سورة الضحى
مكيّة، وهي إحدى عشرة آية
تسميتها:
سميت سورة الضحى تسمية لها باسم فاتحتها، حيث أقسم اللَّه بالضحى:
وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس، تنويها بأهمية هذا الوقت.
فضلها:
ثبت عن الإمام الشافعي أنه يسن التكبير بأن يقول «اللَّه أكبر» أو «اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر» عقب قراءة سورة والضحى وخاتمة كل سورة بعدها.
وذكر القراء في مناسبة التكبير: أنه لما تأخر الوحي عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وفتر مدة، ثم جاء الملك، فأوحى إليه: وَالضُّحى، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى السورة بتمامها، كبّر فرحا وسرورا.
قال ابن كثير: ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف.
سورة الضحى
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
سبب النزول: الآية (1) وما بعدها:
أخرج الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة، فقالت: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل اللَّه: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ، وَما قَلى.
وأخرج سعيد بن منصور والفريابي عن جندب قال: أبطأ جبريل على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال المشركون: قد ودّع محمد، فنزلت.
وأخرج الحاكم عن زيد بن أرقم قال: مكث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أياما لا ينزل عليه جبريل، فقالت أم جميل امرأة أبي لهب: ما أرى صاحبك إلا قد ودّعك وقلاك، فأنزل اللَّه: وَالضُّحى.. الآيات.
قال ابن جريج: احتبس عنه الوحي اثني عشر يوما. وقال ابن عباس: خمسة عشر يوما.
والخلاصة: أبطأ جبريل عليه السلام على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال المشركون: قلاه اللَّه وودّعه فنزلت الآية.
التفسير والبيان
“وَالضُّحى” : أي قسما بالضحى: وَالضُّحى :وقت ارتفاع الشمس أول النهار، والمراد به النهار، لمقابلته بالليل.
“وَاللَّيْلِ إِذا سَجى “: سكن وغطى بظلامه الأشياء؛ أقسم أيضا بالليل إذا سكن وغطى بظلمته النهار مثلما يسجّى الرجل بالثوب..
وإنما حلف بالضحى والليل فقط للتنويه بقيمة الزمان الذي يدل عليه مرور النهار والليل.
وخص وقت الضحى بالقسم، لأَنه وقت اجتماع الناس، وكمال أَنسهم بعد الخوف وعدم الاطمئنان في الليل لظلمته وانقطاع الحركة فيه؛ فبشره -سبحانه- بأَنه بعد وحشتك بسبب فترة الوحي يظهر الضحى بنزوله، ويكمل أُنسك وينشرح صدرك.
وذكر الضحى وهو ساعة من النهار، وذكر الليل كله إشارة إلى أن ساعة من النهار في الإنتاج توازي جميع الليل، كما أن محمدا إذا قورن بغيره يوازي جميع الأنبياء.
و جواب القسم “ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى “: ما وَدَّعَكَ : ما قطعك أو فارقك قطع المودّع أو مفارقته.
“وَما قَلى “:ما أبغضك ربك، وما كرهك، كما يزعم بعضهم.
والقلى: شدة الكره، وقد نزل هذا لما قال الكفار عند تأخر الوحي عنه خمسة عشر يوما: إن ربه ودعه وقلاه.
وهذه الواقعة تدل على أن القرآن من عند اللَّه إذ لو كان من عند محمد لما توقف الوحي عنه .
والمعنى : أَي: ما تركك ربك منذ اصطفاك، ولا أَبغضك بعد أن أَحبك واجتباك؛ فأَنت لديه رفيع المكانة جليل القدر.
ماالسر في حذف مفعول الفعل (قلى) ؟
في قوله: (وَدَّعَكَ) ذكر المفعول هنا وهو حرف الكاف ؛ بينما في الفعل (قلى) اقتصر على الفعل وحذف المفعول، الذي هو الكاف، أقوال لأهل التفسير :
1- إنما اختصرها للعلم بها، وليجري على نهج الفواصل التي في السورة: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:3-5]
2- لئلا يخاطبه بما يدل على البغض، فمجرد وضع الضمير مع الفعل لم يرضه الله لنبيه عليه الصلاة والسلام، فما بالك بالفعل نفسه، فهو سبحانه لم يقل: (وما قلاك) مع أنه ينفيها، لكن أراد ألا يتعب قلب نبيه عليه الصلاة والسلام إذا قرن الضمير بالفعل .
3- حذف كاف الخطاب لثبوتها في قوله: (ودعك) فدلت عليها، مثل قول الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ إلى قوله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ [الأحزاب:35]، فقوله: (والذاكرات) أي: والذاكرات لله كثيراً، لكن حذفت للعلم بها.
4- أن الموادعة تشعر بالوفاء والود، يعني: كلمة التوديع مأخوذة من توديع المسافر. مثلاً: الذي يودع المسافر ويخرج معه مسافة هم أحبابه الذين يريدون أن يبقوا معه إلى آخر لحظة ممكنة، حتى يتحرك القطار.
إذاً: التوديع يكون فيه ملاطفة وود ومحبة ، فالموادعة تشعر بالوفاء والود، فمن ثم أبرزت فيها كاف الخطاب (مَا وَدَّعَكَ) يعني: لم تتأت موادعتك وأنت الحبيب والمصطفى المقرب صلى الله عليه وسلم. أما (قلى) ففيها معنى البغض فلم يناسب إبرازها؛ إنعاماً في إبعاد قصده صلى الله عليه وسلم بشيء من هذا المعنى؛ لأنه ما قلاه، كما تقول لعزيز عليك: لقد أكرمتك وما أهنت، ولقد قربتك وما أبعدت، وهذا المثال فيه إمعان في نفي الإهانة ونفي الإبعاد.
ثم بشره بأن مستقبله أفضل من ماضيه، فقال:
“وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى “: فسرت الآخرة بتفسيرين :
الأول : الدار الآخرة خير لك من هذه الدار، وذلك لأن الآخرة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وموضع سوط أحدنا في الجنة خير من الدنيا وما فيها، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
عن ابن مسعود قال: اضطجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم على حصير، فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه، وقلت: يا رسول اللَّه، ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب، ظلّ تحت شجرة، ثم راح وتركها» أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه.
الثاني : إن أحوالك الآتية خير لك من الماضية، وأن كل يوم تزداد عزا إلى عز، ومنصبا إلى منصب، فلا تظن أني قليتك، بل تكون كل يوم يأتي أسمى وأرفع، فإني أزيدك رفعة وسموا، وسترى عز الإسلام وتمكين الله لدينه في الآفاق .
وبشره بعطاء جزيل فقال:
“وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى” أي ولسوف يمنحك ربك عطاء جزيلا ونعمة كبيرة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو الفتح في الدين، وأما في الآخرة فهو الثواب والحوض والشفاعة لأمتك، فترضى به.
وهذا دليل على تحقيق العلو والسمو في الدارين، فيعلو دينه على كل الأديان، ويرتفع قدره على جميع الأنبياء والناس بالشفاعة العظمى يوم العرض الأكبر يوم القيامة.
وورد في صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم تلا قول اللَّه عز وجل في إبراهيم: “رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي” [إبراهيم 14/ 36] وقول عيسى عليه السلام: “إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ” [المائدة 5/ 118] فرفع يديهِ وقال اللهمَّ ! أُمَّتي أُمَّتي وبكى .
فقال اللهُ عزَّ وجلَّ : يا جبريلُ ! اذهب إلى محمدٍ، – وربُّكَ أعلمُ -، فسَلهُ ما يُبكيكَ ؟ فأتاهُ جبريلُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فسَألهُ.فأخبرهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بما قالَ . وهو أعلمُ . فقال اللهُ : يا جبريلُ ! اذهبْ إلى محمدٍ فقلْ : إنَّا سنُرضيكَ في أُمَّتكَ ولانَسُوءُكَ .
ثم عدد اللَّه تعالى نعمه على رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم قبل إرساله، وكأنه قال: ما تركناك وما قليناك قبل أن اخترناك واصطفيناك، فتظن أنا بعد الرسالة نهجرك ونخذلك، فقال:
“أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى” أي ألم يجدك ربك يتيما لا أب لك، فجعل لك مأوى تأوي إليه، وهو بيت جدك عبد المطلب وعمك أبي طالب، فإنه فقد أباه وهو في بطن أمه، أو بعد ولادته، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب، وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب، إلى أن توفي، وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، ثم لم يزل يحوطه وينصره بعد أن ابتعثه اللَّه على رأس أربعين سنة.
وهذا وما بعده تعداد لما أنعم اللَّه به على نبيه محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم، تنبيها على أنه كما أحسن إليه فيما مضى، يحسن إليه فيما يستقبل.
وجاء التعبير بـ {فآوى} لسبب لفظي، وسبب معنوي.
أما السبب اللفظي: فلأجل أن تتوافق رؤوس الآيات من أول السورة، وأما السبب المعنوي: فإنه لو كان التعبير (فآواك) اختص الإيواء به صلى الله عليه وعلى آله وسلم والأمر أوسع من ذلك، فإن الله تعالى آواه، وآوى به، آوى به المؤمنين فنصرهم وأيدهم، ودفع عنهم بل دافع عنهم سبحانه وتعالى.
” وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى “لا يمكن حمل الضلال هنا على ما يقابل الهدى لأن الأنبياء معصومون من ذلك، وإنما المراد بالضلال: الخطأ في معرفة أحكام الشرائع، فهداه إلى مناهجها وكيفياتها .
فيكون المعنى : ووجدك غافلا عن أحكام الشرائع حائرا في معرفة أصح العقائد، فهداك لذلك، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا الآية [الشورى 42/ 52] .
وهنا قال {فهدى} ولم يأت التعبير ـ والله أعلم ـ فهداك، ليكون هذا أشمل وأوسع فهو قد هدى عليه الصلاة والسلام، وهدى الله به، فهو هاد مهدي عليه الصلاة والسلام. إذاً فهدى أي فهداك وهدى بك.
“ووجدك عائِلًا فأغنى “: عائلا : فقيرا. والمعنى : ووجدك فقيرا ذا عيال لا مال لك، فأغناك بربح التجارة في مال خديجة، وبما منحك اللَّه من البركة والقناعة.
أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس»
وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه اللَّه بما آتاه» .
{فأغنى} أي أغناك وأغنى بك
ثم أمره ربه ببعض الأخلاق الاجتماعية وبشكره على هذه النعم، فقال:
“فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ” :أي كما كنت يتيما فآواك اللَّه، فلا تستذل اليتيم وتهنه وتتسلط عليه بالظلم لضعفه، بل أدّه حقه، وأحسن إليه، وتلطف به، واذكر يتمك.
لذا كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يحسن إلى اليتيم ويبره ويوصي باليتامى خيرا.
وروي عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قسوة قلبه، فقال: «إن أردت أن يلين، فامسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين» حسنه الألباني
وفي الصحيح عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين» وأشار إلى السبابة والوسطى.
ونهى اللَّه تعالى نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن زجر السائل وعن إغلاظ القول له، وأمره بأن يردّه ببذل يسير، أو ردّ جميل، وأن يتذكر فقره.
“وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ “أي وكما كنت ضالا، فهداك اللَّه، فلا تنهر السائل المسترشد في العلم ؛ لأنه إذا سألك يريد أن تبين له الشريعة وجب عليك أن تبينها له لقول الله تبارك وتعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران: 187] .
” فلا تنهر “ لا تنهره إن نهرته نفرته .
يقول صفوان بن عسال : أتيتُ النبيَّ و هو في المسجدِ مُتَّكيءٌ على بُرْدٍ له أحمرَ ، فقلتُ له : يا رسولَ اللهِ ! إني جئتُ أَطلبُ العلمَ ، فقال : “مرحبًا بطالبِ العلمِ ، إنَّ طالبَ العلمِ تحفُّه الملائكةُ بأجنحَتِها ، ثم يركبُ بعضُهم بعضًا حتى يبلغوا السماءَ الدُّنيا من محبَّتِهم لما يَطلبُ “حسنه الألباني في صحيح الترغيب .
وعن أبي أمامة الباهلي مرفوعا ” إنَّ اللهَ و ملائكتَه ، حتى النملةَ في جُحْرِها ، و حتى الحوتَ في البحرِ ، لَيُصلُّون على مُعَلِّمِ الناسِ الخيرَ”
صححه الألباني في صحيح الجامع.
وربما يدخل في ذلك أيضاً سائل المال، يعني إذا جاءك سائل يسألك مالاً فلا تنهره إذا كان من أهل الفقر والحاجة .
“وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ” : في هذا التحديث قولان.
أحدهما: أنه ذكر النعمة والإخبار بها. وقول العبد: أنعم الله علي بكذا وكذا.
والمعنى : أشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة من الإيواء مع اليتم، والهدى بعد الضلال، والإغناء بعد العيلة.
والتحدث بنعمة الله شكر.. كما في حديث جابر مرفوعا «من صنع إليه معروف فليجز به، فإن لم يجد ما يجزي به فليثن عليه. فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط، كان كلابس ثوبي زور» .صححه الألباني في صحيح الأدب المفرد
فالتحديث بنعمة الله يكون بشكرها وإظهار آثارها، كما جاء في الحديث أن مالك بن نضلة الجشمي أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم في ثوبٍ دونٍ فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم: ألك مالٌ؟ قال: نعم من كلِّ المالِ.
قال: من أيِّ المالِ. قال قد آتاني اللهُ من الإبلِ والغنمِ والخيلِ والرقيقِ.
قال: “فإذا أتاك اللهُ مالاً فليُرَ عليك أثرُ نعمةَ اللهِ وكرامتِه.”صححه الألباني فيصحيح النسائي
فهذا تحديث فعلي بنعمة الله، وكذلك يشرع الحديث القولي إذا أمن الإنسان العجب، فيتحدث بنعمة الله تبارك وتعالى عليه.
وعلى المسلم أن يحرص على أن تقضي الحاجات من طريقه، وهذا هو سر الأمر بالتحدث بها، فالغني مثلاً يظهر أثر النعمة عليه بحيث يتوجه الفقير إليه ويسأله.
وفي الآية تنبيه على أدب عظيم: وهو التصدي للتحدث بالنعمة وإشهارها؛ حرصاً على التفضل والجود والتخلق بالكرم، وفراراً من رذيلة الشح الذي رائده كتم النعمة والتمسكن والشكوى، ومن عادة البخلاء أن يكتموا مالهم؛ لتقوم لهم الحجة في خفض أيديهم عن البذل، فلا تجدهم إلا شاكين من القل، أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل ما آتاهم الله من فضله، ويجهرون بالحمد بما أفاض عليهم من رزقه، فالتحديث بالنعمة كناية عن البذل وإطعام الفقراء وإعانة المحتاجين، فهذا هو معنى قوله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).
ويشهد لذلك قول الله تعالى: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) فأنت عرفت في نفسك ما يكون فيه الفقير، فأوسع في البذل على الفقراء، وليس القصد في مجرد ذكر الثروة، فإن هذا يتنزه عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يذكر ما عنده من نقود وعروض، ولكن الذي عرف عنه أنه كان ينفق ما عنده ويبيت طاوياً صلى الله عليه وسلم.
والقول الثاني: أن التحدث بالنعمة المأمور به في هذه الآية: هو الدعوة إلى الله، وتبليغ رسالته، وتعليم الأمة. قال مجاهد: هي النبوة.
وقال الزجاج: أي بلغ ما أرسلت به، وحدث بالنبوة التي آتاك الله.
ولكن سياق الآيات يدل على أن هذه الآية مقابلة لقوله: “وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى “ فيقابلها قوله عز وجل هنا: “وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ “ فتكون النعمة بمعنى الغنى، ولو كانت بمعنى النبوة لكانت مقابلة لقوله: “وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى” .