شرح دعاء موسى ” رب إني لماأنزلت إلى من خير فقير”

تاريخ الإضافة 2 يناير, 2022 الزيارات : 14165

شرح دعاء موسى ” رب إني لماأنزلت إلى من خير فقير”

أولا / ذكر القصة التي ورد فيها هذا الدعاء:

نشأ موسى -عليه السلام- في قصر فرعون حتى بلغ أشدّه، وذات يوم وهو يمشي  بالمدينة في وقت خلت فيه الطرقات من الناس -ولعل الأمر كان ليلاً- وجد رجلين يقتتلان، أحدهما إسرائيلي والآخر مصري. فالمصري أراد أن يسخِّر الإِسرائيلي في عمل، فأبى عليه الإِسرائيلي. ولما رأى الإِسرائيلي موسى استغاث به، فجاء موسى -فأخذ بجمع يده فوكز المصري وكزة فلما رآه قتيلاً بين يديه- ولم يكن يريد قتله- قال: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين} وأصبح موسى في المدينة خائفاً يترقب، يمرّ في طرقاتها على حذر. وبينما هو في طريقه إذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه مرة ثانية، فأقبل عليه موسى وقال له: {إنك لَغَوي مبين}، أي: صاحب فتن ورجل مخاصمات، ومع ذلك أخذته حماسة الانتصار للإِسرائيلي، فأراد أن يبطش بالذي هو عدوّ لهما، لكنّ الإِسرائيلي ظن أنه يريد أن يبطش به ( فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ) (سورة القصص، الآية 19) فالتقط الناس كلمة الإِسرائيلي وعرفوا منها أن موسى هو الذي قتل المصري بالأمس. وشاع الخبر ووصل إلى القصر الفرعوني. فتذاكر آل فرعون في أمر موسى والقصاص منه.

وأتي موسي أحد الأشخاص و حذره من أن القوم يتأمرون علية لقتلة وأخبره بأن عليه أن يهرب و يترك المدينة، فما لبث أن خرج مسرعاً هارباً منهم حتى وصل إلى مدين، وكان بين مصر ومدين مسيرةُ ثمانية أيام.

ولما بلغ مدين كان قد بلغ به الجوع مبلغا، ولم يكن معه من الطعام ما يأكله، لأنه خرج خائفاً بغير زاد ولا ظهر -مركب- فجلس يرتاح عند بئر يسقي الناس منها دوابهم، ووجد الناس مزدحمين حول البئر لسقاية مواشيهم ، ورأى امرأتين تحبسان أغنامهما لأن على الماء من كان أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي ،وكانتا تكرهان المزاحمة على الماء ،ولئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم .

يقول تبارك وتعالى : ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [سورة القصص 22-24].

سار موسى نحو الماء، وسقى لهما الغنم ، وكان الرعاة قد وضعوا على فم البئر بعد أن انتهوا منها صخرة ضخمة لا يستطيع أن يحركها غير عدد من الرجال، فرفع موسى الصخرة وحده، وسقى لهما الغنم وأعاد الصخرة إلى مكانها، وتركهما وعاد يجلس تحت ظل الشجرة.

“ثم تولى إلى الظل” ويظهر من الآية أن الشمس كانت ملتهبة ولهذا بادر موسى إلى الظل مباشرة ، وهذا يدل على كمال خلق موسى عليه السلام في خدمته للفتاتين في شدة الحردون أن ينتظر منهما أجرا.

وناجى ربه قائلا: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) 

عادت الفتاتان إلى أبيهما فقال متسائلا: عدتما اليوم سريعا على غير العادة؟!

قالت إحداهما: تقابلنا مع رجل كريم سقى لنا الغنم.

فقال الأب لابنته: اذهبي إليه وقولي له: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).

ذهبت إحدى الفتاتين إلى موسى وأبلغته الرسالة، فنهض موسى معها حتى وصلا إلى الأب ، وبعض المفسرين يقول إن هذا الشيخ هو النبي شعيب عمّر طويلا بعد موت قومه، وقيل إنه ابن أخي شعيب، وقيل ابن عمه، وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب الذين آمنوا به. والله أعلم بالصواب.

سأل الشيخ موسى من أين قدم وإلى أين سيذهب وما قصته؟ فحدثه موسى عن قصته وما جرى له.

قال الشيخ: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)هذه البلاد لا تتبع مصر، ولن يصلوا إليك هنا.

 يقول تعالى: ﴿فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة القصص/25]، وفي هذا طمأنة الخائف بالكلمات الإيجابية وزرع التفاؤل في حياته، فموسى غريب في ذلك البلد وهو بحاجة لمجتمع صالح يأنس معه، ويحتاج لشخص يقف بجانبه في غربته .

وهنا طلبت إحدى الفتاتين من والدها أن يتخذ موسى عليه السلام أجيرًا عنده لقوَّته وصدقه وأمانته قائلة له: ﴿ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ [سورة القصص/26] سألها الأب: كيف عرفت أنه قوي؟

قالت: رفع وحده صخرة لا يرفعها غير عدد من الرجال.

سألها: وكيف عرفت أنه أمين؟

قالت: رفض أن يسير خلفي وسار أمامي حتى لا ينظر إلي وأنا أمشي.

فقال الشيخ لموسى : إني أريد يا موسى أن أزوجك إحدى ابنتي على أن تعمل في رعي الغنم عندي ثماني سنوات، فإن أتممت عشر سنوات، فمن كرمك، لا أريد أن أتعبك، (سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).

قال موسى: هذا اتفاق بيني وبينك، والله شاهد على اتفاقنا، سواء قضيت السنوات الثمانية، أو العشر سنوات فأنا حر بعدها في الذهاب.

وقضى موسى الأجل الأكبر عشر سنين، كما في الحديث عن عقبة بن المنذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل أي الأجلين قضى موسى؟ قال: ” أبرهما وأوفاهما “رواه البزار

قال تبارك وتعالى حكاية عن الرجل الصالح : ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾ [سورة القصص27-28].

 ثانيا / معنى الدعاء :

 (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ذكر حاله إلى ربه تبارك وتعالى فقال: يا رب مع ما أنعمت علي به من نعم كثيرة وغمرتني بفضلك وإنعامك من ولادتي إلى نجاتي من تآمرهم على قتلي وبلوغي محل الأمان هنا بمدين إلا أني مازلت محتاجا لمزيد من العون والعطاء فأنا محتاج إلى طعام ومأوى (مسكن) ، وبعض المفسرين قالوا : إن موسى كان يدعو دعاء المؤمن الواثق بربه وأنه على يقين أن رزقه نزل من عند الله لكنه يسأل الله تعجيله وأن يسوقه إليه وكأنه يقول : أنا يارب فقير محتاج لتعجيل هذا الرزق . 

واللَّه تعالى كما يحب من الداعي أن يتوسل إليه بأسمائه، وصفاته، ونعمه ، فإنه يحب منه أن يتوسّل إليه بضعفه، وعجزه، وفقره، و عدم قدرته على تحصيل مصالحه، ودفع الأضرار عن نفسه، لما في ذلك من إظهار التضرع و المسكنة، والافتقار للَّه  الذي هو حقيقة كل عبد.

ثالثا / تضمنت هذه الدعوة المباركة جملاً من الفوائد منها:

1 – أن الشكوى إلى اللَّه تعالى لا تنافي الصبر، بل من كمال الإيمان باللَّه تعالى، والرضا بقدره، و العبد أضعف من أن يتجلد على ربه و لا يشكو إليه حاله فإنه إذا كان سادات الخلائق و هم الأنبياء المعصومون صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين قد أثنى الله تعالى عليهم حيث شكوا ما بهم إلى الله تعالى فقال تعالى عن بعضهم : { و ذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } و أثنى على أيوب بقوله : { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } و على يعقوب : { إنما أشكو بثي و حزني إلى الله } و على موسى بقوله : { إني لما أنزلت إلي من خير فقير } [ و قد شكا إليه خاتم أنبيائه و رسله بقوله : اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي و قلة حيلتي و هواني على الناس أنت أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين ] الحديث المشهور في دعاء الطائف و هو دعاء عظيم ، فالشكوى إلى الله تعالى لا تنافي الصبر و لا الرضا بل إعراض العبد بالشكوى إلى غيره من جهله بخالقه و عدم رضاه و صبره بما ابتلاه الله تعالى به و الله تعالى يمقت من يشكوه إلى خلقه و يحب من يشكو ما به إليه.

2 – اللجوء والتضرع والدعاء والافتقار للخالق جل شأنه، وفي الحديث (من لم يسأل الله يغضب عليه ) والله تبارك و تعالى يختبر عباده بالمصائب والمحن ، فيبتلي عبده ليسمع شكواه و تضرعه و دعاءه و صبره و رضاه بما قضاه عليه فهو سبحانه و تعالى يرى عباده إذا نزل بهم ما يختبرهم به من المصائب و غيرها و يعلم خائنة أعينهم و ما تخفي صدورهم فيثيب كل عبد على قصده و نيته و قد ذم الله تعالى من لم يتضرع إليه و لم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالى : { و لقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم و ما يتضرعون }
قيل لبعضهم : كيف تشتكي إلى من لا يخفى عليه خافية في الأرض و لا في السماء ؟ فقال :
( قالوا : أتشكو إليه … ما ليس يخفى عليه )
( فقلت : ربي يرضى … ذل العبيد لديه )

4- هذا الدعاء يدعو به كل من افتقد نعمة من النعم ( الأمان بعد الخوف، الأولاد ، المال ، الصحة ، العمل …الخ) فقد استجاب الله دعاء نبيه موسى عليه السلام ، وكان أحد مشايخنا يقول : هذا دعاء كانت نتيجته شقة وعروسة وعقد عمل عشر سنين ، بالفعل تزوج موسى وأقام مع والد زوجته وعمل معه لعشر سنين .


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود

 رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود   ما أجمل أن يتلمس الدعاة في عصرنا الحاضر السير على خطى الأنبياء، والتخلق بأخلاقهم، والاقتداء بهم في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، من خلال المنهج القرآني في عرض قصصهم، وأحوالهم مع أقوامهم؛ من خلال دراستي لأحد سور القرآن (سورة هود)

تاريخ الإضافة : 24 أبريل, 2024 عدد الزوار : 38 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع