نظرة تدبرية لسورة البقرة
تقع سورة البقرة على امتداد جزأين ونصف.
في الجزء الاول يخبرنا الحق جل وعلا عن ثلاثة خلفاء بالأرض:
الخليفة الأول آدم عليه السلام ، الذي كلفه الله أن لا يقرب الشجرة ليعلم مدى طاعته ولكن الذي حصل “وعصى آدم ربه فغوى ” وسرعان ماندم وتاب وأناب فتاب الله عليه فكانت نتيجة التكليف 50%
الخليفة الثاني بنو اسرائيل “ولقد اخترناهم على علم على العالمين ” كلفهم الله بتكاليف فكانت النتيجة في كل مرة المعصية تلو المعصية ولم يتركوا معصية في حق الله الا واجترموها فكانت النتيجة 0%
الخليفة الثالث ابراهيم عليه السلام “اني جاعلك للناس إماما ” امتحنه الله وابتلاه فكانت النتيجة أنه أطاع تمام الطاعة وكانت النتيجة 100%
وفي الجزء الثاني من سورة البقرة : نجد أنه يزخر بالأحكام والتكاليف والتشريعات، من أحكام الصلاة والصيام والأسرة الى تحريم القتل والربا والزنا إلى احكام الدين والإنفاق.. وكأن الله يقول لنا: هذه احكامي وهذه شريعتي فانظروا أنتم من تكونون من هؤلاء النماذج الثلاثة من عبادي
مثل آدم عليه السلام تعصون ومن ثم تطيعون أم مثل بني اسرائيل “قالوا سمعنا وعصينا ” أم مثل ابراهيم وابنه اسماعيل عليهما السلام تطيعون تمام الطاعة … فاختاروا ماتشاؤون!!
وفي الصفحات الأخيرة تتنزل آية وهي قوله تعالى : “{لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الرُّكب، فقالوا: أي رسول الله! كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها – يقصدون قوله سبحانه: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} -، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: {سمعنا وعصينا}! بل قولوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}. قالوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}.
فلما قرأها القوم، ذلَّت بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، فأنزل الله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: نعم، {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} قال: نعم، {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال: نعم، {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: نعم.
وروى مسلم هذا الخبر عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ قريب، قال فأنزل الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}، قال: قد فعلت، {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} قال: قد فعلت {واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا}، قال: قد فعلت.
(ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) أي لا تعاملنا يا رب كما عاملت بني اسرائيل فتغضب علينا عندما نسوا التكليف ولا تعاملنا كآدم عندما أخطأ وعصاك فتطردنا من جنتك
” ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا” والإصر هنا هو الحمل الثقيل الذي لا يطاق حمله ويقصد به ما أمر به الله بني اسرائيل ليقبل توبتهم عندما قال لهم ” فتوبوا الى بارئكم فاقتلوا أنفسكم “
“ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا انت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين”
وكأن من يقرأ هاتين الآيتين العظيمتين في اخر سورة البقرة يجد خلاصة دعوة الله لعباده وما كان منهم على مر العصور .. لنجد المؤمنين ذو اللب منهم قد وعوا الدرس وعرفوا الطريق بالأمثلة المعروضة عليهم فعلموا ان لا ملجأ من الله الا إليه، ولا نصر ولا فلاح الا بالتوكل عليه.