصبح كان أياما ثم نسخ أو انه كان مخصوصا بأيام المهام والثاني انسب أهــ

لذلك قال الشوكاني – رحمه الله – ( نيل الأوطار 1/ 376)

إذا تقرر ذلك علمت أن الحق ما ذهب إليه من قال أن القنوت مختص بالنوازل وانه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تخص به صلاة دون صلاة وقد ورد ما يدل على هذا الاختصاص من حديث أنس عند ابن خزيمة، وقد تقدم، ومن حديث أبى هريرة عند ابن حبان بلفظ: كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحد أو يدعون على أحد، وأصله في البخاري. أهـ

ويقول شيخ الإسلام رحمه الله بعد عرضه الخلاف في المسألة .. ( 22/269)

والصواب هو القول الثالث الذي عليه جمهور أهل الحديث وكثير من أئمة الحجاز وهو الذي ثبت في الصحيحين وغيرهما ، أنه صلى الله عليه وسلم قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم ترك هذا القنوت ، ثم أنه بعد ذلك بمدة بعد خيبر ، وبعد إسلام أبي هريرة قنت ، وكان يقول في قنوته : اللهم انج الوليد .. فلو كان قد نسخ القنوت ، لم يقنت هذه المرة الثانية ، وقد ثبت في السنة أنه كان يقنت في الصلوات الخمس وأكثر قنوته كان في الفجر ، ولم يكن يداوم على القنوت لا في الفجر ولا غيرها بل ثبت في الصحيحين عن أنس أنه قال : ” لم يقنت بعد الركوع إلا شهرا ” فالحديث الذي رواه الحاكم وغيره من حديث الربيع ابن أنس أنه قال: “ما زال يقنت حتى فارق الدنيا” إنما قاله في سياقه القنوت قبل الركوع، وهذا الحديث لو عارض الحديث الصحيح، فكيف وهو لم يعارضه. وإنما معناه أنه كان يطيل القيام في الفجر دائما، قبل الركوع.

وأما انه كان يدعو في الفجر دائما قبل الركوع أو بعده بدعاء يسمع منه أولا يسمع فهذا باطل قطعا، وكل من تأمل الأحاديث الصحيحة علم هذا بالضرورة، وعلم أن هذا لو كان واقعا لنقله الصحابة والتابعون، ولما أهملوا قنوته الراتب المشروع لنا، مع أنهم نقلوا قنوته الذي لا يشرع بعينه، وإنما يشرع نظيره؛ فان دعاءه لأولئك المعينين، وعلى أولئك المعينين ليس بمشروع باتفاق المسلمين؛ بل إنما يشرع نظيره.

فيشرع أن يقنت عند النوازل يدعو للمؤمنين، ويدعو على الكفار في الفجر، وفي غيرها من الصلوات، وهكذا كان عمر يقنت لما حارب النصارى بدعائه الذي فيه: (اللهم العن كفرة أهل الكتاب) إلى آخره. أهـ

وحديث الربيع بن أنس الذي ذكره شيخ الإسلام ، هو عمدة من يقول بهذا القنوت،والحق أنه ضعيف لا يثبت ، فأكثر المحدثين على تضعيفه ، ففي سنده أبو جعفر الرازي ، وقد ضعفه الأئمة قال ابن المديني: يخلط، وقال الإمام أحمد: ليس بالقوي، وقال ابن معين – رحمه الله – : ثقة ولكنه يخطأ، وقال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير، وقد حكم الشيخ الألباني – رحمه الله تعالى – على الحديث بالنكارة كما في الضعيفة (3/384) برقم (1238) ، وانظر للفائدة زاد المعاد (1/267)

فإذا تبين ضعف الحديث علمنا ضعف ما ذهب إليه الإمام النووي رحمه الله – ” من أن المراد بترك القنوت في الأحاديث هو ترك الدعاء على المشركين ، لا أصل القنوت ، والذي ألجأ الإمام النووي – رحمه الله – إلى هذا القول هو ثبوت الحديث الآنف الذكر عنده ، فأراد أن يجمع بين شمل الأدلة ، ويوفق بين النصوص .

ومما يقال هنا أيضا – وهو مقرر في علم الأصول – أن فعل الصحابي أو قوله إذا خالف فعل أو قول النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعتبر حجة مطلقا ، فليس قول أحد أو فعله بالمعتبر إذا خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد علمت أخي القاريء أن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم هو القنوت في النوازل والمهام فقط ، ودون أن يخص صلاة معينة بالقنوت .

ملحوظة : القنوت عند المالكية يكون سرا قبل الركوع أو بعد الرفع منه ، وإنما ندب الإسرار به لأنه دعاء وهو يندب الإسرار به حذرا من الرياء ، و استدلوا بقوله تعالى : “ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين”  سورة الأعراف 55 ، وهو خطاب لنا معاشر المسلمين .
والإسرار هو قول الحسن من التابعين فقد قال يونس بن عبيد: كان الحسن يرى أن يدعو الإمام في القنوت ويؤمن من خلفه من غير رفع صوت، وتلا يونس:” إذ نادى ربه نداء خفيا” 
لكن إسرار أئمة المالكية يختلف عن إسرار الحسن فقد كان يسمعه المأمومون ويؤمنون خلفه لكن بصوت منخفض كما في الأثر السابق .

ما حكم الصلاة خلف إمام يقنت في صلاة الفجر؟

من صلى خلف إمام يقنت في الفجر بصفة دائمة فعليه أن يتابع الإمام ويؤمن على دعائه ، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : (إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه)

قال ابن القيم: فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء (الذين منعوه مطلقا) وبين من استحبه عند النوازل وغيرها وهم أسعد بالحديث من الطائفتين فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله ويتركونه حيث تركه فيقتدون به فى فعله وتركه

ويقولون: فعله سنة وتركه سنة ، ومع هذا فلا ينكرون على من داوم عليه ولا يكرهون فعله ولا يرونه بدعة ولا فاعله مخالفا للسنة كما لا ينكرون على من أنكره عند النوازل ولا يرون تركه بدعة ولا تاركه مخالفا للسنة، بل من قنت فقد أحسن ومن تركه فقد أحسن.انتهى كلامه

لكن لا يعنى ذلك تبديع المخالف ولا ترك الصلاة خلفه فهذا من الجهل بدين الله ورحم الله الإمام أحمد حين سئل عن قوم يقنتون بالبصرة ، كيف ترى الصلاة خلف من يقنت ، قال:قد كان المسلمون يصلون خلف من يقنت وخلف من لا يقنت.

تتمة بذكر ما جاء في الموسوعة الفقهية :

( القنوت في الصبح ) :

3 – اختلف الفقهاء في حكم القنوت في صلاة الصبح على أربعة أقوال : ( الأول ) : للحنفية والحنابلة والثوري : وهو أن القنوت في الصبح غير مشروع ، وهو مروي عن ابن عباس ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وأبي الدرداء ، رضي الله عنهم ، وقال أبو حنيفة : القنوت في الفجر بدعة ، وقال الحنابلة : يكره . واستدلوا على ذلك : بما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم { قنت في صلاة الفجر شهرا يدعو في قنوته على أحياء من أحياء العرب ، ثم تركه } ، قالوا : فكان منسوخا ، إذ الترك دليل النسخ ، وبما روي عن أبي مالك سعد بن طارق الأشجعي قال : قلت لأبي : يا أبت ، إنك قد صليت خلف رسول الله ، وأبي بكر ، وعثمان ، وعلي هاهنا بالكوفة نحوا من خمس سنين ، أكانوا يقنتون ؟ قال : أي بني ، محدث . وفي لفظ : يا بني إنها بدعة .

قال الترمذي : والعمل عليه عند أكثر أهل العلم .

( والثاني ) للمالكية على المشهور :

وهو أن القنوت في الصبح مستحب وفضيلة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يقنت في صلاة الصبح } فيما روى أبو هريرة وخفاف بن إيماء والبراء وأنس بن مالك .

قال أنس : { ما زال رسول الله يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا } ،

وقال علي بن زياد بوجوب القنوت في الصبح ، فمن تركه فسدت صلاته .

ويجوز قبل الركوع وبعده في الركعة الثانية ، غير أن المندوب الأفضل كونه قبل الركوع عقب القراءة بلا تكبيرة قبله ، وذلك لما فيه من الرفق بالمسبوق ، وعدم الفصل بينه وبين ركني الصلاة ولأنه الذي استقر عليه عمل عمر رضي الله عنه بحضور الصحابة ، قال القاضي عبد الوهاب البغدادي ” وروي عن أبي رجا العطاردي قال : كان القنوت بعد الركوع ، فصيره عمر قبله ليدرك المدرك وروي أن المهاجرين والأنصار سألوه عثمان ، فجعله قبل الركوع ، لأن في ذلك فائدة لا توجد فيما بعده ، وهي أن القيام يمتد فيلحق المفاوت ، ولأن في القنوت ضربا من تطويل القيام ، وما قبل الركوع أولى بذلك ، لا سيما في الفجر . ويندب كونه بلفظ : اللهم إنا نستعينك ، ونستغفرك ، ونؤمن بك ، ونتوكل عليك ، ونخضع لك ، ونخلع ونترك من يكفرك ، اللهم إياك نعبد ، ولك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ، ونخاف عذابك ، إن عذابك الجد بالكفار ملحق . ومن ترك القنوت عمدا أو سهوا فلا شيء عليه ، فإن سجد لتركه قبل السلام بطلت صلاته . وليس لدعاء القنوت حد محدود . ولا يرفع يديه في دعاء القنوت ، كما لا يرفع في التأمين ، ولا في دعاء التشهد . والإسرار به هو المستحب في حق الإمام والمأموم والمنفرد ، لأنه دعاء ، فينبغي الإسرار به حذرا من الرياء . والمسبوق إذا أدرك الركعة الثانية لا يقنت في القضاء ، لأنه إنما يقضي الركعة الأولى ولم يكن فيها قنوت ، قال ابن رشد : إن أدرك قبل ركوع الثانية لم يقنت في قضائه ، سواء أدرك قنوت الإمام أم لا .

( الثالث ) للشافعية :

وهو أن القنوت في صلاة الصبح سنة ، قال النووي : اعلم أن القنوت مشروع عندنا في الصبح ، وهو سنة متأكدة ، وذلك لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه : { ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا } .

قالوا : ولو تركه لم تبطل صلاته ، لكن يسجد للسهو ، سواء تركه عمدا أو سهوا . أما محله ، فبعد الرفع من الركوع في الركعة الثانية من الصبح ، فلو قنت قبل الركوع لم يحسب له على الأصح ، وعليه أن يعيده بعد الركوع ثم يسجد للسهو .


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 1 فبراير, 2024 عدد الزوار : 278 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم