شرح حديث: (ألا أدُلُكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدُلُكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط) رواه مسلم
وجاء في رواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إسباغ الوضوء على المكاره وإعمال الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، يغسل الخطايا غسلاً)رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم، وصححه الألباني في صحيح الجامع.
وجاء في رواية عند ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً:(ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا ويزيد به في الحسنات؟) صححه الألباني في سنن ابن ماجه
قوله: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)
بدأ النبي صلى الله عليه وسلم كلامه بالاستفهام ، وهذا أسلوب تشويق لجذب الانتباه، فيتطلع المخاطب إلى ما ذكر معه، فبدأه ﷺ بقوله: “ألا” الدالة على الاستفتاح والاستفهام.
قوله: (ما يمحو الله به الخطايا)
جميع خطيئة، والخطيئة : الذنب، يعني ما يكفر الله به السيئات والذنوب ، والمراد بالذنوب الصغائر لا الكبائر ، لأن صغائر الذنوب تمحى بالأعمال الصالحة ، وكبائر الذنوب تمحى بالتوبة الخالصة؛ كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}[النجم: 32]، وقال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا}[النساء: 31].
وكما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مُكفرات لما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر) رواه مسلم.
قوله: (ويرفع به الدرجات)
الدرجات جمع درجة، والدرجة: الرفعة في المنزلة، وفي الجنة مائة درجة مابين كل درجتين منها ما بين السماء والأرض، فقد روى الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة، ومن فوقها يكون العرش، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس. صححه الألباني. وفي رواية: إن في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم.
وفي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
وفي كل درجة من هذه الدرجات ومنزلة من هذه المنازل من النعيم المقيم الأبدي ما لا يتصوره العقل ولا يخطر بالبال، ففي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر… ثم قرأ: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والجنَّة درجات، متفاضلة تفاضلًا عظيمًا، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات: بحسب إيمانهم، وتقواهم” (مجموع الفتاوى: [11/188]).
(قالوا بلى يا رسول الله)
ما كان من الصحابة رضوان الله عليهم إلا أن ردوا عليه كعادتهم في حبهم للخير، ومسابقتهم في فعله، وكيف لا يتسابقون في ذلك الأمر، وفيه رفعاً للدرجات، وحطاً للخطايا والسيئات؟ فأجابوه: “بلى يا رسول الله. أي نعم يا رسول الله.
قال: (إسباغ الوضوء على المكاره)
وإسباغ الوضوء أن يكمله المكلف فيأتي به وافياً تاماً غير منقوص، بحيث إنه يغسل الأعضاء كما أمره الله غسلاً تاماً، ويأتي بسنن الوضوء ومستحباته .
( والمكاره) جمع مكره ، وهو ما يكرهه الشخص ويشق عليه، مثل البرد الشديد وذلك مظنة أن الإنسان قد يضيع شيئاً من الوضوء يفرّط فيه لشدة البرد، وكذلك أيضاً مثل الحر الشديد إذا كان الماء حارًّا، كما يحصل في بعض الأحيان، فلربما يكون ذلك سبباً في تضييع شيء من الوضوء.
وخص النبي صلى الله عليه وسلم المكاره بالذكر؛ لأن الناس غالباً إذا شعروا بالبرد وشدته، قد لا يتقنون الوضوء بالشكل المطلوب شرعاً، أو قد يتساهلون في بعض سننه، فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن إسباغ الوضوء على المكاره سبباً لمحو الخطايا ورفع الدرجات.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : شرح رياض الصالحين” (كتاب الفضائل/باب فضل الوضوء) (3/137)
( إسباغ الوضوء على المكاره ) يعني : أن الإنسان يتوضأ وضوءه على كره منه ، إما لكونه فيه حمى ينفر من الماء فيتوضأ على كره ، وإما أن يكون الجو باردا وليس عنده ما يسخن به الماء فيتوضأ على كره ، وإما أن يكون هناك أمطار تحول بينه وبين الوصول لمكان الوضوء فيتوضأ على كره ، المهم أنه يتوضأ على كره ومشقة ، لكن بدون ضرر ، أما مع الضرر فلا يتوضأ بل يتيمم ، هذا مما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات .
ولكن هذا لا يعني أن الإنسان يشق على نفسه ويذهب يتوضأ بالبارد ويترك الساخن ، أو يكون عنده ما يسخن به الماء ، ويقول : لا ، أريد أن أتوضأ بالماء البارد لأنال هذا الأجر ، فهذا غير مشروع ؛ لأن الله تعالى يقول : ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ) ، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا واقفا في الشمس ، قال : ما هذا ؟ قالوا : نذر أن يقف في الشمس ، فنهاه عن ذلك وأمره أن يستظل ، فالإنسان ليس مأمورا ولا مندوبا إلى أن يفعل ما يشق عليه ويضره ، بل كلما سهلت عليه العبادة فهو أفضل ، لكن إذا كان لا بد من الأذى والكره ، فإنه يؤجر على ذلك ؛ لأنه بغير اختياره…” انتهى .
هل الثواب على قدر المشقة؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” قول بعض الناس : ” الثواب على قدر المشقة ” ليس بمستقيم على الإطلاق ، كما قد يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات ، والعبادات المبتدعة التي لم يشرعها اللّه ورسوله من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل اللّه من الطيبات ، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : ( هلك المتنطعون ) ، وقال : ( لو مد لي الشهر لواصلت وصالًا يدع المتعمقون تعمقهم ) ، مثل الجوع أو العطش المفرط ، الذي يضر العقل والجسم ، ويمنع أداء واجبات أو مستحبات أنفع منه ، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة ، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم ، وأن يقوم قائما ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( مروه فليجلس ، وليستظل ، وليتكلم ، وليتم صومه ) رواه البخاري ، وهذا باب واسع .
وأما ” الأجر على قدر الطاعة ” فقد تكون الطاعة للّه ورسوله في عمل ميسر ، كما يسر اللّه على أهل الإسلام : الكلمتين ، وهما أفضل الأعمال ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن ، سبحان اللّه وبحمده ، سبحان اللّه العظيم ) . أخرجاه في الصحيحين .
ولو قيل : ” الأجر على قدر منفعة العمل ، وفائدته ” لكان صحيحًا اتصاف الأول باعتبار تعلقه بالأمر ، والثاني باعتبار صفته في نفسه .
والعمل تكون منفعته وفائدته تارة من جهة الأمر فقط ، وتارة من جهة صفته في نفسه ، وتارة من كلا الأمرين ، فبالاعتبار الأول ينقسم إلى طاعة ومعصية ، وبالثاني ينقسم إلى حسنة وسيئة …
فأما كونه مشقًا : فليس هو سببًا لفضل العمل ورجحانه ، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقًا ، ففضله لمعنى غير مشقته ، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره ، فيزداد الثواب بالمشقة ، كما أن من كان بعده عن البيت في الحج والعمرة أكثر يكون أجره أعظم من القريب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في العمرة : ( أجرك على قدر نصبك ) ؛ لأن الأجر على قدر العمل في بعد المسافة ، وبالبعد يكثر النصب فيكثر الأجر ، وكذلك الجهاد ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرؤه ويتتعتع فيه ، وهو عليه شاق له أجران ) .
فكثيرًا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب ، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل ، لكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب ، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال ، ولم يجعل علينا فيه حرج ، ولا أريد بنا فيه العسر ، وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة منهم .
وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوبًا مقربًا إلى اللّه ؛ لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا وانقطاع القلب عن علاقة الجسد ، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم .
ولهذا تجد هؤلاء مع من شابههم من الرهبان يعالجون الأعمال الشاقة الشديدة المتعبة من أنواع العبادات والزهادات ، مع أنه لا فائدة فيها ولا ثمرة لها ، ولا منفعة إلا أن يكون شيئًا يسيرًا لا يقاوم العذاب الأليم الذي يجدونه .
ونظير هذا الأصل الفاسد مدح بعض الجهال بأن يقول : فلان ما نكح ولا ذبح ، وهذا مدح الرهبان الذين لا ينكحون ولا يذبحون ، وأما الحنفاء فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” لكني أصوم وأفطر وأتزوج النساء ، وآكل اللحم ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ” .
وهذه الأشياء هي من الدين الفاسد ، وهو مذموم ، كما أن الطمأنينة إلى الحياة الدنيا مذموم ” انتهى .
” مجموع الفتاوى ” ( 10 /620 – 623 ) .
قوله: (وكثرة الخُطا إلى المساجد)
يعني يذهب ماشياً إلى المسجد ويرجع ماشياً ، قال العلامة ابن عثيمين في شرح الرياض(٣/٣٩٢): المجيء إلى المسجد على القدمين أفضل من المجيء على مركوب لأنه يحسب لك أجر الخُطا ، لكن إذا كان الإنسان معذوراً فلا بأس أن يأتي بالسيارة وخطوة السيارة دورة لعجلتها إذا دار عجلها دورة واحدة فهذه خطوة.اهـ
وقد وردت أحاديث أخرى في فضل المشي إلى المساجد منها :
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى الصلاة لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت درجة وحط عنه بها خطيئة) رواه البخاري ومسلم.
2- وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:(من راح إلى مسجد الجماعة فخطوة تمحو سيئة وخطوة تكتب له حسنة ذاهباً وراجعاً) رواه أحمد وصححه ابن حبان وأحمد شاكر في المسند.
3- وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا تطهر الرجل ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتبه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات) رواه ابن خزيمة وصححه الألباني في صحيح الترغيب
4- وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حاج تاما حجته) رواه الطبراني وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء إسناده جيد
5- عن عثمان –رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: “من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى صلاة مكتوبة، فصلاها مع الإمام غفر له ذنبه”. رواه ابن خزيمة، وصححه الألباني. وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: “الأبعد فالأبعد من المسجد أعظم أجراً“. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. وصحَّحه الألباني.
6- وعن جابر –رضي الله عنه- قال: “خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال لهم “بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد” قالوا: نعم يا رسول الله، قد أردنا ذلك، فقال: “يا بني سلمة، ديارَكم تُكتَبْ آثاركم، ديارّكم تكتب آثاركم” فقالوا ما يسرنا أنا كنا تحولنا” رواه مسلم.
7- وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: “إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام، أعظم أجراً من الذي يصليها ثم ينام” أخرجه البخاري ومسلم.
8- وعَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( بَشِّرْ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
قال في دليل الفاتحين (3/558-559) : ” الظُّلَم : جمع ظلمة ، وهي تعم ظلمة العشاء والفجر . وفي الحديث : فضل المشي إلى الصلاة سواء كان المشي طويلاً أو قصيراً , وفضل المشي إليها للجماعات في ظلم الليل ” انتهى .
وهذا الفضل ثابت ـ إن شاء الله ـ لمن صلى العشاء والفجر مع الجماعة , ولو كانت الطرق مضاءة . لأن هاتين الصلاتين في ظلمة الليل .
9- وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه (لا يخرجه ) إلا إياه فأجره كأجر المعتمر وصلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين) رواه أبو داود وصححه الألباني ، وقوله صلى الله عليه وسلم ( فأجره كأجر الحاج المحرم ) له ثلاثة تفسيرات:
–أي كامل أجره ، بأن يأخذ ثواب الحاج المحرم.
–أي كأجر الحاج المحرم من حيث أخذه ثوابا على كل خطوة يخطوها ، فالماشي إلى المسجد والحاج كلاهما لهما ثواب على كل خطوة يخطوهما ، وإن اختلف الثواب بينهما.
– أنه مثل الحاج المحرم من حيث أن له ثوابَ الصلاة من أول خروجه من بيته حتى عودته ، وإن لم يكن يصلي في كل الوقت ، كما أن للحاج ثوابَ الحج من أول خروجه إلى عودته ، وإن لم يكن في شعائر الحج طوال هذه الفترة.
وقوله: (وانتظار الصلاة بعد الصلاة)
الانتظار نوعان:
الأول: انتظار بالبدن: وهو أن يجلس في المسجد ينتظر الصلاة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (لا يزال أحدُكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسُه) رواه مسلم
الثاني: انتظار بالقلب: وهو أن يكون قلبه معلقاً بالصلاة كلما انتهى من صلاة اشتاق للصلاة الأخرى.
عن أبي هريرة رضي الله عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وذكر(ورجل قلبه معلق بالمساجد) رواه البخاري ومسلم
فضل المكث في المسجد:
وردت أحاديث عديدة في فضل المكث في المسجد منها :
1-عن أبي الدرداء –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: “المسجد بيت كل تقي، وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة، والجواز على الصراط إلى رضوان الله، إلى الجنة“ رواه الطبراني والبزار وصحَّحه الألباني.
2-وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: “لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة” رواه البخاري ومسلم
3- وللبخاري “إن أحدكم في صلاة مادامت الصلاة تحبسه والملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يقم من مصلاه أو يحدث“.
4- وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: “صلينا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- المغرب، فرجع من رجع، وعقَّب من عقَّب، فجاء رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مسرعاً قد حفزه النفس قد حسر عن ركبتيه، قال: “أبشروا، هذا ربكم قد فتح باباً من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي، قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى“ رواه ابن ماجه، وصحَّحه الألباني.
5- وروى الترمذي أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: “من صلىّ الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة“. رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع
6- وعن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم– “لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إليَّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل،ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة“ أخرجه أبو داود، وحسَّنه الألباني.
7- وعن سهل بن معاذ عن أبيه –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: “من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح ركعتي الضحى لا يقول إلا خيراً غفر له خطاياه وإن كانت أكثر من زبد البحر” رواه أحمد وحسنه ابن حجر .
8- وعن أبي أمامة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: “لأن أقعد أذكر الله تعالى وأكبره وأحمده وأسبحه وأهلله حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق رقبتين أو أكثر من ولد إسماعيل، ومن بعد العصر حتى تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل“ رواه الإمام أحمد، وحسَّنه الألباني.
قوله: (فذلكم الرباط)
وفي رواية للترمذي: (فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط) ثلاثاً.
الرباط: وأصل معنى الرباط يستعمل في ملازمة الثغور، وهي أطراف أو حدود البلاد الإسلامية، فيُتخوف العدو فيكون هذا المرابط قبالة العدو أو بلادهم، فيكون بهذا مرابطاً، فهو منتظر لا يذهب ولا ينتقل إلى أرض أخرى،وسموا مرابطون لأنهم كانوا يربطون خيولهم لعدم القتال، ويواصلون الحراسة فيستمر أجرهم عند الله بلا انقطاع .
فعد النبي عليه الصلاة والسلام المواظبة على إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، كالرباط .
وكرر قوله: ( فذلكم الرباط ) ثلاثاً للاهتمام بهذه الأعمال كأنه يفهم منه أن ذلك هو الرباط الكامل، يعني: أنه ما تحقق فيه الوصف الكامل من هذه الحقيقة التي هي الرباط، يعني: هذا هو الرباط الأتم والأوفى.
قصة عبيد الله القواريري :
والقصة ذكرها الذهبي في كتاب الكبائر عن عبيد الله القواريري وهو معدود من شيوخ البخاري ومسلم قال : لم تكن تفوتني صلاة العشاء في جماعة قط فنزل بي ليلة ضيف فشغلت بسببه وفاتني صلاة العشاء في الجماعة فخرجت أطلب الصلاة في مساجد البصرة فوجدت الناس كلهم قد صلوا وغلقت المساجد، فرجعت إلى بيتي وقلت : ورد في الحديث الجماعة تزيد على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة فصليت العشاء سبعا وعشرين مرة ، ثم نمت … فرأيت في المنام كأني مع قوم على خيل وأنا أيضا على فرس ونحن نستبق وأنا أركض بفرس فلا ألحقهم ، فالتفت إلى أحدهم فقال لي : لاتتعب فرسك فلن تلحقنا ؟ قال : لأننا صلينا العشاء في جماعة ، وأنت صليت وحدك فانتبهت من منامي وأنا مغموم حزين .
وننبه مع ذكرنا للقصة أنه لا يجوز للمسلم إعادة الفرض مرتين فكيف بسبع وعشرين مرة ؟! لما ثبت في الحديث رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُصَلُّوا صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ ) .رواه أبو داود .
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: في الحديث دلالة على فضل الله – عزّ وجل – الواسع على عباده حيث يسر لهم سبل المغفرة وعلو الدرجات في الآخرة ونوَّع لهم طرق الخير وفي هذا التنوع رفق بالناس.
الفائدة الثانية: في الحديث بيان فضل كثرة الخُطا إلى المساجد وكثرة الخُطا إليها بأن يأتيها المسلم ولو بَعُد بيته عن المسجد فيمشي على قدميه إليها وليس المقصود أن يسلك المسلم الطريق الأبعد للمسجد فهذا غير مراد ولو كان مقصوداً لسبقنا إليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته – رضي الله عنهم – فلما لم ينقل ذلك عنهم دل على أنه غير مراد.
الفائدة الثالثة: في الحديث بيان فضل انتظار الصلاة بعد الصلاة وذلك يكون بشوق الإنسان للصلاة التي تلي الصلاة التي صلاها أو بانتظاره لها بعد صلاة صلاها.
الفائدة الرابعة: في الحديث بيان فضل الوضوء على المكاره أي مع المشقة وذلك حينما يوافق المسلم ماء بارداً في الشتاء لا يجد غيره أو حاراً في الصيف فيتوضأ ويعطي كل عضوٍ حقه من الوضوء.
الفائدة الخامسة: في الحديث بيان أن هذه الأمور تعد من المرابطة التي يحتاج معها الإنسان إلى حبس النفس وهواها عن معصية الله إلى طاعته فهي تدخل تحت قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200].
الفائدة السادسة: في الحديث حسن عرض النبي – صلى الله عليه وسلم – للحديث وتشويقه لأصحابه حيث بدأهم بثواب عظيم على طريقة السؤال فقال: ” ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ ” وذلك ليشوقهم ثم عرض لهم الإجابة.