عبادات تعلمناها من أهل غزة
تتسارع وتتلاحق الأحداث بصورة كبيرة ما بين الجمعة إلى الجمعة، ويحار الخطيب في أي موضوع يتكلم، وكيف يتناول الموضوع بما يسمح به الوقت.
لكني سأعطي بعض الإشارات التي نحتاج إليها لتكون خطبة الجمعة شحنة إيمانية طوال الأسبوع.
أولا/ ذكرى الإسراء والمعراج:
اعتاد المسلمون في شهر رجب أن يحتفلوا بذكرى الإسراء والمعراج، وليس هناك قول قطعي في شهر وقوعه ولا يوم وقوعه، إلا أننا على يقين أنه وقع، وأغلب المؤرخين على أنه وقع في شهر رجب، وذُكرت معجزة الإسراء والمعراج في سورتي الإسراء والنجم، وثبتت تفاصيل ذلك في كتب الصحيحين والسنن عن تفاصيل هذه الرحلة المباركة.
وأقف سريعا مع بعض الإشارات في هذه الرحلة المباركة، وأولها أن نعلم أن هدية الله تعالى في هذه الرحلة المباركة كانت هي الصلاة.
الصلاة صلة بين العبد وربه، معراج المؤمن إلى الله عز وجل، وحظ المسلم من دينه، الصلاة هي منار الإسلام وعمود الدين، ولذلك يجب علينا أن نحافظ على صلواتنا، وأن نربي أبناءنا على إقامة الصلاة وتعظيم شعائر الله.
ثم نلمح من حدث الإسراء والمعراج أهمية المسجد الأقصى، ورمزية الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم المعراج من المسجد الأقصى إلى السماوات العلى. وأن المسجد الأقصى لا تقل حرمته ولا قدسيته عند المسلمين عن بيت الله الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونلمح من الإسراء والمعراج كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم واجه قبل هذه الرحلة المباركة ابتلاءات عدة وكبيرة، ولكنه صلى الله عليه وسلم ثبت محتسباً عند الله تعالى.
قامت عليه الدنيا ولم تقعد لأنه جاء يدعوهم إلى الله الواحد الأحد، فآذوه ومنعوا من آمن به.
وشاء الله تعالى في العام العاشر من البعثة أن تموت زوجته أم المؤمنين خديجة، التي كانت نعم الزوجة ونعم السكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومات عمه أبو طالب، الذي طالما منع عنه أذى المشركين.
وذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فكانوا غلاظ الأكباد سيئي الأفعال سفهاء الأحلام…. آذوا رسول الله وسلطوا عليه عبيدهم وسفهاءهم ليرمونه بالحجارة.
وجلس الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، سيد العابدين لرب العالمين، يشكو حاله وضعفه إلى ربه قائلاً:
«اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك لك العتبى([1])حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله([2]).
ثانيا/ عبادات تعلمناها من أهل غزة:
لكأني أتمثل بهذه الكلمات والدعوات الصادقة التي خرجت من رسول الله يشكو حاله لمولاه أتمثل إخواننا في غزة في هذه الأشهر العجاف الصعبة الماضية، وكيف أن العالم تكالب على حصارهم وأعان عدوهم على التضييق عليهم، والشهداء الذين كانوا يرتقون ليل نهار… كانوا يشكون إلى الله ضعف قوتهم وقلة حيلتهم، يشكون إلى الله جوعهم وحصارهم وتشردهم من مكان إلى مكان، حيث لا أمن ولا أمان. ولكن يربط الله على القلوب ويمنحها من السكينة ما لا يحيط علمًا به أحد.
لقد ظننا في اليوم التالي لوقف إطلاق النار أننا سنرى قومًا بؤساء قد مستهم الحرب بالبأساء والضراء، يعلو وجوههم غبرة وهمّ واكتئاب وحزن لا ينتهي.
لكنا رأينا وجوهًا وكأنها ترفل في النعيم مدة خمس عشرة شهرًا. .. رأينا وجوهًا باسمة ضاحكة مستبشرة، وجوهًا تبين كيف أن يقينهم بأن ما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، يقين المؤمن الذي يقولها بصدق: “إن لله ما أخذ ولله ما أعطى، وكل شيء عنده بمقدار”.
لقد علمنا أهل غزة أن العبادات التي كنا نسمع عنها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومواقفه ومواقف أصحابه والتابعين كنا نظنها شيئًا مطويًا في الكتب.
لقد رأيناها بأم أعيننا، رأينا معنى اليقين بالله والثقة في نصر الله.
علموا العالم العزة، وأن يموت أحدهم مرفوع الرأس موفور الكرامة، لا يلين ولا يستكين ولا يتسول حريته ممن سلبوها منه.
وكنت قد أشرت في الأسبوع الماضي كيف أن مشهدًا واحدًا لهذا الرجل الذي أحببناه في الله وإن لم نكن نعرفه قبل هذا المشهد، الشيخ خالد نبهان، الذي ارتقت حفيدته في إحدى الغارات على بيتهم، فجعل يقبلها ويقول: “يا روح الروح”، ويحمد الله تعالى على ما أصابه.
وكأني التفت إلى دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان يدعو ويقول: “اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا”.
لقد رزقهم الله اليقين الذي به هانت عليهم مصائب الدنيا.
ودّع حفيدته وقبلها قبلة حانية وحضنًا دافئًا، ثم وضعها في أكفانها، والعالم يشهد هذا المشهد الإنساني الكبير. حتى أن أحد المعلقين في وكالة إخبارية أمريكية قال: “هذه صورة مسلم بلحية وعمامة طالما صُدرت إلينا على أنها صورة الإرهابي على مستوى العالم. الآن نرى صاحب اللحية والعمامة إنسانًا عنده رحمة وعنده رضا وعنده استسلام لأمر الله”.
إسلام الأمريكي كريستوفر ميكس:
هذا المشهد حرك الأمريكي كريستوفر ميكس، الذي استضافته قناة الجزيرة مباشر ليحكي قصته مع هذا المشهد :
قال ميكس “في شهر أكتوبر 2023، وعيت بمعاناة الشعب الفلسطيني اليومية. ومنذ ذلك الحين، تحطم قلبي مرة تلو الأخرى. لم أشعر قط بمثل هذا الحزن العميق. لم أذرف مطلقًا مثل هذا القدر من الدموع”.
وأوضح أنه شعر بذنب كبير لأن بلاده ترسل الذخائر والقنابل التي يقصف بها الاحتلال قطاع غزة “لقد رأيت القنابل التي نرسلها تمزق الأبرياء في غزة، وشعرت بذنب كبير وعار شديد، وأنني لا حول لي ولا قوة.
حاولت تخدير هذه المشاعر التي لا توصف، لكن بدا أن ذلك يزيد الأمر سوءًا”.
لكن نقطة التحول في حياة ميكس جاءت بعد نحو شهرين من بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، وتحديدًا في ديسمبر، فيقول عن ذلك “رأيت رجلًا مسنًّا بلحية بيضاء يحمل جثة طفلة صغيرة، وهو يداعب وجهها بلحيته بحنان للمرة الأخيرة قبل أن يضعها وهو يحمد الله… لا أعتقد أنني بكيت في حياتي مثلما بكيت حينها”.
وأضاف “بينما بدأت الأفكار تتشكل عن هذا الإيمان العظيم، سرعان ما سيطرت مشاعر الحزن والغضب والكراهية والذنب.
ماذا يمكنني أن أفعل للتعبير عن تعاطفي مع هذا الرجل؟ ماذا يمكنني أن أفعل لأقول له: أنا آسف؟”.
وفي محاولة للبحث عن السكينة والسلام الداخلي، أشار ميكس إلى أن شخصًا ما نصحه بزيارة المسجد للصلاة من أجل غزة “اقترح عليَّ أحدهم على الإنترنت أن أذهب إلى المسجد وأصلي من أجل غزة.
كنت قبل سنوات قد توقفت عن وصف نفسي بالمسيحي، لكنني ما زلت أؤمن بالخالق، لذا فكرت في تجربة الأمر”.
وصف ميكس مشاعره حينها قائلًا “كنت متوترًا للغاية، لكن لا أعتقد أنني كنت سأشعر بأسوأ مما كنت أشعر به في تلك اللحظة. لذا لم يكن لديَّ ما أخسره.
وبعدما دخلت المسجد، بدأت في الصلاة.
وعندما رأيت الآخرين يسجدون وضعت رأسي مثلهم على الأرض، وشعرت حينها أن الكثير من الناس ينظرون إليَّ.
لكن ذلك لم يهم، فلم أكن هناك من أجلهم”.
بعد أسابيع من الذهاب المستمر إلى المسجد، أعلن كريستوفر إسلامه في 12 من يناير 2024، وأوضح “بعد بضعة أسابيع من الذهاب إلى المسجد يوميًّا، نطقت بالشهادة، الإخوة هنا استقبلوني بكل ترحاب….أشعر حقًّا أنني أنتمي إلى هنا….أشعر أنني محظوظ جدًّا أنني اهتديت للإسلام”.
واختتم الشاب الأمريكي قصته بالإشارة إلى أن كل ذلك بدأ مع الشهيد خالد النبهان “كل ذلك بدأ مع العم خالد، إنه روح الروح بالنسبة لي، أسأل الله أن يمنحه أعلى مراتب الجنة”.
وفي النهاية أقول: إن إخواننا في غزة جعلونا نرى بأعيننا هذه العبادات من الصبر والاستسلام والثقة واليقين بالله عز وجل، والاحتساب، والفرح بما يقدره الله تعالى لهم، والشوق لمرضاته، والسعي إلى البذل والعطاء والإيثار. وكيف أنهم ثبتوا هذا الثبات رغم ما أصابهم، فلم يلينوا ولم يستكينوا.
ثالثا/ هل ما حدث نصر أم هزيمة؟
وأود أن أشير إلى نقطة هنا، وهي أنه بعد انتهاء الحرب الأسبوع الماضي أو توقف إطلاق النار المؤقت، صار جدال، وأنا أظن أن السوشيال ميديا فكرتها تعتمد على الجدال في الأساس: أن تقول فكرة، وغيرك يردها، وهذا يرد، وهذا يرد، دون الوصول إلى شيء… مجرد إعجاب كل ذي رأي برأيه إلا من رحم الله.
هل ما حدث كان نصرًا أم هزيمة؟
المنهزمون يقولون إنها هزيمة؛ لأنهم أصلاً يرون ضآلة حجمهم وصغر عقولهم ورداءة أفكارهم، فهم يعبرون عما بداخلهم لأنهم أصلاً منهزمون نفسيًا.
أو كما قلنا، إنهم ممن يقبضون من الصهاينة، “صهاينة الشنطة” يخرج ليتكلم بهذا الكلام، وهناك الذباب الإلكتروني، وهذه الأشياء كلها معروفة، لبث ونشر هذا الأمر.
لكن أنا لا أريد أن أحول المنبر إلى نشرة أخبار، أقول لهم باختصار: اقرأوا تصريحات الحكومة الإسرائيلية والإعلام الإسرائيلي، فإنهم يقرون أن ما حدث هزيمة.
من الناحية الشرعية، العلماء يقولون إنه لا تُقاس الهزيمة والنصر بالخسارة والمكسب.
يعني هؤلاء كم خسروا؟ وهؤلاء كم كسبوا؟ لا يُقاس هكذا؛ ليست مباراة كرة قدم؛ إنما يُقاس بالنتائج على الأرض.
النتائج على الأرض:
أولها لم ينالوا شبرا سيخرجون من كامل غزة.
ثانيا تحرير الاسرى.
لكن المقابل كبير نحن نتكلم عن قرابه 50 ال شهيد واكثر من 100000 جريح!!
نقول هذه هي معركه الشرف والكرامة وهذه نتيجة الصراع بين الحق والباطل، وقد تكلم القران الكريم ليكسر هذه المعاني المادية في نفوس الناس: أن القوي عندهم هو الأكثر عدة وعتاد ودعم وخطط عسكرية وتكنولوجيا.
كلا فإن الله تعالى قال لنا (كم من فئة قليلة غلبت فئه كثيرة باذن الله)[البقرة:249] هذا قانون رباني : فليست المسألة من يملك سلاحا أكثر وعتادا هو الأقوى وهو المنتصر.
في غزوة بدر قال الله تعالى: ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) [الأنفال :12]
بماذا تفيد الطائرات والدبابات وكل هذه الأسلحة؟ بماذا تفيد الجبان أو المرعوب أو الخائف (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) وقد قرانا تصريحا لأحد جنرالات جيش الاحتلال وهو يقول: “إن جنودنا بغزه عميان ” وهذا الذي رأيناه بالفعل، يخرج المقاتل معه العبوة ، وهناك طائرات تستطلع وتستكشف ورادارات والدبابة الميركافه التي صعدوا بها إلى السماء فيها وفيها وإمكاناتها … فيلصق العبوه المتفجرة ويرجع كما كان سليما معافا، بل ويتم التصوير ويذاع على الملأ.
فعلا صدق الرجل جنودهم عميان !!! كيف هم عميان؟
هذا تدبير ربك (كم من فئة قليلة غلبت فئه كثيرة باذن الله)[البقرة:249] يقولون في جباليا شكوا إن في بيت فيه مقاتلين قامت الطائرات بالمسح الحراري والتصوير ما في أحد ادخلوا الطائرات المسيرة ليس هناك أي شيء …ادخلوا الكلاب البوليسية لتشم إن كان هناك مفرقعات أو بارود أو شيء لا يوجد شيء…. حينئذ دخل 26 جندي من جيش الاحتلال تفجر البيت بما فيه!!! هذا هو تدبير الله عز وجل.