فقه الصلاة : 37- أعذار التخلف عن الجماعة
يرخص التخلف عن الجماعة عند حدوث حالة من الحالات الآتية :
1- المرض:
وهل يرخص في ذلك للطبيب ؟
2 – البرد أو المطر :
فعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر المنادي فينادي بالصلاة . ينادي : ( صلوا في رحالكم ، في الليلة الباردة المطيرة في السفر ) رواه الشيخان .
وعن جابر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمطرنا فقال ( ليصل من شاء منكم في رحله ) أي في منزله ، رواه أحمد ومسلم
وعن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير إذا قلت : أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة قل : صلوا في بيوتكم قال : فكأن الناس استنكروا ذلك . فقال : أتعجبون من ذا ؟ فقد فعل ذا من هو خير مني : النبي صلى الله عليه وسلم . إن الجماعة عزمة ، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض . رواه الشيخان ، ولمسلم : أن ابن عباس أمر مؤذنه في يوم جمعة في يوم مطير .
ومثل البرد الحر الشديد والظلمة والخوف من ظالم . قال ابن بطال : أجمع العلماء على أن التخلف عن الجماعة في شدة المطر والظلمة والريح وما أشبه ذلك ، مباح .
3 – حضور الطعام :
لحديث ابن عمر قال ، قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا كان أحدكم على الطعام فلا يعجل حتى يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصلاة ) رواه البخاري .
4 – مدافعة الأخبثين :
فعن عائشة قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا صلاة بحضرة طعام ، ولا وهو يدافع الأخبثين ) أي البول والغائط ، رواه أحمد ومسلم وأبو داود .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ ( هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ ؟ ) قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : ( فَأَجِبْ ) . رواه مسلم
وعَنْ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ شَاسِعُ الدَّارِ وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَائِمُنِي فَهَلْ لِي رُخْصَةٌ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي ؟ قَالَ : ( هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ ) قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ ( لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً )صححه الألباني في ” صحيح أبي داود ” .
وفي رواية عند أحمد قال ابن أم مكتوم : إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ نَخْلًا وَشَجَرًا وَلَا أَقْدِرُ عَلَى قَائِدٍ كُلَّ سَاعَةٍ أَيَسَعُنِي أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي ؟ قَالَ ( أَتَسْمَعُ الْإِقَامَةَ ؟ ) قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ ( فَأْتِهَا ) .رواه أحمد.
فهذه الروايات جمعت أعذاراً كثيرة لابن أم مكتوم ولم تكن مانعة من إيجاب صلاة الجماعة عليه ، وهذه الأعذار هي :
فقد البصر ، عدم وجود قائد يقوده للمسجد أو وجود غير ملائم ، بُعد الدار عن المسجد ، وجود حوائل بينه وبين المسجد كالشجر والنخيل ، وجود الهوام والسباع .
ووجود هذه الأعذار مع ظاهر الأمر بصلاة الجماعة في المسجد جعلت بعض أهل العلم لا يرى ما يدل عليه الحديث من وجوب حضور ذاك الصحابي جماعة المسجد ؛ لأن الشريعة جاءت بحفظ النفوس ، ولم تجوِّز إلقاء النفس في التهلكة ، حتى قال بعض العلماء إن الحديث لم يقل بظاهره أحد .
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – :وقد أشار الجوزجاني إلى أن حديث ابن أم مكتوم لم يقل أحد بظاهره .
يعني : أن أحدا لم يوجب حضور المسجد على من كان حاله كحال ابن أم مكتوم .” فتح الباري ” لابن رجب ( 2 / 391 ) .
ويمكن حصر الموقف من هذا الحديث بما يأتي :
1. قال بعض العلماء : إن الحديث يدل على وجوب حضور ذاك الصحابي مع تلك الأعذار جماعة المسجد ، لكنه منسوخ بحديث آخر يرفع الوجوب عمن هو أقل منه عذراً ، وهو حديث عتبان بن مالك ، ونصه :عن عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصارِيَّ قَالَ : كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سَالِمٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَإِنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي فَلَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَ فَصَلَّيْتَ فِي بَيْتِي مَكَانًا حَتَّى أَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَ ( أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ) فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ ( أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ ) فَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ .رواه البخاري ومسلم
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – :ومن الناس من أشار إلى نسخ حديث ابن أم مكتوم بحديث عتبان ؛ فإن الأعذار التي ذكرها ابن أم مكتوم يكفي بعضها في سقوط حضور المسجد .” فتح الباري ” لابن رجب ( 2 / 389 ، 390 ) .
2. وقال آخرون : إن ابن أم مكتوم كان طلبه الحصول على أجر الجماعة في المسجد إذا صلَّى في بيته ، لكونه معذوراً بتلك الأعذار ، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا أجر إلا بالحضور .
قال الخَطَّابيُّ – رحمه الله – : وأكثر أصحاب الشَّافعيِّ على أنَّ الجماعة فرضٌ على الكِفاية ، لا على الأعيان ، وتأوّلوا حديث ابن أُمِّ مَكْتُوم على أنَّه لا رخصة لك إن طلبت فضيلة الجماعة ، وأنك لا تحرز أجرها مع التخلف عنها بحال .” معالم السنن ” ( 1 / 292 ) .
3. وقال فريق ثالث : إن الأمر بحضور الصلاة في المسجد بقوله ( أَجِبْ ) لا يُحمل على الوجوب بل على الاستحباب .
قال ابن القيم – رحمه الله – :قال المسقطون لوجوبها : هذا امر استحباب لا أمر إيجاب .” الصلاة وحكم تاركها ” ( ص 144 ) .
4. أن ابن أم مكتوم رضي الله عنه أراد الرخصة للصلاة في البيت ، وعتبان رضي الله عنه أراد أن يتخذ مسجداً في داره ليصلي فيه هو وأهل بيته ومن قرب منهم ، فهو قد انتقل من مسجد إلى مسجد ، وابن أم مكتوم أرد الانتقال إلى بيته ، فافترقا ، وهذا أحسن ما جُمع به بين الحديثين .
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – : ويحتمل أن يكون عتبان جعل موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من بيته مسجداً يؤذن فيه ، ويقيم ، ويصلِّي بجماعة أهل داره ومن قرُب منه ، فتكون صلاته حينئذ في مسجد : إما مسجد جماعة ، أو مسجد بيت يجمع فيه ، وأما ابن أم مكتوم فإنه استأذن في صلاته في بيته منفرداً ، فلم يأذن له ، وهذا أقرب ما جمع به بين الحديثين .
” فتح الباري ” لابن رجب ( 2 / 391 ، 392 ) .
هذه مجمل الموقف من حديث ابن أم مكتوم ، والذي يظهر لنا أن كل ما سبق لا ينهض لرد ظاهر الحديث من إيجاب الجماعة على ابن أم مكتوم رضي الله عنه ، ومن كان مثل حاله ، وأنه ليس في ذلك إلقاء للنفس في التهلكة ، وكل أوامر الشرع لا يُكلَّف بها إلا المستطيع على أدائها ، والمشقة لا تُسقط الواجبات ، بل الذي يسقطها وجود الضرر .
والخلاصة ؟: أنه لا يتصور أحدٌ أن الشريعة تأتي بما فيه إتلاف للنفوس ولا ما فيه ضرر على المكلفين ، وقد عذرت الشريعة المبصرين المكلفين عن الحضور للمسجد لصلاة الجماعة في حال الشدة التي يتضررون بها ، وشرعت لهم الصلاة في بيوتهم ، ويقال في الأذان ” صلوا في رحالكم ” ، وشرعت الصلاة في البيت في المرض والخوف والنعاس الشديد ، فالشريعة يسر كلها ، وقد رُفع الحرج عن أتباعها ، والناس يختلفون في قدراتهم ، فمن استطاع الوصول للمسجد فينبغي عليه فعل ذلك ولو بمشقة ، بحيث لا يهجر المسجد ، ومن يتضرر بمجيئه فيُرفع عنه الحرج وله رخصة أن يصلي في بيته على أن يحرص على الصلاة جماعة .
هل يرخص لحديث الزواج بترك صلاة الجماعة؟
ترك المتزوج صلاة الجماعة أسبوعاً يظنه بعض الناس من السنة ، ولعلهم فهموا ذلك من قول أنس رضي الله عنه : ( من السنة أن يُقيم عند البِكْر سبعاً ( متفق عليه
ولكن ليس معناه كما يفهم هؤلاء أنه يقيم عندها أسبوعاً ولا يخرج من البيت ، ولا يصلي جماعة في المسجد !!
وإنما معناه : إذا تزوج بكراً وكان عنده زوجة غيرها ، فإنه يقسم للبكر سبع ليال ، خالصة لها ثم بعد ذلك يقسم لكل واحدة من زوجاته ليلة .
وقد جاء بيان ذلك عن أنس رضي الله عنه في حديثه المتقدم عند البخاري ومسلم بلفظ : ( مِنْ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَسَمَ ) ، فواضح من هذا اللفظ : أن قصد أنس بأنه يقيم عند البكر سبعاً ، أنه يقسم لها سبع ليال بمفردها ، ثم يقسم لسائر زوجاته .
هل يجوز تأخير الصلاة لحل المشاكل ؟
إذا ذهب المسلم للإصلاح بين شخصين أو جماعتين ، وحضرت الصلاة ، وخشي إن قام للصلاة أن يتفرق الجمع ولا يتم الصلح فلا حرج عليه من تأخير صلاة الجماعة عن الجماعة الأولى ، ثم يصلي جماعةً بعد ذلك أو منفرداً إن لم يتيسر له صلاة الجماعة ، ويكون هذا عذراً لترك صلاة الجماعة أو تأخيرها .
وقد روى البخاري ومسلم عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ ، فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَجَاءَ بِلالٌ فَأَذَّنَ بِلالٌ بِالصَّلاةِ وَلَمْ يَأْتِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَجَاءَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبِسَ وَقَدْ حَضَرَتْ الصَّلاةُ ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، إِنْ شِئْتَ ، فَأَقَامَ الصَّلاةَ فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ … وذكر الحديث .
ثواب من تأخر عن صلاة الجماعة لعذر :
ومن تأخر عن صلاة الجماعة لعذر وهو من المحافظين دائماً على صلاة الجماعة، له أجر وفضل الجماعة لحسن نيته ولعذره؛ لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ”من توضأ فأحسن الوضوء، ثم راح فوجد الناس قد صلوا، أعطاه الله – عز وجل- مثل أجر من صلاها وحضرها، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً“ سنن أبي داود وحسنه الألباني