شرح الدعاء “اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ..”

تاريخ الإضافة 8 يوليو, 2023 الزيارات : 12361

شرح الدعاء “اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ..”

عن عبد الله بن مسعود قال :كان من دُعاءِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: 

(اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ)  رواه الحاكم، وصححه، و وافقه الذهبي، وحسنه المحقق عبد القادر الأرناؤوط في تخريج رياض الصالحين.

المفردات:

موجبات: بكسر الجيم، جمع موجبة، أي أسباب الرحمة يعني الأفعال والأقوال والصفات التي تحصل رحمتك بسببها.

عزائم: أي أعمالا تتعزم وتتأكد بها مغفرتك.

والغنيمة من كل بر: أي طاعة وعبادة فإنهما غنيمة

 والسلامة من كل إثم: فيه جواز سؤال العصمة من كل الذنوب، وقد أنكر بعضهم جواز ذلك إذ العصمة إنما هي للأنبياء والملائكة، والجواب أنها في حق الأنبياء والملائكة واجبة، وفي حق غيرهم جائزة، وسؤال الجائز جائز؛ إلا أن الأدب سؤال الحفظ في حقنا لا العصمة، وقد يكون هذا هو المراد هنا.

الشرح

 هذا الدعاء من جوامع الكلم التي أوتيها سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم فإنه سأل أولاً أن يرزقه ما يوجب له رحمته عز وجل من الأقوال، والأفعال، والخصال فقال:

اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ

الله تعالى هو أرحم الراحمين، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والعبد في غاية الضرورة والافتقار لرحمة الله ولا يستغني عنها طرفة عين.

فيا لسعادةَ من تغمده الله برحمته ويا لتعاسةَ من طرد من رحمة الله ومغفرته.

الأسباب الجالبة لمحبة الله:

1- الإحسان في عبادة الله والإحسان مع الناس:

فأداء العبادة وإكمالها وإتقانها ومراقبة الله فيها، بأن يعبد العبد ربه كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه، والإحسان إلى الناس بما يستطيع بالقول والفعل والمال والجاه، كل ذلك يقرب الإنسان من رحمة ربه، قال تعالى:( إن رحمة الله قريب من المحسنين).

2 ـ تقوى الله تعالى وطاعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه:

كما قال تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون).

وقال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي …..).

3- رحمة مخلوقاته من الآدميين والبهائم:

قال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود.
ويتأكد ذلك في حق الفقراء والمساكين والمحتاجين، والجزاء من جنس العمل.

4-  الدعاء :

كأن تقول: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شئ أن تغفر لي وترحمني إنك أنت الغفور الرحيم، ومن ذلك الدعاء الوارد في قوله تعالى: (ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا) وقال تعالى: (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين).

 5-  الاستماع والإنصات لتلاوة القرآن الكريم:

قال تعالى :(وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)

6ـ  الاستغفار:

قال تعالى: (قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون ).

7-  البقاء في المسجد لانتظار الصلاة:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم (الملائكة تصلي على أحدكم مادام في مصلاه الذي صلى فيه مالم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)

8 – مجالس العلم وحلق القرآن الكريم:

قال الرسول صلى الله عليه وسلم (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)

9- الصلاة قبل العصر أربعاً تطوعاً:
قال الرسول صلى الله عليه وسلم (رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً) رواه أحمد
10-المسامحة في البيع والشراء:

قال الرسول صلى الله عليه وسلم (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى) رواه البخاري

وعزائم مغفرتك 

ثم سأل اللَّه تعالى أن يهب له عزماً على الخير يكون سبباً لمغفرته من الأعمال، والأقوال كذلك.

أسباب المغفرة:

1- الإيمان بالله والاستسلام التام له والعمل الصالح قال تعالى “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ”

2- طلبُ المغفرة من الله بالاستغفار وفي ذلك يقول تعالى: “وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ”، ويقول تعالى “وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا”

وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: (يا ابن آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوتَنِى وَرَجَوتَنِى غَفَرتُ لَكَ عَلى مَا كَانَ مِنكَ وَلاَ أُبَالِى. يَا ابنَ آدَمَ لَو بَلَغَت ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّماءِ ثُمَّ استَغفَرتَنِى غَفَرتُ لَكَ. يَا ابنَ آدَمَ إِنَّكَ لَو أَتَيتَنِى بِقُرَابِ الأَرضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِى لا تُشرِكُ بِى شَيئاً لأَتَيتُكَ بقُرَابِها مَغفِرَةً). رواه الترمذى وقال: حديث حسن صحيح

وفى هذا المعنى يقول بعضهم:

 

يَا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنُوبِى كَثرَةً………..فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَـمُ 

إِن كَانَ لاَ يَرجُوكَ إِلاَّ مُحسِـنٌ………..فَمَن الَّذِى يَدعُو وَيرجو المُجرِمُ 

مَا لِى إِلَيكَ وَسِيلَةٌ إِلاَّ الـرَّجَـا………..وَجَمِيلُ عَفوِكَ ثُمَّ إِنِّى مُسـلـمُ

3- تقوى الله بفعل مأموراته واجتناب محارمه ومحظوراته , قال تعالى:  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)الأنفال 29

والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ

ولما كان المؤمن بعد مغفرة ذنوبه لا يأمن من الوقوع في معاصٍ أُخَر، وذنوبٍ مستأنفة، سأل ربه عز وجل أن يرزقه السلامة والحفظ، من كل الذنوب والآثام، كائناَ ما كان، كما دلّ عليه (كل) التي تفيد العموم والشمول في كل فرد من أفرادها.
وهناك بعض السبل لحماية المؤمن نفسه من المعاصي أنقلها من كتاب ”طريق الهجرتين”لابن القيم رحمه الله :
1- علم العبد بقبح المعصية ودناءتها·
2- الحياء من الله، فإن العبد متى علم بنظر الخالق إليه استحيى منه·
3- مراعاة نعم الله عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم·
4- خوف الله وخشية عقابه·
5- محبة الله، وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه·
6- شرف النفس وزكاؤها وتجنب الأسباب التي تحطها وتضع قدرها·
7- إدراك عاقبة المعصية وقبح أثرها·
8- قصر الأمل·
9- مجانبة الفضول في المطعم والمشرب والملبس والمنام·
10- ثبات شجرة الإيمان في القلب، فصبر العبد على المعاصي بحسب قوة إيمانه·

ومن أقوال السلف في أثر المعاصي والذنوب :

1- قال عبدالله بن عباسٍ: (يا صاحب الذَّنْب، لا تأمنَنَّ مِن سوء عاقبته، ولَمَا يتبع الذنب أعظمُ من الذنب إذا علمتَه؛ فإن قلة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال، وأنت على الذنب، أعظمُ مِن الذنب الذي عملتَه، وضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظمُ من الذنب، وفرحك بالذنب إذا ظفِرْتَ به أعظم من الذنب، وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظمُ من الذنب إذا ظفِرْتَ به، وخوفك من الريح إذا حرَّكَتْ ستر بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك مِن نظر الله إليك أعظمُ مِن الذنب إذا عملتَه)؛ (حلية الأولياء – أبو نعيم الأصبهاني – جـ 1 – صـ: 324).

 2- قال عبدالله بن عباسٍ: (إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسَعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخَلْق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القبر والقلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبِغْضةً في قلوب الخَلْق)؛ (الجواب الكافي – لابن القيم – صـ 79).

 3- قال عبدالرحمن بن أبي ليلى: (كتب أبو الدرداء إلى مسلمة بن مخلدٍ: أما بعد، فإن العبد إذا عمِل بطاعة الله أحبه الله، فإذا أحبه الله، حبَّبه إلى خلقه، وإن العبد إذا عمل بمعصية الله أبغضه الله، فإذا أبغضه الله بغَّضه إلى خلقه)؛ (الزهد لوكيع بن الجراح – صـ 847 – رقم: 524).

 4- روى أبو نعيم عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: (لِيحذَرِ امرؤ أن تُبغِضَه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر)، ثم قال: (أتدري ما هذا؟) قلت: لا، قال: (العبدُ يخلو بمعاصي الله عز وجل، فيُلقي الله بُغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر)؛ (حلية الأولياء – أبو نعيم الأصبهاني – جـ 1 – صـ: 215).

 5- روى أبو نعيمٍ عن جبير بن نفيرٍ قال: لما فُتحت قبرص فُرِّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعضٍ، ورأيت أبا الدرداء جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يومٍ أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: (ويحك يا جبيرُ! ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره! بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى)؛ (حلية الأولياء – أبو نعيم الأصبهاني – جـ 1 – صـ: 216)

6- قال الفضيل بن عياضٍ: (إني لأعصي الله فأعرِفُ ذلك في خُلق دابَّتي وجاريتي)؛ (ذم الهوى – لابن الجوزي – صـ 185).

7- قال سُليمان التيمي: (إن الرجلَ لَيُصيب الذنب في السرِّ، فيُصبح وعليه مذلَّتُه)؛ (صفة الصفوة – لابن الجوزي – جـ 2ـ صـ 177).

فقه المعصية : 

في المعصية فقه كما أن في الطاعة فقهاً، فإذا كان العبد لا بد أن يرتكب معصية وهو سيفعلها ويفعلها فليتفكر في أمور:

أولاً: أن يدافعها ما أمكنه وأن يسوّف في المعصية كما أن إبليس حريص على أن يسوّف الطاعة على ابن آدم.

ثانياً: المعاصي درجات، فإن كان لا بد أن يفعل فليأخذ الأخف.

ثالثاً: إن كان لا بد أن يعصي فليجتنب المعصية المتعدية؛ فإن الذي يقتصر شرُّه على نفس العاصي أهون من الذي يتعدى شرُّه إلى غيره، فقد يفعل إنسان معصية بينه وبين الله شرُّها عليه، ويفعل عصاة آخرون معاصٍ فيها تعدٍّ إلى أعراض الناس وأموال الناس ونفوس الناس.

رابعاً:إن كان ولا بد أن يعصي فليكن وحده، وليجتنب المعصية المشتركة، والتعاون مع غيره على المعصية؛ فإن الله قال: وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان سورة المائدة:2 ، فالمعصية الجماعية أقرب إلى الفضيحة والذيوع، وتقتل الحياء؛ لتواطؤ العدد على فعلها وهذا يساعد على نشرها وازديادها.

خامساً: إياك والمعاصي المتسلسلة، وذلك أن بعض الناس يفعل المعصية وراء المعصية فلعلك لو اكتفيت بمعصية ثم تبت أن تكون هذه هي الأخيرة، فإياك وتسلسل المعاصي.

سادساً: حذارِ من فعل المعصية في الأزمنة الفاضلة والأمكنة الفاضلة؛ لأن ذنب المعصية في الزمان الفاضل – كالأشهر الحرم – والمكان الفاضل – كالبلد الحرام – يضاعف الذنب ويضاعف السيئة، فالذين يسرقون الحجاج والعمار، وفي الحرم وعند الكعبة، والذي ينظر النظرة المحرمة أثناء الطواف وربما يعبث بالأعراض في الحرم، أو يسافر للفاحشة في رمضان، أو يفعل هذا في مسجد.. لا شك أن سواده أعظم، وأن شؤمه أشدّ.

قال شيخ الإسلام: المعاصي في الأيام المفضلة والأمكنة المفضلة – يعني عند الله – تُغَلَّظ وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان.

سابعاً:من يستمر في المعصية مدة أطول يكون عذابه أكثر

ثامناً:لا تفعل المعصية لمجرد التجربة، فبعض أهل الذنوب يُدعون إليها ولا يكون لهم بها سابق عهد ولا كان لهم بها لذة من قبل، فيدخلون المعصية من باب التجربة ثم يستمرِؤونها فيتلذذون بها أو تصبح لهم عادة فيصعب إقلاعهم عنها.

تاسعاً:لا تفعل المعصية التي لا تتعلق بها نفسك كثيراً، فإن بعض الناس يعصي وداعي العصيان ليس قوياً، ولا شك أن الداعي إذا كان أقل إلى المعصية كان الإثم أكبر، ألا ترَ إلى النبي ﷺ حيث قال عن الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم:  ملك كذاب وعائل مستكبر وشيخ زانٍ ؟ فالعائل هو الفقير، ما الذي يدعوه للكبر؟ ومع ذلك يتكبر، فإذن: هذا كبر متأصِّل متجذِّر فيكون إثمه أشدّ من إثم الذي عنده ما يدعوه الكبر كالحسب والمال والقوة والمنصب.

وكذلك المَلِك، ما الذي يدعوه ليكذب وعنده السلطان والقوة؟ لذلك كان كذبه أشدّ، وكذا الشيخ الزاني عقوبته أشد من الشاب الزاني من هذا الباب.

عاشراً:إذا كان الإنسان لا بد أن يعصي فليستخفِ؛ فإن المجاهرة تعظم الذنب أضعافاً مضاعفة، والعلانية به مصيبة كبيرة، وقد قال ﷺ:  كل أمتي معافى إلا المجاهرين .

قال إبراهيم التيمي: أعظم الذنب عند الله أن يحدِّث العبد بما ستر الله تعالى عليه، وفي الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله، وعناد للمؤمنين، وتكثير لسواد العاصين، وتعدية أثر المعصية إلى الغير، والتسبب في جرهم إليها وإغرائهم بها، وكذلك التسبب في تأثيم من لم ينكر؛ لأنه يرى المجاهرة، لذلك إذا ستر نفسه فإنه أهون مع أن الكل يأثم، ويستحق العقوبة، وليتذكر العاصي حديث: إني سترت عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم والمستخفي أقرب إلى التوبة ويوفق للتوبة ما لا يوفق المستعلن.

ونحن اليوم ابتلينا في زمن الاستعلان بالمعاصي، والمجاهرة بالمعاصي، وكتابة التحقيقات الصحفية عن المعاصي، وهذه مصيبة عظيمة والله، حيث صارت المعاصي تمثل تمثيلاً وتصور تصويراً، وتبث على الملأ وتعلن في القنوات، ويتباهى بها على الشاشات، وتوضع على الشبكات، ويُتحدث بها في المواقع والمنتديات، فمن بارز بالقبيح فإنه يحارب من هو أقرب إليه من حبل الوريد، لذلك على الإنسان إذا غلبت عليه شهوته وسيطر عليه شيطانه أن يستتر.

الأمر الحادي عشر/ الذي ينبغي أن يتذكره من كان ولا بد عاصياً أن لا يزين المعصية لغيره، ولا يدلُّ عليها أحداً، ولا يعلِّم غيره بها، وإلا كان مروِّجاً لتلك البضاعة العفنة متسبباً لوقوع غيره في الشر، وإلا فسيحمل أوزاره وأوزاراً مع أوزاره من أوزار الذين اقتدوا به، وقد قال ﷺ: ومن سنَّ في الإسلام سنَّة سيئة فُعمل بها بعده، كتب عليه مثل من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء .

الثاني عشر:إذا أردت أن تعصيَ فلا تكونن محترفاً؛ فمعصية الغشيم أهون، قال سفيان بن عيينة: كان محمد بن سوقة لا يحسن أن يعصي الله.

الاحتراف في المعصية مصيبة، فالأفلام اليوم وكذلك بعض السجون تُخرج محترفين فينقل بعضهم لبعض الخبرات، ويقتبس بعض الناس الجريمة من الأفلام، فالفيلم يحكي قصة جريمة كاملة، ويحكي تخطيطاً ومكراً وخداعاً، وهذه كارثة عظيمة.

الثالث عشر:من أراد أن يعصيَ فليعصِ على خوف؛ فبعض الناس يعصي على اجتراء غير مبالٍ ولا يأبه بمن فوقه، وهو الله – سبحانه وتعالى -، قال عمر بن ذر: يا أهل المعاصي، لا تغتروا بطول حلم الله عنكم، واحذروا أسفه؛ فإنه قال: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْسورة الزخرف:55 أي: لما أغضبونا انتقمنا منهم.

الرابع عشر:ينبغي على العاصي أن يعيش جوَّ الاستقباح للمعصية وهو يفعل المعصية؛ فإن من فعلها متلذذاً مستمتعاً بها غير الذي يفعلها وعنده قرف منها واستقباح لها، ونفسه تلومه عليها؛ لأن حاجز النفرة والوحشة من المعصية يجب أن يبقى ويصان ويقوى، وإذا كان القلب فيه بقية حياة فعل وهو مستنكر، وعصت النفس وهي مستوحشة، أما لابس الثوب الأسود فلا يجزع ولن يجزع إذا وقع عليه الحبر بخلاف لابس الثوب الأبيض.

فرقٌ بين من يرتكب المعصية وهو يدرك فظاعة عمله وقبح جرمه وبين من يرتكبها دون أدنى وجل ولا خجل، بل هو يبرر ويدافع، ولا يزال الشيطان به حتى يألفها فيؤثرها على الطاعة.

الخامس عشر:أن يحافظ على سلامة المعتقد والتوحيد، فبعض الناس تسوقه المعصية إلى البدعة ثم إلى الشرك والكفر، وبعض الذين ابتعثوا إلى الخارج تنصَّروا، وبعضهم ألحد وكفر بالله وبكل الأديان حتى قال أحدهم قبل أيام وهو في بلاد الكفر في مقابلة معه: أنا لم آسف في حياتي على شيء إلا على أمرين: الأول: أني كنت مسلماً والثاني: أني تكلمت بالعربية! إنه يتأسف على الإسلام واللغة العربية، وهذا مسخ.

ينتقلون من بيت مسلم من مكان فيه أذان وصلاة وشيء يذكر بالدين إلى بلد كفر، وكبائر، وتمرد على الله، وإلحاد، وزندقة، وصليب، وشياطين يدعونهم إلى كل فاحشة، فيصبح في الملاهي والمراقص، ثم بعد ذلك تجره هذه إلى الانخلاع من ربقة الدين والانسلاخ مما كان فيه من أصل الإيمان والتوحيد، وهذا بسبب استمراء المعاصي. 

السادس عشر:لا تحب العاصين ولو كنت عاصياً، ولا تبغض الطائعين وإن كنت مفرطاً في الطاعة، بل ليبقى الحب والبغض شرعياً ليسلم بشيء قد ينجو به يوم القيامة، على الأقل ينجو به من الخلود في النار.

أحب الصالحين ولست منهم          لعلي أن أنال بهم شفاعة

وأكره من تجارته المعاصي        ولو كنا سواء في البضاعة

 

قال عبيد الله بن شميط – ينقل النصيحة عن أبيه -: “كان يقال: من رضي بالفسق فهو من أهله، ومن رضي أن يعصي الله – عز وجل – لم يرفع له عمل”.

ومن المآسي أن من أحب المعصية يأثم ولو لم يعص، ولذلك فإن بعض الناس ذنبه في قلبه ولو لم يقترف بيديه.

نسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يعصمنا من المعاصي، وأن يباعد بيننا وبين أسباب غضبه، وأن يجنبنا سخطه.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

(من خطبة للشيخ محمد المنجد بعنوان إذا كنت ستعصي فتذكر باختصار يسير)

والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ

ثم سأل ما يكمل له في كمال العبودية من الأعمال الصالحات، ومن ذلك التوفيق إلى كل نوع من أنواع البر، وهو الطاعة، بشتى أنواعها وكيفياتها.

 والتوفيق من الله عز وجل كما قال نبي الله شعيب عليه السلام: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ)سورة هود 88. ومن وفقه الله تعالى فقد أوتي الخير كله.

 والتوفيق معناه: أن يهيئ الله للمؤمن أسباب الطاعة وطرق الخير، ويبغض إليه المعصية.

 ما هي علامات توفيق الله للعبد ؟

أولاً: التوفيق للعمل الصالح :

والله عز وجل بيّن أن الطاعة والتوفيق لها هو الفوز العظيم فقال سبحانه: “وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا” [الأحزاب:71]

وجاء في الحديث الصحيح : (إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله) قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال: (يوفقه لعمل صالح قبل موته).

وجاء أيضا في الحديث عن أبي بكرة أن رجلا قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: (من طال عمره وحسن عمله) قيل: فأي الناس شر؟ قال: (من طال عمره وساء عمله).

ثانيًا: أن يوفق العبد لطلب العلم الشرعي والتفقه في دين الله:

ومن سلك طريقَ العلم فإنه على خير كثير، فقد جاء في الحديث الصحيح عنه أنه قال:(من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين).

ثالثًا: التوفيق لنشر الخير والدعوة إلى الله وإصلاح الناس:

فإن هذه هي وظيفة الأنبياء والرسل، وقد قال الله عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]

رابعًا: أن يوفق العبد للتوبة من المعاصي :

حتى لو تكرّرت منه، أو يحال بينه وبين المعاصي فلا يستطيع أن يصل إليها، فإن هذا من علامة التوفيق والسداد وإرادة الله به خيرًا.

نعم من علامة توفيق الله ان يحال بينك وبين المعصية فلا تستطيع ان تصل اليها يقول جل وعلا: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27]، والله عز وجل يفرح بتوبة عبده.

نسأل الله أن يمنّ علينا وعليكم بقبول التوبة إلى الله، وأن يحول بيننا وبين المعاصي الى أن نلقاه .

خامسًا: أن يوفّق العبد لنفع الناس وقضاء حوائجهم :

كما صحّ عنه أنه قال: (أحب الناس إلى الله أنفعهم)

سادسًا: أن يوفق العبد للعناية بكتاب الله تعلّما وتعليما:

وفي الحديث (خيركم من تعلم القرآن وعلمه). فهنيئًا لكل من درس كتاب الله ودرّسه وقرءه كلّ يوم. وأنت يا من فرّطت في كتاب الله وتلاوته، تدارك نفسك فإن من علامة التوفيق أن توفق لتلاوة كتاب الله حتى تحوز على هذه الخيرية والأجر العظيم.

سابعًا: أن يوفق العبد للقيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

كما قال جل وعلا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]

وقال سبحانه: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، فعلق سبحانه الفلاح والتوفيق على من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وجعل الخيرية في هذه الأمة لمن أمر ونهى، جعلنا الله وإياكم منهم.

ثامنًا: أن يوفق العبد لكريم الخصال وحسن الأخلاق وسلامة الصدر ومحبة الخير للمؤمنين :

كما جاء في الحديث: (إن من خياركم أحاسنكم أخلاقًا). وحسن الخلق أثقل شيء في الميزان، وأما سلامة الصدر من الغلّ والغشّ والحسد فهو من توفيق الله للعبد؛ لأنه من أسبابِ دخول الجنّة كما جاء في الحديث والرسول قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

 والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ

ثم ختم السؤال والطلب بأغلى مراد مطلوب في الآخرة، وهي الجنة، وسأل السلامة والنجاة من أشد مرهوب في دار الآخرة، وهي النار، والعياذ بالله.

فأعظم الفوز هو دخول الجنة والنجاة من النار، وهذا هو التعريف الذي بينه ربُّ العزة سبحانه للفوز؛ فقال: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]

وينبغي لهذه القضية ألا تغيب عن ذهن المؤمن أبدًا؛ لذلك كان من سُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسأل اللهَ الجنة، ويستجير به من النار. 

عَنْ عائشة رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاءَ: «..اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ..» سنن ابن ماجه -وقال الألباني: صحيح-

وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مَنْ يُداوم على سؤال الله الجنة فإن الجنة تطلب من الله أن يُدْخِلَه إياها! وكذلك تسأله النار الإجارة منها!

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الجَنَّةَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ الجَنَّةُ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الجَنَّةَ. وَمَنِ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النَّارِ» رواه الترمذي -وقال الألباني: صحيح-

وقد رَغَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون معظم دعائك على هذه الصورة؛ فعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: “قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ: «كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلاَةِ؟» قَالَ: أَتَشَهَّدُ وَأَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، أَمَا إِنِّي لاَ أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلاَ دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ»” سنن أبي داود -وقال الألباني: صحيح-

فكل أنواع الدعاء تهدف في النهاية إلى دخول الجنة، والاستعاذة من النار، ومن هنا كانت سُنَّة سؤال الله الجنة والاستجارة به من النار، سُنَّة عظيمة ينبغي لنا المداومة عليها؛ ففيها الفوز الكبير؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11].

صلاة الحاجة

وقد ورد هذا الدعاء برواية أخرى مشابهة عن صلاة الحاجة لكنه ضعيف .

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى الأَسْلَمِيِّ قَالَ : ” خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى اللَّهِ أَوْ إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لِيَقُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ وَالْغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ وَالسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إِثْمٍ أَسْأَلُكَ أَلا تَدَعَ لِي ذَنْبًا إِلا غَفَرْتَهُ وَلا هَمًّا إِلا فَرَّجْتَهُ وَلا حَاجَةً هِيَ لَكَ رِضًا إِلا قَضَيْتَهَا لِي ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مَا شَاءَ فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ ” رواه ابن ماجة ( إقامة الصلاة والسنة/1374)

قال الترمذي هذا حديث غريب وفي إسناده مقال : فائد بن عبد الرحمن يُضعَّف في الحديث . وقال الألباني : بل هو ضعيف جداً . قال الحاكم :  روى عن أبي أوفى أحاديث موضوعة .


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود

 رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود   ما أجمل أن يتلمس الدعاة في عصرنا الحاضر السير على خطى الأنبياء، والتخلق بأخلاقهم، والاقتداء بهم في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، من خلال المنهج القرآني في عرض قصصهم، وأحوالهم مع أقوامهم؛ من خلال دراستي لأحد سور القرآن (سورة هود)

تاريخ الإضافة : 24 أبريل, 2024 عدد الزوار : 52 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع