شرح أسماء الله الحسنى: 49- القريب

تاريخ الإضافة 19 نوفمبر, 2023 الزيارات : 10586

شرح أسماء الله الحسنى: 49- القريب

أولا /المعنى اللغوي

  القَرِيبُ فِي اللُّغَةِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى اسْمِ الفَاعِلِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ القُرْبِ .

والقُرْبُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ البُعْدِ، قَرُبَ الشَّيْءُ يَقْرُبُ قُرْبًا وقُرْبَانًا أي دَنا فهو قَرِيبٌ  .


ثانيا / وروده في القرآن الكريم :

 ورود هذا الاسم لله في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع؛ قال – تعالى -: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). [البقرة: 189]

وقال – عز وجل -: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) [هود: 60\61]

وقال – سبحانه -: (قُلْ إِن ضَلَلْت ُفَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) [سبأ: 50]

ثالثا /  المعنى في حق الله تعالى : 

الله تعالى هو القريب من كل أحد، وقربه تعالى نوعان:

 قرب عام من كل أحد بعلمه وخبرته ومراقبته ومشاهدته وإحاطته قال – تعالى -: (وَلقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ)[ق: 16] وقال –تعالى-: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ ولكن لا تبصرون ) [الواقعة: 85]

وقرب خاص من عابديه وسائليه ومحبيه ، وهو المذكور في قوله تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) العلق: من الآية 19.
وهذا النوع، قرب يقتضي ألطافه تعالى، وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم .

 والقرب هنا مستعار للرأفة والإكرام ؛ لأن البعد يُستعَار للجفاء وهو قرب لا تُدرك له حقيقة ، وإنما تعلم آثاره من لطفه بعبده وعنايته به وتوفيقه وتسديده ومن آثاره الإجابة للداعين، والعناية للعابدين والنصر والتأييد والتمكين والفرج للمؤمنين.

رابعا / تأملات في رحاب الاسم الجليل :
روى ابن كثير في تفسيره أن أعرابياً قال: يا رسول اللّه أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟
فسكت النبي – صلى الله عليه وسلم – فأنزل اللّه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). [البقرة: 189]

تأملات في الآية المباركة :

ونلاحظ في هذه الآية أن كل سؤال في القرآن يأتي التعقيب عليه بالجواب (قل)، أو (فقل)، كقوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ)البقرة، الآية: 219.

 وقال جل وعلا: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ)البقرة، الآية: 220

وقال جل وعلا: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) طه، الآية: 105.

، أما في هذه الآية فلم يقل جلَّ شأنه قل، أو فقل، بل قال: (فَإِنِّي قَرِيْبٌ) ولم يقل: قل: يا محمد إني قريب، لماذا؟

حتى لا تكون هناك واسطة بين العبد وبين الله جل وعلا، ولو كانت هذه الواسطة هي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا واسطة بين العبد وبين الله!!

فدعاؤك لله جل وعلا في أي وقت شئت، ارفع أكف الضراعة إلى الله، وفي أي مكان شئت، لترى الله جل وعلا سميعاً بصيراً مجيب الدعاء : (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ )البقرة:186

لا سؤال إلا إليه، ولا رجاء إلا فيه، ولا توكل إلا عليه، ولا استعانة إلا به، ولا استغاثة إلا به، ( إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله).

وهذا رد صريح على من جعل بينه وبين اللَّه تعالى واسطة من البشر في دعائه…. لم يرض الله أن يفصل في الجواب ولو بكلمة (قل)

وقوله تعالى: (فَإِنِّي قَرِيبٌ) يدل على قرب اللَّه تعالى من الداعي، قرباً خاصاً يدل على العناية التامة بالإجابة، والمعونة.

ويؤكد هذا المعنى حديث أبي موسى الأشعري، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزَاة فجعلنا لا نصعد شَرَفًا، ولا نعلو شَرَفًا، ولا نهبط واديًا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير ؛ قال: فدنا منا فقال: “يا أيها الناس، أرْبعُوا على أنفسكم؛ فإنَّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عُنُق راحلته ؛ يا عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله”.

ونلاحظ أيضا في الآية : أن اسم الفاعل في اللغة العربية يطلق على من تلبس بالفعل فلا يقال صائم إلا إذا صام ولا قائم إلا إذا قام ، فكذلك لا يسمى (داع )إلا إذا دعا فلماذا قال (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) ما الحكمة من ذلك ؟

الحكمة هي بيان أن الإجابة من الله تكون فورية فبمجرد أن يدعو الداعي يجيب الله (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) ولذلك كان عمر يقول أنا لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء .

وفي الآيات الكريمة لفتة إلهية كريمة فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان  عجّل سبحانه بالإجابة ولم يقل أسمع الدعاء.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : أخبر سبحانه أنَّه قريبٌ مِن عباده يجيبُ دعوةَ الداعي إذا دعاه ، فهذا إخبارٌ عن ربوبيته لهم وإعطائه سُؤلهم وإجابةِ دعائهم ؛ فإنهم إذا دعَوْه فقد آمنوا بربوبيته لهم … ، ثم أمَرهم بأمرين فقال : { فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } البقرة / 186 .

فالأول : أنْ يطيعوه فيما أمرهم به من العبادة والاستعانة والثاني : الإيمان بربوبيته وألوهيته وأنَّه ربهم وإلههم .

ولهذا قيل: إجابة الدعاء تكون عن صحة الاعتقاد وعن كمال الطاعة لأنَّه عقب آية الدعاء بقوله : ” فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي. ” مجموع الفتاوى ” ( 14 / 33 

لماذا ندعو ولا يستجاب لنا ؟

هذا السؤال دائما ما يتكرر منا وللإجابة أقول :

أولا/ ينبغي على المسلم أن يكون عنده يقين أنه إذا دعا الله فإن الله يسمع كلامه ويرى مكانه ولا يخفى عليه شيء من أمره ، ولنتأمل معا دعاء يونس -عليه السلام- إلى الله لقد كان في ظلمات ثلاث :

ظلمة الليل 
و ظلمة البحر
و ظلمة بطن الحوت

فمن يسمعه ؟ ومن ينقذه ؟  ومن ينجيه ؟

لقد سمعه الله من فوق سبع سموات فسبحان من لا تخفى عليه خافية ، أيقن يونس أنه لا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه فنادى في الظلمات :
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
يقول الله تعالى (وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِني كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ * فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَم وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ )87/88 الأنبياء

يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: ” دعوةُ ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت: لا إله إلاَّ أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لَم يَدْعُ بها رجل مسلم في شيء قط إلاَّ استجاب الله له “صحيح الجامع

ويقول ” ألا أخبركم بشىء إذا نزل برجل منكم كرب أو بلاء من أمر الدنيا دعا به يفرج عنه دعاء ذى النون لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين” صحيح الجامع

فالله هوالسميع الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات،فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرَّها وعلنها ،لا تختلط عليه الأصوات،ولا تخفى عليه جميع اللغات،القريب منها والبعيد، والسرّ والعلانية عنده سواء (سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ)الرعد 10

و(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)المجادلة 1

قالت عائشة رضي الله عنها: تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشتكي إلى رسول الله وأنا في جانب الحجرة، وإنه ليخفى عليَّ بعض كلامها، فأنزل الله: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا)الآية.

وتأملوا معي هذا الحديث الذي يسكب الود والأمن والطمأنينة في قلوب المؤمنين سكباً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله حيي كريم، يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين)

الله يستحي منك وأنت لا تستحي من الله؟! لا إله إلا الله! فارفع أكف الضراعة إلى الله جل وعلا، وقل لربك وخالقك ورازقك:

بك أستجير ومن يجير سواكا فأجر ضعيفاً يحتمي بحماكا

إني ضعيف أستعين على قوى ذنبي ومعصيتي ببعض قواكا

أذنبت يا ربي وآذتني ذنوب ما لها من غافر إلاكا

دنياي غرتني وعفوك غرني ما حيلتي في هذه أو ذاكا

رباه قلب تائب ناجاكا حاشاك ترفض تائباً حاشاكا

فليرض عني الناس أو فليسخطوا أنا لم أعد أسعى لغير رضاكا

الجأ إلى الله جل وعلا، واعلم بأن الله سميع قريب يجيب الدعاء، يسمع دبيب النملة السوداء، تحت الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء

ثانيا : اليقين أن الله ليس ببخيل ولا فقير كما قال سفيان الثوري فهو سبحانه الذي لا تنفد خزائنه ولا تنتهي عطاياه ، وهو ملك الملوك وأكرم الأكرمين ، كما في الحديث القدسي (يا عبادي ، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ، يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر )

لكنه سبحانه إذا أعطى يعطي بحكمة وإذا منع منع لحكمة !!

عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجِّل له دعوته، وإما أن يَدّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها” قالوا: إذًا نكثر. قال: “الله أكثر

وقد يتصوَّر البعض أن الله تعالى يحبه؛ لأنه يستجيب لدعائه ويُعطيه كل ما سأل .. ولا يعلم أن الله تعالى يُعطي من يُحب ومن لا يحب

فقد استجاب لدعاء إبليس عندما سأله (قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)الأعراف: 14,15

فاستجابة الدعـــاء ليست شرطًا للمحبة

يقول ابن القيم وليتأمل العاقل هذا في نفسه وفي غيره وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه، بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينه. ويكون منعه منها، لكرامته عليه ومحبته له فيمنعه حماية وصيانةً وحفظًا لا بخلاً، وهذا إنما يفعله بعبده الذي يريد كرامته ومحبته ويعامله بلطفه فيظن بجهله أن الله لا يحبه ولا يكرمه ويراه يقضي حوائج غيره فيسيء ظنه بربِّه وهذا حشو قلبه ولا يشعر به والمعصوم من عصمه الله مدارج السالكين (1:79

ثالثاً: عدم التعجل في الإجابة ، ورد في الحديث (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل) رواه البخاري وفي رواية مسلم : (قيل: وما الاستعجال يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)

فليس من الأدب مع الله أن تتعجل على الله، بل من آداب الدعاء ألا تتعجل .

مواطن القرب من الله 

1-الدعاء : وقد سبق الكلام عنه .

2- الإيمان والعمل الصالح: إن كثرة الأولاد والأموال لا تقرب إلى الله، بل ربما كانت أعظم الملهيات عن ذكر الله وطاعته ، وفي هذا يقول الحق سبحانه: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبإ:37]،

ولا تنال منزلة القرب إلا بالإيمان وصالح الأعمال، يقول سبحانه في الحديث القدسي: «وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه» رواه البخاري

3-الثلث الأخير من الليل

روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يتنزّل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له” وفي رواية “هل من تائب فأتوب عليه: من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟ من ذا الذي يستكشف الضر فأكشف عنه ألا سقيم يستشفي فيشفى؟“.
فالله تعالى يتجلى على عباده وقت السحر بالغفران والعطاء والإحسان وإجابة الدعاء وتحقيق الرجاء فلا يردّ فيه سائل ولا يخيب فيه آمل.

وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “أقرب ما يكون العبد من الرب في جوف الليل فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله عزّ وجل في تلك الساعة فكن“. 

قال نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهم جميعا: كان ابن عمر يحي الليل صلاة ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ أي هل دخلنا في السحر فأقول لا. فيعاود الصلاة فإذا قلت له نعم: أي دخلنا في السحر قعد يستغفر الله تعالى حتى الفجر.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يخرج من ناحية داره مستخفيا وقت السحر وفي رواية: كان يسمع ذلك من داره وقت السحر فيقول: اللهم إنك دعوتني فأجبتك وأمرتني فأطعتك وهذا السحر فاغفر لي فقيل له في ذلك فقال: إن يعقوب عليه السلام حين سوّف بنيه – أي وعدهم بأن يستغفر لهم وقال لهم “سوف أستغفر لكم ربي” – أخرهم إلى السحر لأنه وقت إجابة.
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: لم أخّر يعقوب عليه السلام بنيه في الاستغفار؟ قال “أخرهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجاب“.
وتحسب من أذان المغرب إلى صلاة الفجر -مثلاً- اثنا عشر ساعة، فتقسِّم اثني عشر ساعة إلى ثلاثة أثلاث فتُعتبر آخر أربع ساعات هي الثلث الأخير من الليل، وهذا يختلف باختلاف الصيف والشتاء.

 فتصوَّروا أنَّ الملك العظيم الرحمن الرحيم ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، ماذا يقول ربُّنا سبحانه وتعالى؟ فيقول: “هل من داعٍ فأستجيب له، هل من سائلٍ فأعطيه، هل من مستغفرٍ فأغفر له” الله أكبر! يا لها من لحظات مباركة، الله عزَّ وجلَّ وهو الغنيُّ عنَّا ونحن الفقراء إليه، الله عزَّ وجلَّ ينادي عباده: “هل من مستغفرٍ فأغفر له، هل من سائلٍ فأعطيه.

4- السجود :

إن لحظات السجود والقرب من الله هي ساعات كرم الله وبركته وعطائه الذي لا حدود له، ولا قيود، تغتنم فيها الفرصة بالدعاء والطلب.

قال صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء فقمن(حري وجدير) أن يستجاب لكم» رواه مسلم.

قوله : ( من ربه ) أي من رحمة ربه وفضله ، وإنما كان في السجود أقرب من سائر أحوال الصلاة وغيرها ، لأن العبد بقدر ما يبعد عن نفسه يقرب من ربه ، والسجود غاية التواضع وترك التكبر وكسر النفس لأنها لا تأمر الرجل بالمذلة ولا ترضى بها ولا بالتواضع بل بخلاف ذلك ، فإذا سجد فقد خالف نفسه وبعد عنها فإذا بعد عنها قرب من ربه

قوله : ( فأكثروا الدعاء ) أي في السجود لأنه حالة قرب كما تقدم ، وحالة القرب مقبول دعاؤها ، لأن السيد يحب عبده الذي يطيعه ويتواضع له ويقبل منه ما يقوله وما يسأله .

وفي الحديث أن رجلًا قال: يا رسول الله أسالك مرافقتك في الجنة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أو غير ذلك؟»، فقال هو ذاك. فقال: «فأعني على نفسك بكثرة السجود». رواه مسلم.

وفي الحديث: « ما من مسلم يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة» رواه مسلم عن أبي الدرداء.

 وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت أنا بالسجود فعصيت فلي النار» أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.

5- الذكر

إن ساعات الذكر، ولحظات المناجاة والمناداة والابتهال هي لحظات قرب من الله ودواعي رحمته وإجابته، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» متفق عليه، رواه البخاري  ومسلم

وقال صلى الله عليه وسلم مبلغا عن ربه: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه» رواه البخاري ومسلم.

وذكر الله يوجب القرب من الله عز وجل ، فإذا جعل المؤمن ذكر الله شعاره أثمر القرب من الله.

وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول: “قال الله تعالى أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه”. رواه البخاري

وهذا يدل على أن الله تعالى مع عبده بالعون والتسديد والتوفيق، مادام عبده يذكره ، ويعلم قربه منه ، ومراقبته إيّاه.

وهذا كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل: 128] وقوله لموسى وهارون -عليهما السلام-: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طه: 46]

قال الربيعُ بنُ أنس : إنَّ الله ذاكرٌ مَنْ ذكرهُ ، وزائدٌ مَنْ شكره ، ومعذِّبٌ مَن كَفَرَه .
قال ابن رجب : قال الله تعالى : (فَاذْكُرُوْنِي أَذْكُرْكُم) وذِكْر الله لِعَبْدِه : هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى بين ملائكته ومُبَاهاتهم به ، وتَنْويهه بِذِكْرِه .

وقال ابن القيم:«والمعية الحاصلة للذاكر معية لا يشبهها شئ، وهي أخصُّ من المعِيَّة الحاصلة للمحسن والمتقي، وهي معِيَّة لا تُدرِكها العبارة ولا تنالها الصِّفة، وإنما تُعلَم بالذوق»

6- التوبة :

فهو سبحانه القريب من التائبين يجيب دعائهم، ويثبت إيمانهم ويذيقهم من حلاوة القرب منه ما يعوضهم فقد ما فقدوه  {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} هود من الآية:61
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: قال الله تبارك وتعالى: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرةرواه الترمذي وحسنه الألباني.

عنان السماء: السحاب.
قراب الأرض: ملؤها أو ما يقارب ملأها.
إنك ما دعوتني ورجوتني: أي ما دمت تدعوني وترجوني.
ولا أبالي: أي إنه لا تعظم علي مغفرة ذنوبك وإن كانت كبيرة وكثيرة.

وهذا الحديث من أرجى الأحاديث في السنة، ففيه بيان سعة عفو الله تعالى ومغفرته لذنوب عباده، وهو يدل على عظم شأن التوحيد، والأجر الذي أعده الله للموحدين، كما أن فيه الحث والترغيب على الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.

خامسا / ثمار الإيمان بالاسم الجليل

1- تعظيم المولى تبارك وتعالى: أن يعلم العبد أنّ الله أقرب إليه من حبل الوريد، وبذلك يزداد تعظيمه لربّه، وإكباره له في قلبه ، وكلما تقرب العبد من الله بالطاعات المُرضية له سبحانه ، تقرب الله من عبده تقربًا يليق بجلاله وعظمته، حتى تتحقق للعبد محبة الله سبحانه وتعالى، ويوفقه الله إلى كل ما يرضيه، وقد ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يقول الله عز وجل: … ومن تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)وهذا الحديث الصحيح يدل على عظيم فضل الله عز وجل، وأنه بالخير إلى عباده أجود، فهو أسرع إليهم بالخير والكرم والجود منهم في أعمالهم، ومسارعتهم إلى الخير والعمل الصالح.

2- إخفاء الدعاء والإسرار به لله سبحانه وتعالى : لأنه دال على قرب صاحبه من الله وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه؛ فيسأله مسألة مناجاة للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد، ولهذا أثنى سبحانه على عبده زكريا بقوله: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ) وكلما استجاب المرء لأوامر لله ورسوله، أجاب الله نداءه إجابة تليق بجلاله وكرمه وجوده، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ) 75 الصافات.

 أي كنا بما لنا من العظمة له ولغيره ممن كان نعم المجيبُ لنا، هذه صفتنا لا تَغير لها.

3-  الأمن والثقة: فالمؤمن يعيش بقرب الله في أنس وثقة ويقين، وملاذ أمين، وحصن حصين مكين؛ لأنه في معية الله، ومصاحبته فهو – سبحانه – القريب منهم في كل أحوالهم وهو الصاحب في أسفارهم حال غربتهم ووحشتهم فالله صاحبهم القريب منهم: (أنت الصاحب في السفر) رواه مسلم ، وهو – سبحانه – في ذات الوقت خليفته على أهله: (والخليفة في الأهل)

4- حصول السكينة والثبات: قال الله – تعالى -: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا) [التوبة: 40]،

وقال – صلى الله عليه وسلم – لأبي بكر: (يا أبابكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) متفق عليه. 

فمن كان الله معه فمعه القوة العظمى التي لا تهزم، ولقد ربى الله أصفياءه على أن يكونوا على علم بأنه معهم فلما أرسل موسى إلى فرعون الطاغية قائلاً: (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى) [طه: 42] قال موسى وهارون: (إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى)[طه: 45]

وهذا دواء الخوف وعلاجه من قلوب المؤمنين، إنه القاهر فوق عباده (معنا أسمع وأرى)  فما يكون فرعون وجنوده وما يصنع حين يفرط أو يطغى؟ والله معهما يسمع ويرى” فيذهبان إلى فرعون فيخاطبانه دون خوف ولا وجل .


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 1 فبراير, 2024 عدد الزوار : 353 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم