وصايا لقمان : 7- “ولا تصعر خدك للناس”
نواصل الحديث عن وصايا لقمان في القرآن :
مع الوصية السابعة وهي الواردة في قوله تعالى : -( ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور )- [لقمان/18]
ولا تصعر خدك للناس:
الصعر(بفتح الصاد والعين) مرض يصيب الإبل في الرقبة فلا تستطيع تحويل الرقبة وقد يميل العنق إلى جانب دون الآخر ، والمقصود هنا أن المتكبر يكلم الناس بظهره ولا يلتفت إليهم بوجهه ، فشبه الله سبحانه وتعالى الكبر من هذا الشخص بالجمل الذي أصيب بالصعر فلا يستطيع أن يدير عنقه ، والصعر داء عضوي والكبر أيضا داء لكنه أخلاقي .
إذن هذه الوصية فيها نهي عن الكبر وأمر بالتواضع وخفض الجناح للناس .
المنة لله في كل نعمة:
بداية المؤمن لا يرى أن له فضلا في نعمة أنعم الله عليه بها ، فالمنعم هو الله ، والمنة لله في كل نعمة ، نحن مكتسبين للنعم ،سواء كانت النعمة قوة وعافية ، أو كانت علما وخبرة ،أو كانت شهادة أومال أو منصب …الخ ، كل هذه النعم هي من عطاء الله سبحانه وتعالى وإنعامه ، فالغنى ليس كرامة والفقر ليس إهانة؛ بل هذا امتحان من الله عز وجل.
فالمؤمن يرى منة الله عليه فيما أعطاه ، ويرى أن حق هذه النعمة أن يجعلها في مرضاته لا في أن يتكبر على الناس ويترفع عليهم .
صور من تواضع الرسول -صلى الله عليه وسلم-
كان -صلى الله عليه وسلم- وهو من هو في مكانته أرفع الناس قدرا وأعلاهم منزلة وهو القائل (أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) كان التواضع سمةً ملازمةً له صلى الله عليه وسلم في حياته كلها: في جلوسه. في مشيه وركوبه.. في أكله وشربه.. بل في شأنه كله، فنراه صلى الله عليه وسلم في أكله وجلوسه يأكل كما يأكل العبد ويجلس كما يجلس العبد ويقول: «آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ»
– ومِن تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنَّه إذا مرَّ على الصِّبيان، سلَّم عليهم، كما يحكي أنس رضي الله عنه: (أنَّه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم، وقال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يفعله)
– وعنه قَالَ: ” إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ ” والْمرَاد من الْأَخْذ بِيَدِهِ : لَازمه ، وَهُوَ الرِّفْق والانقياد ، فلَو كَانَ لأمة حَاجَة إِلَى بعض مَوَاضِع الْمَدِينَة ، وتلتمس مِنْهُ مساعدتها فِي تِلْكَ الْحَاجة ، واحتاجت بِأَن يمشي مَعهَا لقضائها : لما تخلف عَن ذَلِك حَتَّى يقْضِي حَاجَتهَا .
– ورآه رجل وقد أقبل النبي عليه فأخذته رعدة من هيبته صلى الله عليه وسلم ؛ فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن هدَّأ روع الرجل وقال له قولته الشهيرة: «هوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ مَلِكًا، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ القَدِيدَ [اللحم المجفف]» فبيَّن للرجل أنه ليس بمَلِك، وذكر له ما كانت تأكله أمه لبيان أنه رجل منهم، وليس بمتجبر يُخاف منه.
– وكان يخفض جناحه للمؤمنين ولا يتعاظم عليهم، ويجلس بينهم كواحد منهم، ولا يُعْرَف مجلسه مِن مجلس أصحابه؛ لأنَّه كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ولم يكن يجلس مجلسًا يميزه عمن حوله، حتى إن الغريب الذي لا يعرفه إذا دخل مجلسًا هو فيه، لم يستطع أن يُفَرِّق بينه وبين أصحابه!! فكان يسأل: «أَيُّكم مُحَمَّدٌ؟! والنبيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئٌ بين ظَهْرَانِيهِم!..»
– وكان صلى الله عليه وسلم يمنع أصحابه من القيام له، وما ذلك إلا لشدة تواضعه، فقد خرج صلى الله عليه وسلم على أصحابه متكئًا على عصًا، فقاموا له، فكره صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه: «لَا تَقُومُوا كَمَا يَقُومُ الْأَعَاجِمُ، يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا»
(أذلة على المؤمنين ):
ونقرأ في آيات القرآن الكريم آيات تحث على التواضع ؛ فوصف الله تعالى عباده المؤمنين بأنهم : -( أذلة على المؤمنين )- [المائدة/54] والبعض يفهم الآية خطأ ويتساءل : كيف أكون ذليلا على المؤمنين ؟! وهل الذلّة هنا صفحة محمودة؟
الذلّ هو الخضوع واللين، وإذا كان من جهة الإنسان نفسه فهو محمود، بمعنى أنه يختار أن يخضع لمن يستحق الخضوع له، بإرادته ورغبته، تكريماً لمن ذل وخضع له، ومعنى الذلة للمؤمنين أن أقوم بخدمتهم وضيافتهم ،أو بتعليم الجاهل برفق ونصحه بغير عنف أوأن أسعى في قضاء حوائجهم …الخ ، ولذلك أمر الله الابن البار أن يذلّ لوالديه تكريماً لهما، قال تعالى: “واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً” (الإسراء: 24)، تقول: ذل الابن لوالديه فهو ذليل لين خاضع، مأجور عند الله، والابن يقوم بذلك مع والديه حبا وكرامة لا قهرا وهوانا ، وقد فعلا معه أكثر من ذلك في صغره .
وإذا كان الذل من طرف خارجي فهو قهر وإخضاع وإذلال، وهو مذموم، لأن الطرف الخارجي يريد إذلال وإهانة واستكانة من يذلّه ويخضعه.. ولذلك يأبى المسلم أن يذل ويخضع لعدوه ، ويكون عزيزاً أمامه، ويوقن أن مصدر عزه بالله ، وأن حياته وموته ورزقه كل ذلك بيد الله الذي خلقه جل وعلا .
واخفض جناحك:
وقال تعالى لنبينا : -( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين )- [الشعراء/215] بلين جانبك, ولطف خطابك لهم, وتوددك, وتحببك إليهم, وحسن خلقك والإحسان التام بهم.
ولذلك بعض الناس ممن يتصفون بالغلظة والخشونة حينما تكلم البعض منهم في شيء تهابه لغلظته أو لطول لسانه ، فلا تستطيع أن تتكلم معه ، وبعض الناس تألف الحديث معه وإن لم تكن تعرفه من قبل، فنقول هذا لين الجانب إذا حدثته ارتحت في الحديث معه .
فهذه وصية للرسول ولنا من بعده بالتواضع ولين الجانب، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الله عليه وسلم: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ»
الكبرلا يليق بالمسلم :
الكبر كبيرة من الكبائر ، لا يليق بالمسلم أبدا أن يتصف بها ،(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبرٍ)، قال رجلٌ: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنةً. قال: (إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكِبْرُ: بطَر الحق، وغمط الناس)؛ رواه مسلم.
(بطر الحق)؛ أي: عدم قبول الحق ، ورده تجبُّرًا وترفُّعًا.
(غمط الناس): احتقار الناس.
فالمتكبر يتعالى عن أن يعتذر أو يعترف بخطأ فهو لا يخطأ أبدا ، بل هو الملهم العبقري صاحب الإبداعات الكبيرة الذي لا يأتيه الخطأ أبدا ولا يرد عليه ولا على أفعاله ، فهو دائما متعالي لا يقبل الحق ، وهو أيضا يحتقر الناس وكأنه من طينة غير طينتهم ، أو من طبقة راقية ، فيحتقر الناس من حوله ، ولا أجد وصفا أبلغ لهذا المتكبر وحاله مع الناس من وصف نبي الله عيسى حينما قال : “مثل المتكبر كرجل في قمة جبل يرى الناس صغارا ويرونه صغيرا.”
كيف نربي أبناءنا على التواضع ؟
1- القدوة :
فالإنسان منا ابن بيئته الذي يرى والديه من هذه العينة الأخلاقية الرائعة التواضع واللين وحسن الخلق وطيب الكلام سيقلد والديه في ذلك ، والذي يرى الكبر والأنفة والتعالي واحتقار الناس ستجد الأبناء بتلقائية يحاكون آباءهم في طريقة تعاملهم مع الناس ، فالقدوة أسرع وسيلة للتأثير والتربية .
2- الحمد لله في كل نعمة:
أن نربي أبناءنا على حمد الله في كل نعمة ، في كل نجاح أو تفوق أو فوز يتعود أن يحمد الله وينسب الفضل لله ، يقول أنا نجحت بفضل الله ، أنا الحمد لله حصلت على درجات جيدة في الامتحان ….وهكذا لكن لا يقول أنا الأول أنا الوحيد أنا الذي …الخ ، فعلمه ألا يغتر ، ولا نشجعه على تضخيم الأنا والذات ويصل لمرحلة ورم الذات والكبر .
3- لا تبالغ في مدح الشيء التافه :
بعض الآباء لفرط حبه لابنه إذا حصل ابنه على درجات ضعيفة يحتفل به ويقول ما شاء الله على النجاح والتفوق والدرجات العالية !!! هذا الذي تقول شئ تافه ، ويشجع ابنك على مزيد من الفشل، فأنت بذلك تجعل أي فشل هو نجاح بالنسبة له .
في الأيام الماضية مع كثرة المظاهرات في عالمنا العربي بسبب سوء الأحوال المعيشية قالوا عن تعريف الوزير : هو رجل كثر الفشل في حياته فأردنا أن نستفيد من خبراته فعيناه وزيرا !!!
هذا تعريف الوزير !! فالفاشل الذي يعد الفشل نجاحا نشأ عنده هذا الأمر بسبب التدليل الزائد من أبويه ، ومدحه وتفخيمه عند عمل إي إنجاز تافه أو حقير.
لا مانع من التشجيع والتمييز لكن لا تساوي بين من حصل على الدرجات النهائية مع من حصل على درحات سيئة .
4- المبالغة الزائدة في المدح :
يقول البعض لابنه أنت الأول على العالم في كذا ، تقول لابنتك أنت أجمل بنت في الدنيا …الخ
الأجمل والأقوى والأحسن هذه مبالغات تربي الأبناء على الغرور وحب الأنا ، ولا مانع من المدح والثناء لكن بالقدر المعقول .
5- تربية الابن على معاملة الصغير بالرحمة والكبير بالاحترام :
وهذا ما علمنا إياه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما قال :” ليسَ منَّا مَن لم يَرحَم صغيرَنا ولم يوقِّر كَبيرَنا” وفي رواية زيادة : “ويَعْرِفْ لعالِمِنا حقَّهُ”
فيرحم الصغير فلا يحتقره ولا يذله ولا يهينه ويسبه وهذا الذي يسمونه الآن “التنمر” ومعناه : أن ولدا قوي البنية أو يكبرمن حوله ببعض السنوات فيحاول أن يؤذيهم أو يأمرهم أو يتسلط عليهم .
فنربي أبناءنا على الرحمة بالصغير ، واحترام الكبير فلا تسمح لابنك أن يسخر من معلمه أو معلمته أمامك ، أو يسخر من شخص كبير من عمه أو جاركم ، فهذا يؤدي للأسف للغرور والكبر وسوء الأدب .
فنعلمه ونؤدبه فيتكلم عن الكبير باحترام وأنه ليس كل ما يراه صوابا فهو الصواب فخبراتك في الحياة لا تزال ضعيفة ، ولذلك نجد بعض الأبناء مصابا بالغرور لأنه -حسب اعتقاده- يفهم كل شئ ويعرف كل شئ ، وربما لو أردت إفادته يقول أنا سأشرح لك ليس عن علم إنما عن مكابرة وغرور .
نكتفي بهذا القدر ونواصل بقية الوصايا إن شاء الله .