تفسير سورة الشرح

تاريخ الإضافة 7 يوليو, 2023 الزيارات : 12847

تفسير سورة الشرح

وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الضُّحَى وَهي السورة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ فِي ترتيب النُزُولِ ِ، وَعَدَدُ آياتها ثَمَان.

 نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى، وكأنها تكملة لها، وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها، ومن العقبات الصعبة في طريقها؛ ومن الكيد والمكر المضروب حولها توحي بأن صدره صلى الله عليه وسلم كان مثقلاً بهموم هذه الدعوة الثقيلة، وأنه كان يحس العبء فادحاً على كاهله، وأنه كان في حاجة إلى عون وزاد ورصيد.

 

يقول الحق جل وعلا : “أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ “
هذا الاستفهام يقول العلماء إنه استفهام تقرير، واستفهام التقرير يرد في القرآن كثيراً، ويقدّر الفعل بفعل ماضٍ مقرون بقد، ففي قوله {ألم نشرح لك} يقدّر بأن المعنى قد شرحنا لك صدرك؛ لأن الله يقرر أنه شرح له صدره، أما كونه يقدر بفعل ماضٍ؛ فلأنه قد تم وحصل، وأما كونه مقروناً بقد؛ فلأن قد تفيد التحقيق إذا دخلت على الماضي
.

وَالشَّرْحُ حَقِيقَتُهُ: فَصْلُ أَجْزَاءِ اللَّحْمِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَمِنْهُ يقال : الشَّرِيحَةُ لِلْقِطْعَةِ مِنَ اللَّحْمِ، وَالتَّشْرِيحُ فِي الطب، وهذا مِنَ الْمَجَازِ لِأَنَّ الشَّرْحَ الْحَقِيقِيَّ خَاصٌّ بِشَرْحِ اللَّحْمِ، وَأَنَّ إِطْلَاقَ الشَّرْحِ عَلَى رِضَى النَّفْسِ بِالْحَالِ أَصْلُهُ اسْتِعَارَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الضِّيقِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ عَلَى الْإِحْسَاسِ بِالْحُزْنِ وَالْكَمَدِ ، قَالَ تَعَالَى: “وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ” هود: 12

 فيكون معنى “أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ “ نورناه وجعلناه فسيحًا واسعًا، يعني أن الله وسعه وفتحه بإذهاب ما حصل به الضيق، وصد عن كمال الإدراك؛ لأن الإنسان إذا حصل له الضيق في الصدر لم يعد في حال يتهيأ فيها للتلقي بصورة كاملة، فيبقى ذهنه منقبضًا، حتى إنه لا يكاد يعقل شيئًا.

 وخص الصدر هنا؛ لأنه محل القلب، فالقلب هو الذي يحصل به الانشراح، ويحصل به الضيق والانقباض، وهو محل الإدراك، وبه يعقل الإنسان، وأحوال النفس ترتبط به ارتباطًا وثيقًا، فإذا انفسح القلب انفسح الصدر.

وشرح الصدر أن يكون متسعاً لحكم الله عز وجل بنوعيه:

  • حكم الله الشرعي وهو الدين.
  • حكم الله القدري وهو المصائب التي تحدث على الإنسان.

أما شرح الصدر لحكم الله الشرعي فيقصد به الأوامر والتكليفات الإلهية وذلك لأن الشرع فيه مخالفة للهوى فيجد الإنسان ثقلاً في تنفيذ أوامر الله، وثقلاً في اجتناب محارم الله، لأنه مخالف لهوى النفس، والنفس الأمارة بالسوء لا تنشرح لأوامر الله ولا لنواهيه.

 تجد بعض الناس تثقل عليهم الصلاة كما قال الله تعالى في المنافقين: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} [النساء: 142].

 ومن الناس من تخف عليه الصلاة بل يشتاق إليها ويترقب حصولها كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «جعلت قرة عيني في الصلاة»

 واجتناب المحرمات في الشرع فيه ثقل على بعض النفوس، فبعض الناس يهوى أشياء محرمة عليه كالزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك فتثقل عليه، ومن الناس من ينشرح صدره لذلك ويبتعد عما حرم الله.

 فشرح الصدر للحكم الشرعي معناه قبول الحكم الشرعي والرضا به وامتثاله، وأن يقول القائل سمعنا وأطعنا.

 وأنت بنفسك أحياناً تجد قلبك منشرحاً للعبادة تفعلها بسهولة وانقياد وطمأنينة ورضا، وأحياناً بالعكس لولا خوفك من الإثم ما فعلت، فإذا كان هذا الاختلاف في الشخص الواحد فما بالك بالأشخاص.
وانفساح صدر المؤمن
لحكم الله الشرعي يجعل قلبه حرًّا طليقًا لا تأسره شهوة ولا معصية، فلا يبقى في حبس، وضيق، فإن الحبس الحقيقي والسجن الحقيقي كما قال شيخ الإسلام: هو سجن القلب، وليس سجن البدن، والبدن تبع لهذا القلب، فإن كان القلب منعمًا فإن ذلك يسري إلى البدن فيظهر أثر ذلك على الوجه، ولو كان الإنسان يعيش في فقر أو يعيش في شدائد وأذى من الخلق، وبهذا ذكر ابن القيم -رحمه الله- حال شيخ الإسلام مع ما هو فيه من البلاء والشدة والأذى، فكانت نضرة النعيم تلوح على وجهه، يقول: إذا اشتدت بنا الخطوب وأرجف بنا الخصوم وساءت بنا الظنون فما أن نأتيه ونرى وجهه حتى ينجلي ذلك جميعًا، فكان يذكر ما كانوا يرون على وجهه من نضرة النعيم، والطمأنينة، والثبات مع ما هو فيه من الشدة، لكن حينما تنظر إلى أهل الفجور تنظر إلى وجوههم ولو كانوا من المنعمين أو الممكنين أو نحو ذلك ترى البؤس في تلك الوجوه.

وأما انشراح الصدر للحكم القدري، فهو الإيمان والرضا بقضاء الله وقدره فالإنسان الذي شرح الله صدره تجده راضياً بقضاء الله وقدره، مطمئناً إليه، يقول: أنا عبد، والله رب يفعل ما يشاء.

ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له»

إذاً شرح الصدر يعني توسعته وتهيئته لأحكام الله الشرعية والقدرية، لا يضيق بأحكام الله ذرعاً إطلاقاً، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلّم له الحظ الأوفر من ذلك، ولهذا تجده أتقى الناس لله، وأشدهم قياماً بطاعة الله، وأكثرهم صبراً على أقدار الله.

وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ:” لَكَ” لَامُ التَّعْلِيلِ، وَهُوَ يُفِيدُ تَكْرِيمًا لِلنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِهِ.

قوله تعالى  : ” وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ “

الوزر هو الذنب، أو الثقل

وعلماء التفسير على قولين في تفسير الآية :
الأول : تفسير الوزر بمعنى الذنب .

الثاني :تفسير الوزر بمعنى الثقل .

أما بالنسبة لتفسيره بمعنى (الذنب) فهذه المسألة مبناها على هل تقع من الأنبياء المعاصي؟

 والراجح في هذه المسألة أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قد تقع منهم الذنوب، والله -تبارك وتعالى-يقول عن آدم وهو نبي: ” وعصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى” سورة طـه:121، وموسى لما قتل القبطي ولم يكن يقصد قتله لكنه قصد ضربه،” فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ “سورة القصص:15
ضربه بقبضة يده فقتله، فموسى استغفر من ذلك ربه، وتاب من هذا، وكان ذلك قبل نبوته لكنه كان على شريعة يعقوب  كما كان بنو إسرائيل، فالأنبياء تقع منهم الذنوب والمعاصي ؛ لكن هناك أشياء لا يمكن أن تقع من الأنبياء مثل الكذب والخيانة، فإن هذا لا يمكن أن يقع منهم إطلاقاً، لأن هذا لو فرض وقوعه لكان طعناً في رسالتهم وهذا شيء مستحيل، وسفاسف الأخلاق من الزنا وشبهه هذا أيضاً ممتنع، لأنه ينافي أصل الرسالة.

أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ مِثْلُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَعْضِ اجْتِهَادَاتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فينزل الوحي ليبين له الأولى: كَقِصَّةِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، لما عوتب فِيهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: “عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى “

 وكَقَوْلِهِ: “عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ”، وَقِصَّةِ أُسَارَى بَدْرٍ، وَاجْتِهَادِهِ فِي إِيمَانِ عَمِّهِ، حَتَّى قِيلَ لَهُ: “إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ “وَنَحْوِ ذَلِكَ فَتُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَيْهِ.

وعلى القول الثاني : أَنَّ الْوِزْرَ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ مَا كَانَ يُثْقِلُهُ مِنْ أَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ، وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، كَمَا في الآية ” إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا ”
وفي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ، فَقَعَدْتُ مُعْتَزِلًا حَزِينًا، فَمَرَّ بِي أَبُو جَهْلٍ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:» نَعَمْ «، وَقَصَّ عَلَيْهِ الْإِسْرَاءَ» .

فَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَظِعَ، وَالْفَظَاعَةُ: ثِقَلٌ وَحُزْنُ، وَالْحُزْنُ: ثِقَلٌ. وَتَوَقُّعُ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ أَثْقَلُ عَلَى النَّفْسِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.

قوله تعالى  :”الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ”

وأَنْقَضَ جَعَلَ الشَّيْءَ ذَا نَقِيضٍ، وَالنَّقِيضُ صَوْتُ صَرِيرِ الْمَحْمِلِ وَالرَّحْلِ وَصَوْتُ عِظَامِ الْمَفَاصِلِ، وَفَرْقَعَةُ الْأَصَابِعِ.

وَإِسْنَادُ أَنْقَضَ إِلَى الْوِزْرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، فيه تَمْثِيلٌ من يتحمل الْمَشَاقِّ الشَّدِيدَةِ، بِالْحَمُولَةِ الْمُثْقَلَةِ حتى كأنه سُمع له نقيض، أيْ صوت أثقله، والبعير إذا وضع عليه أحمال فوق طاقته سمع لظهره صوت، هذا الصوت يقال له: نقيض، فكأن هذا الوزر لشدة ثقله يُسمع لظهر حامله نقيض، فأضيف ذلك إلى الظهر .

(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) فالأوزار كأن الإنسان يحملها على ظهره فتثقله،

وذكر الظهر هنا لأن الظهر هو محل الحمل، فإذا كان هناك حمل يتعب الظهر فإتعاب غيره من باب أولى، لأن أقوى عضو في أعضائك للحمل هو الظهر.

فالمعنى أن الله تعالى غفر للنبي صلى الله عليه وسلّم وزره وخطيئته حتى بقي مغفوراً له، وهذا من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام، وبين أن هذا الوزر قد أنقض ظهره أي أقضه وأتعبه، وإذا كان هذا وزر الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف بأوزارنا … أوزارنا تقض ظهورنا وتنقضها وتتعبها، نسأل الله أن يعاملنا بالعفو.

يقول ابن مسعود: إذا أذنب المؤمن ذنباً صار عنده كالجبل فوق رأسه وإن المنافق إذا أذنب ذنباً صار عنده كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا.

 يعني أنه لا يهتم، فالمؤمن تهمه خطاياه وتلحقه الهموم حتى يتخلص منها بتوبة واستغفار، أو حسنات جليلة تمحو آثار هذه السيئة.

 

قوله تعالى  :” وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ “

وَرَفْعُ الذِّكْرِ مَجَازٌ فِي إِلْهَامِ النَّاسِ لِأَنْ يَذْكُرُوهُ بِخَيْرٍ، وَذَلِكَ بِإِيجَادِ أَسْبَابِ تِلْكَ السُّمْعَةِ حَتَّى يَتَحَدَّثَ بِهَا النَّاسُ، اسْتُعِيرَ الرَّفْعُ لِحُسْنِ الذِّكْرِ لِأَنَّ الرَّفْعَ جَعْلُ الشَّيْءِ عَالِيًا لَا تَنَالُهُ جَمِيعُ الْأَيْدِي وَلَا تَدُوسُهُ الْأَرْجُلُ.

 ورفع ذكر الرسول بعدة أمور:

 أولاً: لأنه يرفع ذكره عند كل صلاة في أعلى مكان وذلك في الأذان: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمد رسول الله.

يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:

أَغَرٌّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتَمٌ … مِنَ اللَّهِ مَشْهُودٌ يَلُوحُ وَيَشْهَدُ

وَضَمَّ الْإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ … إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ

ثانياً: يرفع ذكره في كل صلاة فرضاً في التشهد، فإن التشهد مفروض، وفيه أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

ثالثاً: يرفع ذكره عند كل عبادة، فكل عبادة مرفوع فيها ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن كل عبادة لابد فيها من شرطين أساسيين هما: الإخلاص لله تعالى، والمتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام، ومن المعلوم أن المتابع للرسول صلى الله عليه وسلم سوف يستحضر عند العبادة أنه متبع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا من رفع ذكره.

رابعا / وفي الآخرة رفع له ذكره بأمور وأحوال من أعظمها الشفاعة العظمى فهو مقام يحمده عليه الأولون والآخرون، فرفع له ذكره بهذا، كل الأنبياء يعتذرون ، ويحيلون إلى غيرهم حتى يحال الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهذا من رفع الذكر في الدنيا والآخرة.

خامسا /ما جعل الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا من الذكر الجميل، والصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم-، فإذا ذُكر يُصلَّى عليه، والله يقول: “إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” سورة الأحزاب:56

فرفع ذكره في السموات وفي الأرض والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (البخيل من ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليّ)

قوله تعالى  :” فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً “

هذا بشارة من الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم ولسائر الأمة، يعني كما شرحنا لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، ورفعنا لك ذكرك، وهذه نعم عظيمة كذلك هذا العسر الذي يصيبك لابد أن يكون له يسر {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً} فوجود العسر في حياتك من إرادة الله قدره فيك ابتلاء وامتحانا .

 قال الحسن البصري: «لن يغلب عسٌر يسرين»

 وتوجيه كلامه مع أن العسر ذكر مرتين واليسر ذكر مرتين :

أن العسر لم يذكر إلا مرة واحدة {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً} العسر الأول أعيد في الثانية بأل، فأل هنا للعهد ، وأما يسر فإنه لم يأت معرفاً بل جاء منكراً، والقاعدة: أنه إذا كرر الاسم مرتين بصيغة التعريف فالثاني هو الأول ، وإذا كرر الاسم مرتين بصيغة التنكير فالثاني غير الأول، لأن الثاني نكرة، فهو غير الأول.

 أما في الأمور الشرعية فظاهر، ففي الصلاة: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب، فهذا تيسير، إذا شق عليك القيام اجلس، إن شق عليك الجلوس صل وأنت على جنبك.

 وفي الصيام إن قدرت وأنت في الحضر فصم، وإن لم تقدر فأفطر، إذا كنت مسافراً فأفطر.

 إذاً كل عسر يحدث للإنسان في العبادة يجد التسهيل واليسر.

كذلك في القضاء والقدر، يعني تقدير الله على الإنسان من مصائب، وضيق عيش، وضيق صدر وغيره لا ييأس، فإن مع العسر يسراً، والتيسير قد يكون أمراً ظاهراً حسيًّا، مثل: أن يكون الإنسان فقيراً فتضيق عليه الأمور فييسر الله له الغنى، أو إنسان مريض يشق عليه المرض فيشفيه الله عز وجل، هذا أيضاً تيسير حسي.

 ونلاحظ في الآية قوله ” مع العسر ” ولم يقل ” بعد العسر ” لأن الكثير لا يلحظ اليسر المخبوء مع العسر ، هناك تيسير معنوي وهو معونة الله الإنسان على الصبر هذا تيسير، فإذا أعانك الله على الصبر تيسر لك العسير، وصار هذا الأمر العسير الذي لو نزل على الجبال لدكها، صار بما أعانك الله عليه من الصبر أمراً يسيراً، وليس اليسر معناه أن ينفرج الشيء تماماً فقط، اليسر أن ينفرج الكرب ويزول وهذا يسر حسي، وأن يعين الله الإنسان على الصبر حتى يكون هذا الأمر الشديد العسير أمراً سهلاً عليه، نقول هذا لأننا واثقون بوعد الله.

والعسر معرفة لأنك واقع في المشكلة وتعرفها أما اليسر فهو نكرة لأنك لا تعرف من أين ومتى يأتي اليسر ؛ كما في قوله تعالى : “وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ..” الطلاق 3

فتَنْكِيرُ يُسْراً لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ مَعَ الْعُسْرِ الْعَارِضِ لَكَ تَيْسِيرًا عَظِيمًا يَغْلِبُ الْعُسْرَ

قوله تعالى  :” فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ “

فسرها العلماء بثلاث تفسيرات :

الأول : إذا فرغت من أعمالك فانصب لعمل آخر، يعني اتعب لعمل آخر، لا تجعل الدنيا تضيع عليك، ولهذا كانت حياة الإنسان العاقل حياة جد، كلما فرغ من عمل شرع في عمل آخر، وهكذا؛ لأن الزمن يفوت على الإنسان في حال يقظته ومنامه، وشغله وفراغه، يسير ولا يمكن لأحد أن يمسك الزمن .

الثاني :إذا فرغت من عمل الدنيا عليك بعمل الآخرة.
يعني إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة وقم إليها نشيطًا فارغ البال، يعني أن الفراغ لا يكون مدعاة للبطالة والقعود عن طاعة الله -عز وجل-، وعما يحصل به رفع العبد ونفعه، وإنما يكون سببًا للإقبال على الله -تبارك وتعالى-، والاشتغال بطاعته وعبادته.

الثالث : إذا فرغت من عبادة فانصب في عبادة أخرى يعني اشتغل بعبادة أخرى.

 والأولى حمل الآية على العموم؛ لأن حذف المقتضى يدل على العموم، يعني إذا فرغ المؤمن من عمل شرع في آخر، فيكون المؤمن دائمًا ليس عنده وقت فراغ، فلا يحط رحله إلا في الجنة، ولا يتوقف ولا يفتر، فهو دائم العبادة والاشتغال، ما ينتهي من شيء وإلا ويدخل في غيره .

قوله تعالى  :” وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ”

تقديم الجار والمجرور (إِلَى رَبِّكَ ) لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ.

أي أخلص لربك النية، يعني لا ترغب إلا إليه، فلا تكون رغبتك لأحد سوى الله -تبارك وتعالى-، ولا تطلب حاجتك إلا منه، ولا تعلق قلبك ولا تعول في جميع الأمور إلا عليه، لا تعلق قلبك بالمخلوقين أن يعطوك، أوأن يمنحوك، أوأن ينفعوك،  اجعل الرغبة إلى الله، فإذا كان المؤمن بهذه المثابة يعمل دائمًا وينتقل من عمل لآخر كلما فرغ من عمل اشتغل بآخر فهو دائم العمل، وراغب في الوقت نفسه إلى الله لا يلتفت إلى المخلوقين فهذا عنوان السعادة، إذا كان العبد بهذه المثابة ووصل إلى هذه المنزلة فهو أسعد الناس، وأكثر الناس طمأنينة وراحة.

 


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 14 مايو, 2024 عدد الزوار : 1034 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن العظيم

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع