فقه البيوع :5-المحرم من البيوع بسبب الظلم والغرر

تاريخ الإضافة 16 أغسطس, 2023 الزيارات : 4323

فقه البيوع :5-المحرم من البيوع بسبب الظلم والغرر

ذكرنا في الدرس السابق أن المحرمات في البيوع على نوعين:

الأول: مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ.

الثاني: مُحَرَّمٌ لِكَسْبِهِ.

وذكرنا أن ( المحرم لكسبه) على ثلاثة أنواع:

1 – الظلم .

2 – الغرر .

3 – الربا .

فما تفصيل هذه الأنواع ؟

أولا/ الظلم:

فمتى اشتملت المعاملة على ظلم وإضرارلأي من الطرفين على الآخر فإن المعاملة تكون محرمة.

والدليل على ذلك قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ )[النساء: 29].

والظلم يفسد الرضا في العقد، وفي السنن عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال:( لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) يعني: أنه إذا أخذ ماله بغير حق فإن هذا الأخذ يكون ظلمًا وهو محرم.

وهناك صور متعددة من المعاملات المحرمة في الشريعة التي حرمت لما فيها من الظلم، أشير إلى شيء منها بشيء من الإيجاز فمن ذلك:

1- الغش:

إذا كانت المعاملة غش، فهي محرمة لما فيها من الظلم، ودليل ذلك قول النبي- صلى الله عليه وسلم – (مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي ) رواه مسلم.

2- النَّجَش:

والنجش معناه أن يزيد في السلعة من لا يريد شرائها كما في المزاد العلني، يأتي شخص ويزيد في السلعة وهو لا يقصد أن يشتريها، فحرم النجش لما فيه من الظلم، ودليل ذلك ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما (أَنَّ النَّبي- صلى الله عليه وسلم – نَهَى عَنْ النَّجَش)

3- بيع الرجل على بيع أخيه وشراؤه على شرائه:

من البيوع المنهي عنها بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه، ومعناه أن يتساوم البيعان ويتراضيا على ثمن معين فيأتي مشتر آخر فيعرض ثمنا أعلى، أو يعرض الثمن نفسه وهو ذو وجاهة فيميل إليه البائع لوجاهته.

ومع تحقق الحرمة في هذه البيوع فإنها صحيحة عند الجمهور لرجوع النهي إلى معنى خارج عن حقيقة البيع ولوازمها إذ لم يفقد العقد ركنا من أركانه ولا شرطا من شرائط صحته، وإنما كان النهي لمعنى مقترن به خارج عن ماهية العقد ولوازمها وهو الإيذاء ومثل ذلك لا يقتضي البطلان عند الجمهور.

ومن صور بيع الرجل على بيع أخيه أن يتراضى المتبايعان على ثمن معين فيأتي آخر ليعرض على المشتري ثمنا أقل، أو يعرض عليه سلعة أفضل بمثل هذا الثمن أو أقل منه. ولا خلاف بين أهل العلم على استحقاق الإثم في هذه الصور لما تؤدي إليه من الإيحاش والإضرار، ولما ورد من النهي الصريح عن ذلك في السنة الصحيحة.

من ذلك ما رواه ابن عمر من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) متفق عليه.

وفي رواية مسلم: (لا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه إلا أن يأذن له).

وعند النسائي “لا يبع بعضكم على بيع بعض حتى يبتاع أو يذر”.

من أجل هذا ذهب جمهور أهل العلم إلى حرمة هذه البيوع واستحقاق الإثم فيها.

ثالثا / بيع المزايدة:(المزاد العلني)

ويستثنى من النهي عن سوم الرجل على سوم أخيه بيع المزايدة فإنه جائز بإجماع المسلمين، وبيع المزايدة هو المناداة على السلعة فيزيد الناس فيها بعضهم على بعض حتى تقف على آخر زائد فيها فيأخذها.

ومن الأدلة على جواز بيع المزايدة: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال له : ما في بيتك شيء ؟ قال بلى، حلس يلبس بعضه ويبسط بعضه، وقعب يشرب فيه الماء، قال :  ائتني بهما ، فأتاه بهما فأخذهما  رسول الله صلى الله عليه وسلم  وقال : من يشتري هذين؟

فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم ، قال : من يزيد على درهم ؟ مرتين أو ثلاثا ؛ فقال رجل : أنا آخذهما بدرهمين ، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، فأعطاهما الأنصاري، وقال ( اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك؛ واشتر بالآخر قدوما فأتني به ) فأتاه به ، فشد رسول الله   صلى الله عليه وسلم عودا بيده؛ ثم قال له : اذهب فاحتطب و بع، ولا أرينك خمسة عشر يوما، فذهب الرجل يحتطب ويبيع ، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم ؛ فاشترى ببعضها ثوبا ، وببعضها طعاما ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم “هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع ”رواه أبو داوود وحسنه ابن حجر وقال الألباني صحيح لغيره.

– وأن المسلمين لم يزالوا يتبايعون في أسواقهم بالمزايدة من غير نكير.

– وأن النهي إنما ورد عن السوم حال البيع، وحال المزايدة خارج عن البيع.

4- التَسَّعِير:

التسعير في اللغة: هو تقدير السعر، والمراد به هنا: تقدير ولي الأمر سعراً، وإجبار الناس على التبايع به.

والتسعير بهذا المعنى محل خلاف بين العلماء في جوازه لولي الأمر ليلزم الناس به.

تحرير محل النزاع:

أ- التسعير في الأحوال العادية حرام كما إذا كان التجار يبيعون على الوجه المعروف وليس هناك تدخل في حرية السوق، والعرض والطلب يعملان بصورة طبيعية، فالتسعير في هذه الحالة ظلم لا يجوز باتفاق الفقهاء.

قال شيخ الإسلام: إن السعر منه ما هو ظلم لا يجوز …… وقال: فإذا كان الناس يبيعون سلعتهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر: إما لقلة الشيء، وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة عينها إكراه بغير حق، وأما الثاني: فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل ا.هـ.

ب- أما إذا تدخلت في السوق عوامل غير طبيعية كاحتكار السلع، وعدم بيعها إلا بزيادة على القيمة المعروفة ونحو ذلك من التدخل غير المشروع في عملية العرض والطلب، وما ينتج عن ذلك من غلاء مفتعل، فهل يجوز التسعير أولا؟ محل خلاف بين العلماء .

أقوال العلماء في المسألة:

القول الأول: تحريم التسعير مطلقاً. وهو قول للمالكية في رواية ، وهو الصحيح من مذهب الشافعية ، ومذهب الحنابلة في المشهور .

أدلتهم:

 أولاً: من الكتاب: قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾

ووجه الدلالة منها: أنها تفيد إطلاق الحرية للبائع، والتسعير حجر عليه، وإلزام له بصفة معينة في البيع؛ إذ قد لا يكون راضياً به، فيكون كالأكل بالباطل الذي نهت عنه الآية الكريمة

ونوقش بـ : أ- أنه لا مخالفة لمدلول الآية بالتسعير: لأنه إلزام بعوض المثل، فلا باطل فيه، بل هو مصلحة للطرفين، وإنما الباطل لو استغل أحدهما صاحبه بغير وجه حق.

ب- أن في قبول المشتري – من غير تسعير – شراء ما هو مضطر إليه، أو محتاج إليه ظلماً له، وليس هذا مقتضى التراضي المذكور في الآية.

ج- أن إجبار البائع في هذه الحالة إكراه بحق، وهو جائز بإجماع العلماء.

ثانياً: من السنة: ما ورد من الأحاديث في النهي عن التسعير، ومنها حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: غلا السعر على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا رسول الله سعّر لنا، فقال: “إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله – عز وجل – وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال” أخرجه أبو داود.

ووجه الدلالة منه: امتناعه عن التسعير مع الغلاء الحاصل، فدل على عدم جوازه، كما أنه علل امتناعه عنه بأنه ظلم، والظلم محرم، فدل على تحريمه.

ونوقش بـ: أ- أن الصورة في الحديث خارجة عن محل النزاع، كما سبق ذكره في تحرير محل النزاع؛ لأن الغلاء هنا من الله وليس بسبب التجار، وما كان كذلك فلا تسعير فيه باتفاق، قال ابن تيمية: ومن منع التسعير مطلقاً محتجاً بقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله هو المسعر…” الحديث فقد غلط، فإن هذه قضية معينة وليست لفظاً عاماً، وليس فيها أن أحداً امتنع من بيع يجب عليه، أو عمل يجب عليه، أو طلب في ذلك أكثر من عوض المثل ا.هـ. 

ب- ثم إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يحرم التسعير، وإنما امتنع من التسعير، وهذا لا يلزم منه التحريم.

القول الثاني: جواز التسعير إذا وجد له سبب معتبر. وهذا مذهب الحنفية  وذكر رواية عن مالك وبه قال بعض أصحابه ، وهو قول ثانٍ عند الشافعية ، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم .

أدلة القول الثاني:

1- حديث سمرة بن جندب وفيه: أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار، قال: ومع الرجل أهله، قال: فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، فقال: أنت مضار فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للأنصاري: “اذهب فاقلع نخله” أخرجه أبو داود والبيهقي.

ووجه الاستدلال: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أوجب عليه البيع إذا لم يتبرع ببيعها، فدل على وجوب البيع عند حاجة المشتري، فمن باب أولى حاجة عموم المسلمين

ونوقش: بأن الحديث ضعيف لانقطاعه؛ كما قرره ابن حزم والشوكاني وغيرهم.

2- وأيضا القياس على المنع من الاحتكار، وعلة النهي فيه ظلم الناس بمنعهم من الوصول إلى ما يحتاجونه من القوت، فيقاس عليه التسعير؛ لأنه يمنع الناس – وخاصة الفقراء – من الوصول إلى شراء أقواتهم بسبب الغلاء، فيجبر على البيع بثمن المثل، كما أجبر المحتكر على ذلك.

3- وكذلك القياس على الإكراه بحق فيما لو أجبر الغريم على بيع ماله لوفاء دينه. ونوقش: بأنه قياس مع الفارق، فإجبار المدين إنما هو لحق الدائن بخلاف التسعير فلا حق موجود فيه.

وأجيب عن هذه المناقشة: بوجود الحق، وهو حق عامة المسلمين في شراء ما في يده بثمن المثل بلا استغلال ولا إجحاف بعوض المثل

 4- أن في التسعير عند تجاوز التجار ثمن المثل في البيع تقديماً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ولا خلاف بين الفقهاء في تقديم المصلحة العامة في هذه الحالة على الخاصة.

5- الاحتجاج بقاعدة سد الذرائع. ووجه ذلك: أن ترك حرية الناس في البيع والشراء بأي ثمن دون تسعير هو أمر مباح في الأصل، ولكنه قد يؤدي إلى الاستغلال والجشع والتحكم في ضروريات الناس، فيقضي هذا الأصل الشرعي بسد هذا الباب بتقييد الناس بأسعار محددة عند الحاجة.

ونوقش: بأن تقييد حرية التجار في البيع فيه ضرر، والضرر لا يزال بالضرر.

وأجيب عن هذه المناقشة: بأن الضرر الحاصل من منع التسعير أعظم وأشد من الضرر الناتج من منع التسعير، ولا شك أن المفسدة الكبرى تدفع بالمفسدة الصغرى

الترجيح:

والراجح – والله أعلم – هو القول بجواز التسعير عند وجود ما يقتضيه:

1- لقوة أدلته ووجاهتها.

2- وموافقة ذلك لما تقتضيه حاجة الأمة ودفعاً للضرر عنها.

3- وأدلة المانعين قد أجيب عنها بما يقتضي عدم وجاهة استدلالهم.

4- أنه يترتب على ترك التجار في مثل هذه الأحوال ظلم الناس، والظلم لا يجوز إقراره.

5- ثم حاجة الناس إلى التسعير حاجة عامة ملحة في السلع والحرف.

إذًا: التسعير من حيث الأصل محرم لما فيه من الظلم، هذا من حيث الأصل، لكن هناك حالات يجوز للحاكم أن يسعر على التجار و يلزمهم بسعر معين، ولعل من أبرز تلك الحالات ثلاث حالات:

الحال الأولى: حاجة الناس إلى السلعة؛ إذا كان الناس يحتاجون إلى سلعة معينة لا غنى بهم عنها فللحاكم أن يلزم التجار أن يبيعوها بسعر معين.

ومن ذلك أيضًا: احتكار المنتجين أو التجار؛ أن تكون هذه السلعة محتكرة لفئة معينة من التجار لا يبيعها غيرهم، ففي هذه الحال للحاكم أن يلزم تلك الفئة أن تبيع بسعر معين مثال ذلك: شركة الكهرباء مثلًا: من المعلوم أن تقديم خدمة الكهرباء هذا يكون …. للشركة تحتكر شركة الكهرباء تقديم الخدمة للناس ففي هذه الحال لأنها تحتكر هذه الخدمة فللحاكم أن يلزم الشركة بسعر محدد؛ لأنها محتكرة الآن، ولو رفعت الأسعار لتضرر الناس، ومثله أيضًا خدمات الهاتف للحاكم أن يتدخل في التسعير ونحو ذلك.

والحال الثالثة: حصر البيع لأناس معينين؛ إذا كان بيع هذه السلعة لأناس معينين ففي هذه الحال للحاكم أن يلزمهم بأسعار محددة كما في وكالات السيارات مثلًا إذا كانت السيارات من أنواع معينة لا يبيعها إلا فئة معينة من التجار ففي هذه الحال للحاكم أن يتدخل في الأسعار.

5- من المعاملات المحرمة بسبب الظلم أيضًا: الاحتكار:

معنى الاحتكار:

هو جمع الطعام ونحوه واحتباسه والامتناع عن بيعه وبذله حتى يغلو سعره غلاءً فاحشاً غير معتاد ، بسبب قلته ، أو انعدام وجوده مع شدة حاجة الناس إليه .

أما الادخار للقوت فليس من باب الاحتكار كما سنفصل . 

حكم الاحتكار:
اختلف الفقهاء فى حكم الاحتكار على مذهبين :
المذهب الأول : أن الاحتكار محرم :
وهذا مذهب جمهور الفقهاء منهم المالكية ، والشافعية على الصحيح عندهم ، والحنابلة ، والظاهرية ، وغيرهم .
واستدلوا بحديث معمر بن عبد الله العدوى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يحتكر إلا خاطئ ) رواه مسلم
والتصريح بأن المحتكر خاطئ كاف في إفادة عدم الجواز لأن الخاطئ هو المذنب العاصي.

المذهب الثانى : أن الاحتكار مكروه : وهذا مذهب جمهور الحنفية ، وقالوا بأن الحديث الوارد فى الاحتكار من ناحية الدلالة لا يقوى على القول بالتحريم وإنما نقول بكراهته.

الحكمة من تحريم الاحتكار 
يتفق الفقهاء على أن الحكمة في تحريم الاحتكار رفع الضرر عن عامة الناس ، ولذا فقد أجمع العلماء على أنه لو احتكر إنسان شيئاً ، واضطر الناس إليه ، ولم يجدوا غيره ، أجبر على بيعه ، دفعاً لضرر الناس .

ما يجرى فيه الاحتكار
اختلف الفقهاء فيما يجرى فيه الاحتكار على قولين كالآتى :
المذهب الأول : أن المحرم إنما هو احتكار الأقوات خاصة وممن قال بهذا الشافعية ، وجمهور الحنابلة ، وكل الأحاديث التي استدلوا بها في تقييد الاحتكار بأقوات الناس لم يصح منها شيء.

المذهب الثاني : يجرى الاحتكار في كل ما يحتاجه الناس ويتضررون بحبسه فكل ما ينفع المسلمين ، ويحصل بحبسه الأذى فإن احتكاره إثم غير مشروع وبهذا قال المالكية ، والظاهرية ، وبه قال أبو يوسف من الحنفية ، والشوكاني ، والصنعاني ، واستدلوا بظاهر الأحاديث التي حرمت الاحتكار بصفة عامة من غير فرق بين قوت الآدمي والدواب وبين غيره كما في الحديث السابق “لا يحتكر إلا خاطئ ” .

والراجح هو المذهب الثاني والذى يرى أصحابه أن الاحتكار يكون في كل ما يضر بالناس حبسه ، قوتاً كان أو غيره من الملابس والأدوية ومستلزمات المعيشة ، وذلك لقوة أدلته ، لأن الحديث الصحيح الوارد في منع الاحتكار جاء مطلقا عن القيد ، فيجب العمل به مطلقا من غير تقييد . 

والاحتكار المحرم هوتحقق فيه شرطان:

1- ما كان وقت الغلاء:

 السلعة سعرها عالي الآن في السوق وبعض التجار يحتكرونها لم ينزلوها إلى السوق.

فلو كان في وقت الرخص؛ لو حبس السلعة في وقت الرخص مثلًا: الآن الماشية تباع برخص مثلًا في السوق، فجاء صاحب الماشية هذا وحبسها قال لن أبيعها الآن أنا سأبيعها في الموسم وقت عيد الأضحى، هل له ذلك؟ له ذلك؛ لأن الناس لا يتضررون بحبسها، بل بالعكس الناس ينتفعون بذلك لأنه وقت حاجة الناس إليها في وقت عيد الأضحى سيكون عمل هذا يساهم في خفض الأسعار

2- حاجة الناس للسلعة:

أما إذا كانت السلعة من الأشياء الكمالية التي لا يحتاج إليها الناس، أو لا تمس الحاجة إليها ففي هذه الحال لا حرج في احتكار السلعة وحبسها.

من الأشياء التجميلية، مثلًا التي تعتبر ترفيهية للناس كالحلويات ونحو ذلك والزينة الزائدة بالنسبة للناس فهذه لا حرج في احتكارها لأن الناس لا يتضررون بها.

ما الفرق بين الاحتكار والتخزين :
من المتفق عليه بين الفقهاء : أن الاحتكار ليس هو مطلب الحبس ، قد يحبس الإنسان قوته وقوت عياله لسنة أو لأكثر دون أن يعد هذا الفعل من قبيل الاحتكار لما روى البخاري في باب حبس نفقة الرجل قوت سنة على أهله : عن عمر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يبيع نخيل بنى النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم ) .
والحديث واضح الدلالة على أن هذا النوع من الإمساك حلال مباح ، وأنه ليس من باب الاحتكار المنهى عنه ، ومن ناحية أخرى فإن الحديث لا دلالة فيه على عدم جواز حبس القوت أكثر من سنة .
وبناء عليه فإن الاحتكار المحرم هو أن يكون الشيء المحتكر قد اشترى في وقت الضيق والشدة وغلاء الأسعار وأن شراءه واحتكاره قد ألحق ضرراً بالناس .

 وسبق الكلام عن الخلاف الوارد في الاحتكار هل يكون في كل شيء أم في الأقوات فقط ؟

وأخيراً ننبه إلى أن التجار إذا احتكروا ما يحرم احتكاره فإن على الحاكم أن يأمرهم بإخراج ما احتكروه وبيعه للناس، فإن لم يمتثلوا ذلك أجبرهم على البيع إذا خيف الضرر على العامة، ويرد عليهم الثمن.

السبب الثاني من أسباب المحرم لكسبه؛ هو الغرر

ما هو الغرر؟ الغرر في اللغة اسم مصدر من التغرير بمعنى تعريض المرء نفسه للهلكة.

وفي الاصطلاح الشرعي: تعدد تعريف العلماء للغرر ولعل من أجمع هذه التعاريف تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية للغرر بأنه: كل بيع مجهول العاقبة.

بمعنى أن يدخل الإنسان في معاملة وهو يجهل عاقبتها والجهالة هنا أن تكون جهالة في الثمن يجهل الثمن، وقد تكون جهالة في السلعة نفسها التي تشتريها، وقد تكون جهالة في الأجل، وقد تكون جهالة في صفات السلعة التي يشتريها، فمتى اشتملت المعاملة على غرر على جهالة فهي محرمة والغرر يكون فيه نوع من المقامرة لأن الشخص يدخل في العقد وهو دائر بين الغنم والغرم؛ إذا غنم أحد العاقدين غرم الآخر، وإذا غرم أحد العاقدين غنم الآخر، بقدر خسارة أحدهما يكون ربح الآخر، وقد جاء في الشريعة صور متعددة حرمت لما فيها من الغرر لاشتمالها على الغرر فنذكر هذه الصور ونذكر ضوابط الغرر لأننا سنحتاج إلى هذه الضوابط في كثير من المعاملات المعاصرة بمشيئة الله.

فمن المعاملات المحرمة التي جاءت في الشريعة لما فيها من الغرر:

1- بيع الحصاة:

فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة (أن النبي نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر.) وذكر له العلماء أمثلة لعل من أبرزها أن الرجل يعطي الآخر حصاة ويقول: ارم هذه الحصاة على هذه الأرض فما وصلت إليه تلك الحصاة من الأرض فهي لك تلك الأرض بكذا وكذا من الدراهم، قد تكون الرمية قوية فيغنم من؟ المشتري، ويغرم البائع، وقد تكون الرمية ضعيفة فيكون العكس.

ويحدث هذا البيع في مدن ألعاب الأطفال، ترمي طوقا على لعبة فإن أصبتها تأخذها وأن لم تصبها تخسر مالك.

2- بيع الملامسة والمنابذة.

 فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة (أن النبي نَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَة)

والملامسة أن يقول الرجل للآخر: أي ثوب لمسته فهو لك بكذا، قد يلمس ثوبًا مثلًا غالي، وقد يلمس ثوبًا رخيصًا، فالعقد داخل بين الغنم والغرم.

والمنابذة: أن يكون خذ هذه الحصاة فانبذها على هذه الثياب فما وقعت عليه من الثياب فهو لك بكذا، فالعقد دائر بين الغنم والغرم.

ومن ذلك أيضًا:

3- بيع حبل الحبلة.

 فقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَل الحَبَلة)

 وحَبَل الحَبَلة: يعني حمل الحمل، كانوا يتبايعون ما في حمل بطن الناقة، فيقول مثلًا: أبيعك ما ينتجه ولد هذه الناقة، هذه الناقة الآن حامل، ما يبيعوا الحمل فقط، لا، يقول: أبيعك ما يأتي من حمل الناقة من الولد، قد يخرج هذا الحمل ميتًا، قد يخرج أصلًا ذكرًا، ما يكون أنثى، قد يخرج مثلًا ذكرين، قد يخرج أنثيين، وقد يكون ولد الولد مثلًا يعني أنثيين أو ذكرين فهناك احتمالات متعددة فالعقد دائر بين الغنم والغرم ولذلك حرم.

4-النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها:

فقد جاء عن ابن عمر في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا ) ؛ لاحتمال أن تفسد قبل أن يستفيد منها المشتري.

ما العلاقة بين الغرر والقمار ؟

من المعلوم أن الميسر جاء تحريمه في القرآن، ويشترك كل من الغرر والقمار: في أن كلًا منهما محرم، ويشتركان أيضًا في أن كلًا منهما دائر بين الغنم والغرم؛ إذا غنم أحدهما –أحد الطرفين- غرم الآخر، كلاهما في الغرر والقمار، لكن يختلف الغرر عن القمار أن الغرر يكون في المعاوضات والبيوع، بينما القمار يكون في المسابقات والمغالبات، ولذلك يقال: باع غررًا أو قمارًا؟

باع غررًا، ولعب قمارًا، لكن كلاهما الغرر والقمار دائر بين الغنم والغرم، يكون في مسابقة، قد يكون القمار في مسابقة كل واحد من المتسابقين يضع مثلًا جعلًا ويضع مبلغ من المال ويكون هناك سباق بينهما مثلًا في السباقات غير المشروعة مثلًا التي لم يرد بها النص، فمن سبق منهما أخذ الجعلين كليهما، فهنا نوع من المقامرة، هذه العلاقة بين الغرر والقمار.

شروط كون الغرر مؤثرًا:

الأصل في الغرر-كما ذكرنا- هو التحريم لما في جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة ( أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ)  لكن ذكر أهل العلم أربعة شروط للغرر، إذا توافرت هذه الشروط أصبح الغرر محرمًا ومؤثرًا، أما إذا اختل شرط واحد منها فإنه ينتفي التحريم عن العقد.

1- أن يكون الغرر كثيرًا؛ أن تكون الجهالة التي في العقد كثيرة، فإن كانت الجهالة أو الغرر الذي في العقد يسيرًا فإن هذا اليسير معفو عنه ومغتفر، وقد حكى إجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم منهم النووي والقرافي وغيرهما.

2-أن يكون الغرر في المعقود عليه أصالة؛ أن يكون أصيلًا في المعقود عليه، فإن كان تابعًا للمعقود عليه وجاء في العقد تبعًا فإن الغرر أو الجهالة هنا تكون مغتفرة، فمثال ذلك: الآن بيع الحمل في بطن أمه: ما حكمه؟ هل يجوز بيع الحمل في بطن أمه؟ لا يجوز لأن فيه جهالة لأن من المحتمل أن الحمل هذا يكون حيًا أو ميتًا قد يكون ذكرًا أو أنثى، قد يكون ذكرين أو أنثيين، فهناك احتمالات يكون فيه نوع من الغرر، لكن لو اشترى الشاة وما فيها من الحمل فهذا جائز حتى ولو زادت قيمة الشاة لوجود الحمل الذي فيها لماذا؟ لأن الحمل هنا جاء تبعًا وليس مقصودًا في العقد.

3- ألا تدعو للعقد حاجة، فإن كان هناك حاجة للناس لذلك العقد فالعقد صحيح، وإن كان فيه شيء من الغرر لوجود الحاجة، ولذلك قال شيخ الإسلام: فإن تحريمه –يعني تحريم الغرر- مع وجود الحاجة أشد ضررًا من ضرر كونه غررًا.

4- أن يكون الغرر في عقد من عقود المعاوضات المالية، فإن كان في عقد تبرع فإنه يغتفر، فالغرر المؤثر هو ما كان في عقود المعاوضات، أما لو كان في عقد تبرع كما لو تبرع بشيء مثلًا وهو يجهله، أو أوصى بشيء وهو لا يعلم قدره تمامًا فإنه يغتفر هذا ويصح العقد حتى مع وجود الجهالة؛ (لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ) والبيع هو عقد معاوضة وليس عقد تبرع، والشريعة تتشوف إلى عقود التبرعات، فلذلك رخصت فيها ما لم ترخص في عقود المعاوضات.

السبب الثالث: الربا

وسنفرده بالحديث في درس مقبل إن شاء الله


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر مشرف الموقع

هو الشيخ  الدكتور/ حسين محمد عامر من مواليد بلبيس بمحافظة الشرقية -مصر-عام 1976 م . الشهادات العلمية : 1- أتم حفظ القرآن وهو ابن الرابعة عشر عاما ، وحصل على إجازة برواية حفص بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يد شيخه يوسف عبد الدايم -رحمه الله- . 2-  حصل على الإجازة

تاريخ الإضافة : 1 فبراير, 2024 عدد الزوار : 356 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم