وصايا لقمان : 8- “ولا تمش في الأرض مرحا” خطبة مفرغة

تاريخ الإضافة 15 سبتمبر, 2022 الزيارات : 5798

وصايا لقمان : 8- “ولا تمش في الأرض مرحا”
نختتم اليوم الحديث عن وصايا لقمان لولده في القرآن :
وتوقفنا عند قول لقمان لابنه : –( ولا تصعر خدك للناس )- [لقمان/18] والمعنى كما ذكرنا أنه ينهاه عن الكلام مع الناس بالكبر وأن المسلم إذا أراد أن يخاطب الناس أو يحادثهم يقبل عليهم بوجهه كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فكان كما وصف يقبل جميعًا ويدبر جميعًا، وإذا التفت وراءه التفت كله، من غير ليٍّ لعنقه يمنة أو يسرة،فلم يكن يتكلم بجنب أو يكلم الناس بظهره .
فالمعاملة مع الخلق تكون بلين الجانب بلا غلظة ولا كبر ( ولا تصعر خدك للناس )- [لقمان/18]
ثم أوصاه لنفسه قائلا : -( ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور )- [لقمان/18]
في أكثر من موضع أشار القرآن لموضوع كيفية المشي وهيئة المشية التي يمشيها المسلم فقال تعالى :
1- ( ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور )- [لقمان/18]
2- وقال تعالى : -( ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا )- [الإسراء/37] نعم فمهما دببت في الأرض فلن تخرقها ، ومهما تطاولت بعنقك ، فلن تبلغ الجبال طولا!!
3- وقال تعالى : -( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )- [الفرقان/63]
ما معنى مرحا ؟
أي كبرا وتعاليا فنهينا كمسلمين أن يمشي أحدنا مشية المتكبر ، التي إن رآها الناس رأوا منه الكبر ، ووصف عباد الرحمن بأنهم يمشون على الأرض هونا أي: بسكينة ووقار وتواضع بغير تجبر ولا استكبار.

مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم:
و كانت مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدل المشيات، كأنما تُطوى له الأرض طيًّا،كما وصفه علي بن أبي طالب: “كأنما ينحدر من صبب” كأنما ينزل من مرتفع إلى منحدر يعنى يمشى على أطراف أصابعه كما يفعل الرياضيون الآن فهذه مشية أولى العزم والهمة والشجاعة .
قال أبو هريرة رضي الله عنه: ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدًا أسرع من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا وإنه غير مكترث. رواه أحمد والترمذي في الشمائل.
فمشيته -صلى الله عليه وسلم- لم تكن فيها كبر ولا تماوت إنما قوة وتواضع ، وهو من هو -صلى الله عليه وسلم- ؟

البعض حينما يحصل على شهادة أو درجة وظيفية، أو لما يكون هنا بكندا ويرجع إلى قريته أو الحارة التي تربي فيها يتعالى ويتكبر ويكلم الناس بطرف لسانه -إلا من رحم ربي – ، وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير خلق الله صعد إلى السموات العلا وإلى سدرة المنتهى وكلم رب العزة جل وعلا ، ورأى ما رأى من آيات ربه الكبرى فلما عاد جلس يأكل على الأرض متواضعا غاية التواضع وهو يقول إنما أنا عبد ، أجلس كما يجلس العبد،  وآكل كما يأكل العبد، وهو قدوتنا في ذلك كله -صلى الله عليه وسلم- .
مشية المتماوتين :

رأت الشفاء أم عبد الله شبّانا يمشون متماوتين ؛ فسألت عنهم من هؤلاء ؟

فقيل لها : هؤلاء نساك – عباد !!! قالت: رحم الله عمر لقد كان إذا مشى أسرع ، وإذا تكلم أسمع ، وإذا ضرب أوجع ؛ وكان الناسك حقا .
والبعض يظن أن المسلم الطيب هو المنكمش المطأطيء الرقبة لماذا ؟

هذا مسلم بتاع ربنا على نياته رجل طيب ، ومن زعم أن الإسلام يفعل هكذا باتباعه ؟ أو أن هيئة المتدين هذه الهيئة ؟ منكسر منكمش ضعيف هزيل ؟ هذا كله لا علاقة له بالدين !!

ولما رأى عمر رجلا يصلى وقد جعل رأسه في صدره فقال ياهذا لا تمت علينا ديننا ، ارفع رأسك فإن الخشوع في القلب وليس في الرقبة .
واقصد في مشيك:

ولذلك قال بعدها -( واقصد في مشيك )- [لقمان/19] كن وسطا في مشيتك لاتسرع إسراعا يقلل مروءتك أو يعرضك لبعض المخاطر، ولا تتماوت فيظن من يراك أنك مريضا ، وهذا إلا لمن كان له عذر ، كمن يمشي مسرعا لإدراك الباص أو تأخر عن عمله مثلا؛ فهذا وارد في بعض الأحيان ، والعكس أيضا لو واحد مريض ولا يقوى على المشي بقوة فيمشي كما يستطيع على حسب قوته .
والبعض يقول : إن الإنسان يمشي على فطرته وكل إنسان منا له طبيعة ؟ نقول نعم لكن إذا كانت المشية فيها كبر أو سرعة أو تماوت بلا عذر فلا بد أن يعوّد الإنسان نفسه على المشية المعتدلة ، والأطباء حينما يشكو أصحاب بعض المهن من ظهره أو آلام في الركبتين وما شابه ذلك يوصونه بتعديل هيئة جلوسه وبعض التمارين فلا يزال يفعلها حتى يبرأ من آلامه ، وكذلك المشية الطبيعية وتعديل وضع مشيتك سيعود عليك بالصحة .
لكن لماذا جعل الله هيئة المشية عبادة ؟
لأن المشية غالبا ما تعبر عن صاحبها ، عن شخصيته وما يستكن فيها من مشاعر وأخلاق ، فالرجل له مشية والمرأة لها مشية أخرى ، والمتكبرون لهم مشية ، والمؤمنون المتواضعون لهم مشية ، والصحيح السليم له مشية ، والمريض العليل له مشية …. وهكذا كل يمشي معبرا عما في ذاته .
فعباد الرحمن يمشون على الأرض هونا ، متواضعين هينين لينين ، بسكينة ووقار لا بتجبر واستكبار ، لا يستعلون على أحد ولا ينتفخون.
يقول تعالى : -( إن الله لا يحب كل مختال فخور )- [لقمان/18]
المختال الذي يظهر أثر الكبر في أفعاله، والفخور الذي يظهر أثر الكبر في أقواله … يقول أنا فلان وابن فلان …..فالله لا يحب الصنفين معا المختال والفخور ، إنما يحب المتواضع الذي يعرف قدر نفسه ، ولا يحتقرأحدا من الناس .
وهناك فارق كبير بين من يعرّف نفسه فيذكر نسبه وشهاداته وعمله ؛ وبين من أدمن الفخر بنفسه فصار عادة له في كلامه ، فهذا إنسان مريض عنده ورم في الذات يحتاج أن يعرف حقيقة نفسه .

وكانوا يقولون أن من قال خمس مرات متتالية أنا وأنا وأنا ….. ستكون السادسة كذب لماذا ؟ لأن الغرور سيدخل على نفسه .

أعوذ بالله من كلمة أنا:

وبالمناسبة بعض الناس إذا قال : “أنا ” يتبعها بقوله: وأعوذ بالله من كلمة أنا ، لماذا ؟ لأن الشيطان قال : -( قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )- [ص/76] وهذا غير صحيح فكلمة أنا ليست حرام فهي ضمير المتكلم ليعبر به عن نفسه فماذا ستقول ؟ هل تقول نحن ؟ فهذا هو الكبر بعينه !!
فليس بحرام ولا مكروه أن تعبر عن نفسك بقول : أنا كذا وكذا …. فالمحرم هو من يضخم ذاته بالكبر والفخر.

وعندنا مثال نبي الله سليمان وقد آتاه الله ما آتاه من الملك سخر الله له الجن والإنس والطير والريح وكان يقول : -(هذا من فضل ربي)- [النمل/40] فانسب الفضل لله وقل أدبا : أنا بفضل الله عندي كذا،  ورزقني الله بكذا …. فالفضل والمنة لله وحده ، فهو المعطي المانع وهو القابض الباسط جل جلاله .
والمثال المقابل قارون لما دعي لإخراج الزكاة ( قال إنما أوتيته على علم عندي )- [القصص/78] فأنا من تعب وسهر وتاجر وربح، والفقير ليس له مال عندي ( أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون )- [القصص/78] فالله الذي أجرى عليك النعمة قادر على سلبها منك وأن يجريها على غيرك ، والذي أهلك من قبلك قادر على إهلاكك ، قال تعالى : -( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين )- [القصص/81]

يقول تعالى -(  واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير )- [لقمان/19]
أغضض : اخفض ومنه غض البصر ، اجعل صوتك منخفضا إذا تكلمت مع الناس فارفع صوتك بقدر إسماعهم فمن الرعونة والحماقة أن تكلم من هو أمامك وصوتك مرتفع جدا ، فلا تخفض صوتك كثيرا فلا تُسمع من تكلم ولا ترفعه كثيرا فتؤذيه ؛ إنما وسطا بين الأمرين .
في بعض الأحيان ترفع صوتك للمناداة أو الاستغاثة فلا بأس بذلك ، لكن لا يكن من عادة المسلم رفع الصوت دائما بلا سبب ، وقد مدح الله نبينا في التوراة بقوله : ” أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل،  لست بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق”
أيضا في الخطابة عند التحذير من شيء ؛ فعن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا خَطَب احمرَّتْ عيناه، وعلَا صوتُه، واشتدَّ غضبُه، حتى كأنَّه منذرُ جيشٍ.)

لا تغضب :

قد يغضب الإنسان ويرتفع صوته ، لكن نصيحتي أن تحاول تهدئة نفسك والتكلم بدون تعصب لأن الغضب يؤدي إلى إلغاء العقل وعدم القدرة على توضيح وجهة نظرك وربما تكون الاستطالة على غيرك بالسب والإهانة ، فالهدوء يجعل لك مساحة لتنطق بالكلام الذي تريده لا أن ينطقك الغضب بما لا تريد ، وهناك من يطلق زوجته وآخر يسب صديقه في عرضه ، فيقع فيما لا يحمد عقباه ويندم ، وقد لا ينفع الندم وقتها.
فهنا يعلمنا الإسلام الحكمة في الكلام ( واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير )– [لقمان/19]

وهذه نهاية وصايا لقمان التي وردت في القرآن الكريم .
نسأل الله أن يحفظ أولادنا وأن يبارك فيهم ، وأن يربيهم لنا على عينه ، وأن يجعلهم قرة عين لنا وأن يكونوا ذخرا لنا في الدنيا والآخرة ، وان يحفظهم من كل مكروه وسوء ، اللهم آمين .


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود

 رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود   ما أجمل أن يتلمس الدعاة في عصرنا الحاضر السير على خطى الأنبياء، والتخلق بأخلاقهم، والاقتداء بهم في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، من خلال المنهج القرآني في عرض قصصهم، وأحوالهم مع أقوامهم؛ من خلال دراستي لأحد سور القرآن (سورة هود)

تاريخ الإضافة : 24 أبريل, 2024 عدد الزوار : 49 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع