التعريف القرآني لرمضان

تاريخ الإضافة 9 مارس, 2024 الزيارات : 704

(التعريف القرآني لرمضان)
للشيخ إبراهيم السكران

القرآن وصف رمضان بوصف في غاية اللُّطف، والحقيقة أنه يستحوذ على الانتباه، فأي كائن حسي أو معنوي له خصائص ينفرد فيها أو يشتهر بها، ونحن إذا أردنا التعريف العام  فإننا نختار أخصّ تلك الخصائص ونُعرِّف بها، أو نختار شيئاً شريفاً ونُعرِّف به.

فمثلاً: لنضرب على ذلك أمثلة: (الجزيرة العربية) فيها عسير، فيها الأحساء، فيها نجد، فيها الحجاز، فيها الشمال لكننا إذا أردنا تشريفها تجدنا نقول كلمات من جنس مثلاً : كيف يحصل هذا في بلد الحرمين؟ فاخترنا (الحرمين) لأن هاتان البُقعتان هما أشرف بقعة فيها فاخترناهما لنعرف بهما هذه المنطقة.

مثال آخر: أبو بكر له مناقب كثيرة لكنه سُمِّي «الصِّدِّيق»، حتى أنه إذا أُطلق «الصِّدِّيق» لا ينصرف إلا له، لماذا اخترنا «الصِّدِّيقية»؟ لأنها أشرف منازله، والإنسان نفسه يحب أن ينادى بأشرف أوصافه، والله جل وعلا لمَّا ذكر لنا شهر رمضان عرَّفه لنا بتعريف في غاية اللُّطف، فيقول سبحانه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)[البقرة:185].

فانظر كيف اختار الله أولاً هذا الشهر ظرفاً لنزول القرآن! كما في الأثر المشهور الذي رواه النسائي في «السنن الكبرى» وغيره عن ابن عباس أنه قال: «نزل القرآن في رمضان جُملةً فكان في السماء الدنيا؛ فكان إذا أراد الله أنْ يُحْدِثَ شيئاً نزل به جبريل»، يعني: نزل به مُنجَّماً حسب الوقائع.

وهذا أثر مشهور عن ابن عباس رواه النسائي في «السنن الكبرى» وغيره، فانظر كيف جعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أشرف أوصاف الشهر أنه ظرف زماني لنزول أشرف الكلام مُطلقاً وهو القرآن، هذه لفتة عجيبة صراحة، الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: (شَهْرُ رَمَضَانَ)[البقرة:185]، ثم وصفه أو عرَّفه فقال: (الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)[البقرة:185].

لِمَ لم يصفه بالمناقب الأخرى؟

لِمَ اختار الله له أنه هو الظرف الزماني لنزول القرآن؟

ضع هذه الآن في ذهنك، ولا يمكن أن تَمُرّ هذه الإشارة القرآنية على المؤمن ولا يقع في ذهنه هذا الارتباط، ولا يقع في قلبه اختصاص القرآن برمضان، فالقرآن يُقرأ في كل الشهور لكن في شهر رمضان له خاصيّة وفضيلة، لأن شهر رمضان هو الشهر الذي نزل فيه القرآن نفسه، وقد شرَّف الله عزَّ وجل هذا الشهر.

خُذ أو ضع في ذهنك أيضاً نموذج أو معطى آخر يؤكِّد هذا:

جبريل كان يُدارِس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن شهراً في السنة، واختار جبريل ڠ شهر رمضان لمدارسة القرآن مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وفي كُل ليلة حتى ينتهي رمضان، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس -وهذا لفظ مسلم- «أن جبريل كان يلقى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ -أي حتى ينسلخ الشهر- فيعرض عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن» هذا لفظ مسلم.

وفي لفظ البخاري: «كان يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن»، هذان سؤالان الآن لا يمكن أن يُفوِّتهما ذهن المؤمن:

السؤال الأول: لماذا عرَّف الله رمضان بنزول القرآن؟ (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)[البقرة:185].

والسؤال الثاني: لماذا اختار جبريل مدارسة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن كل ليلة من شهر رمضان دون غيره من الشهور؟ لِمَ لم يدارسه في ذي الحجة؟ لِمَ لم يدارسه في مُحرَّم؟

لِمَ اختار شهر رمضان لمدارسة القرآن وفي كل ليلةٍ منه؟.

إذا تأمَّل المؤمن هذين السؤالين امتلأ انبهاراً ودهشةً من منزلة القرآن في شهر رمضان، وأن رمضان ليس شهر الصيام فقط، تجدنا أحياناً كثيرة نقول: شهر رمضان وشهر الصيام ونربط في أذهاننا رمضان بالصيام وهذا صحيح؛ لكن ليس هذا فقط، بل الحقيقة أن رمضان هو شهر الصيام والقرآن.

 رمضان له اختصاص بالقرآن، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عرَّفه لنا بأنه (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)[البقرة:185] وجبريل اختار لمدارسة القرآن مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل ليلة شهر رمضان.

 والأخبار المنقولة عن السلف التي نقلها مثل ابن رجب في «لطائف المعارف» وغيره ممن كتب في فضائل شهر رمضان، ينقلون شدة اجتهاد السلف في ختمات القرآن في رمضان، فتجدهم يختمون في رمضان أكثر من غيره، أو يُقبِلون على القرآن ويتركون ما سواه، بل حتى تجدهم أحياناً يتركون بعض أمور العلم -العلم الشرعي- ويقبلون على قراءة القرآن في رمضان.

هذه الأخبار المنقولة عن السلف تؤكِّد عُمق علم السلف ودقة نظرهم، بل إن لديهم حساسية شديدة لإشارات النصوص ثم العمل بها، هذه إشارة لا يمكن أن تَفوت على الإنسان، وهو: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نبَّه على أن شهر رمضان هو الظرف الزماني لنزول القرآن وشرَّفه بذلك وعرَّفه بذلك.

ومن المعاني والإشارات التي جاءت أيضاً في النصوص الشرعية عن شهر رمضان:

ما يمكن تسميتها «المعدودية»، فبعض الأوصاف التي ذكرها الله عزَّ وجل في كتابه عن شهر رمضان تُدْخِل على المسلم مشاعر ممتزجة؛ أحاسيس متزاحمة من الشغف؛ فالإدراك؛ الإشفاق من سرعة التقضِّي، فقد قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن شهر الصيام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) [البقرة:183-184].

لماذا قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) ؟ الأيام المعدودات هنا طبعاً هي شهر رمضان، الآية مُحكمة، ليس المراد بالأيام المعدودات هي بقية الأيام التي وردت في الأحكام المنسوخة، المراد بالأيام المعدودات في أصح أقوال العلماء في تفسير هذه الآية أنها شهر رمضان.

الأصل في ذكر العدد أنه يُراد به بيان أن الأمر مُقدَّر أو مُحدَّد، فتجد أنك تقول: هذا شيء معدود يعني: أنه مُحدَّد ومُقدَّر، لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما قال عن رمضان (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) صحيح أن الأصل أن يكون المعنى محدداً معلوماً لكن ها هنا قدر زائد دلَّ عليه السياق وهو: أن المقصود التقليل، (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) يعني: قلائل، أيام قلائل؛ كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الآية الأخرى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف:20]، يقصد فيها أنها محددة ومُقدَّرة؟ لا، يقصد فيها أنها إيش؟ دراهم قليلة.

 ولماذا اخُتيرت كلمة «معدود» للإشارة للقلة؟ لأن القليل هو الذي يُعدّ، هناك علاقة عقلية أن القليل هو الذي يُعد، أما الكثير فتجد الكثير غالباً يُحثى حثياً أو يُصبّ صبًا.

إشارة القرآن إلى أن شهر رمضان أيام معدودات: يُنبِّه المسلم على ضرورة الاهتمام بكل ساعات هذا الشهر، لأنها أيام معدودات، كل هذا الشرف؛ هي أيام معدودات.

ومن المعاني أيضاً والإشارات التي جاءت في النصوص الشرعية حول هذا الشهر الكريم: «العلاقة بين شرف العمل والزمان».

أركان الإسلام خمسة ومنها الصلاة والصيام والزكاة والحج، لماذا اختار الله هذا الركن الذي هو الصيام في هذا الشهر شهر رمضان؟

لماذا هذا الركن لم يكن في شهرٍ آخر؟

الشارع يُشرِّف الأزمان الفاضلة بالصيام فيها:

  • فيتشرَّف الزمن بالصوم.
  • ويزيد ثواب الصوم بشرف الزمن.

          وهذا له نظائر في الشرع، يعني: هناك علاقة بين شرف الصيام وشرف الزمان الذي هو رمضان.

 من ذلك مثلا: أن اليوم الذي ولد فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو زمان فاضل في نفسه، والزمن الذي بُعث فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو زمن فاضل في نفسه، ولذلك في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي قتادة الأنصاري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل عن صوم يوم الإثنين، فماذا كان جوابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟.

قال: «ذاك يومٌ وُلدت فيه ويومٌ بعثت أو أُنزلَّ علي فيه» النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سُئل عن صيام يوم الاثنين -هذا في صحيح مسلم- أشار إلى مُناسبة شريفة وهو: يوم ولادته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويوم بعثته أو إنزال القرآن عليه فيه، وأيُّ شيء أشرف من ذلك؟ المِنَّة على الخلق بشموخ وشروق شمس الرسالة المحمدية هي أعظم النِعم، شمخت الجبال بهذا الوحي العظيم، والناس أحوج إلى شمس الرسالة المحمدية من الطعام والشراب والنفَس والضوء وكل الاحتياجات البشرية، فانظر كيف كان أنسب شيء لشرف هذا الزمن؛ هو الصيام، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل عن صيام يوم الاثنين قال: «ذاك يوم بُعثت فيه».

ومن ذلك أيضاً «عاشوراء»: «عاشوراء» يوم فاضل كما في الصحيحين من حديث ابن عباس ﭭ وهذا لفظ مسلم: (أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: «هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغَرِقَ فرعون وقومه -أو وغرَّق فرعون وقومه- فصامه موسى شُكراً فنحن نصومه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فنحن أحقُّ وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمر بصيامه»، فلاحظ هذا الزمن «يوم عاشوراء» زمن فاضل؛ فيه نعمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ صامه موسى شُكراً، وصامه النبي شكراً، هذا يعني ماذا؟ يعني:

  • أن الزمن الفاضل يُشرِّفه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالصيام.
  • وأن الصيام يتشرَّف أيضاً بالزمان الفاضل.

أسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يُبهج قلوبنا وإياكم بإدراك هلال رمضان، وأن يُشرِّفنا بصيام نهاره، وأن يُغدق علينا من رحمات قيام لياليه، وأن يجعل أنيسنا في كل ساعات هذا الشهر الكريم آيات كتابه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


اترك ردا

بدريك الإلكتروني لان يتم نشره.


قناة فتاوى أون لاين

تم إنشاء قناة جديدة تحت عنوان فتاوى أون لاين للإجابة على الفتاوى الشرعية
رابط الانضمام

رابط تيليجرام

الواتس اب

السيرة الذاتية للدكتور حسين عامر

رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود

 رسالة الدكتوراة المناهج الدعوية للأنبياء من خلال سورة هود   ما أجمل أن يتلمس الدعاة في عصرنا الحاضر السير على خطى الأنبياء، والتخلق بأخلاقهم، والاقتداء بهم في الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، من خلال المنهج القرآني في عرض قصصهم، وأحوالهم مع أقوامهم؛ من خلال دراستي لأحد سور القرآن (سورة هود)

تاريخ الإضافة : 24 أبريل, 2024 عدد الزوار : 24 زائر

خطبة الجمعة

تفسير القرآن

شرح صحيح البخاري

شرح مدارج السالكين

جديد الموقع