سلطان العلماء العز بن عبد السلام د. سلمان العودة
في تاريخنا الإسلامي الزاهر نماذج رائعة من العلماء العاملين الذين أدوا رسالتهم على أكمل وجه، فكانوا نبراساً يستضاء بهم في كل زمان، ونماذج يقتدى بها في وقت تفتقد فيه القدوة الصالحة، والكلمة الجريئة ، والمجابهة الصريحة في سبيل إعلاء كلمة الله.
وشيخنا العز بن عبد السلام هو من ذلك الطراز الفريد الذي يجب أن نستلهم سيرته في حياتنا المعاصرة، فقد كان هذا الرجل أنموذجاً رائعاً للسياسي البارع، والعالم المستنير، والاجتماعي المخلص، المتعبد على طريقة السلف الصالح، فكان أمة في عصره أحيا الله به موات المسلمين.
الإمام عبد العزيز بن عبد السلام السُّلمي، المغربي أصلاً، الدمشقي مولداً، المصري داراً ووفاة، أبو محمد، الملقب بعز الدين، وبسلطان العلماء، والمعروف ببائع الملوك.
وهو سلطان العلماء، لقبه بهذا اللقب تلميذه الأول شيخ الإسلام ابن دقيق العيد
ولد سنة 577هـ وتوفي سنة 660هـ
لماذا سلطان العلماء؟
قد يتساءل البعض قائلاً: لماذا نتحدث عن حياة هذا الإمام؟ ولماذا هو سلطان العلماء؟
إن اهتمامنا بدراسة سيرة هذا الإمام -وغيره من العلماء- يرجع السبب فيه إلى أن التاريخ يعيد نفسه؛ فأحداث الأمس هي نفسها أحداث اليوم، والمواقف المنتظرة من رجال اليوم، هي المواقف التي كان يفعلها رجال الأمس، والأمة تمر بها أزمات متكررة في عصورها المتعاقبة تحتاج فيها إلى أن ترجع إلى ماضيها، وتعيد النظر فيه.
إن علينا أن نعود إلى ماضينا، نستلهم منه الدرس والعبرة ونستنطق مواقف أئمة الهدى ومشايخ الإسلام.
نشأته:
نشأ العزّ في أسرة فقيرة مغمورة، ولم يطلب العلم إلا على كبر.و كان يبيت في زاوية الباب الشمالي للجامع الأموي بدمشق.
فائدتان عظيمتان من حيــاة العــز:
وهاتان الفائدتان من المصلحة أن يعرفهما كل من يدرس حياة العز.بن.عبد.السلام، وما يتعلق بمواقفه البطولية الجهادية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الفائدة الأولى: طلبه للعلم في الكبر:
قد يظن بعض الناس أن هذا العالم الجليل قد طلب العلم في صغره، وهذا غير صحيح فقد كان جاهلاً أول أمره، وكبرت سنُّه وما تعلم، وهذا عبرة لمن كبروا ولم يتعلموا.
في إحدى الليالي شديدة البرد كان العز بن عبد.السلام نائمًا بالليل في الكلاسة -وهي زاوية في الجامع الأموي في دمشق- وبها سكن للطلاب وللناس حينذاك- فاحتلم في تلك الليلة فاستيقظ، وذهب بسرعة وكانت هناك بركة في طرف المسجد شديدة البرودة، حتى لربما كانت متجمدة، فخلع ثيابه ونزل في تلك البركة واغتسل في الماء البارد، ثم خرج حتى كاد يغمى عليه، وذهب ونام مرة ثانية، ثم احتلم مرة أخرى أيضًا، فاستيقـظ وفعل مثل ذلك، وذكـر ابن السبكي هذه القصة فقال: ما أدري حصلت له القضية مرتين أو ثلاثًا؟ وفي كل مرة كان يذهب إلى هذا المكان البارد ثم يرمي نفسه فيه، حتى قيل: إنه أغمي عليه في المرة الثانية أو الثالثة من شدة البرد، ثم رجع وجلس حتى طلع الفجر، وبعد ذلك أَغفى إغفاءة بسيطة وسمع أحدًا يقول له في النوم: هل تريد العلم أو العمل؟ قال: أريد العلم؛ لأن العلم يقود إلى العمل.
فلما أصبح الصباح أخذ كتاب التنبيه في فقه الشافعي، وجلس عليه حتى حفظه، ثم بعد ذلك ظلَّ يطلب العلم حتى أصبح -كما يقول السبكي- أعلم أهل زمانه، وكان كثير التعبد لله – جل وعلا
الفائدة الثانية: ثبات عند الممات:
إذا كانت الفائدة الأولى متعلقة ببداية طلبه للعلم وبداية حياته العلمية، فإن الفائدة الثانية تتعلق بنهاية حياته.
ففي نهاية حياته، ولما حضرته الوفاة وقَرُبَ موتُه، وكان ذلك في حكم السلطان بيبرس الذي كان يحب العزّ ابن عبد السلام، حتى إنه لما مات قال: لا إله إلا الله ما اتفق موت الشيخ إلا في زمني -أي: هذا ليس بخير أن يموت الشيخ في زمني-، فجاء السلطان بيبرس إلى العزِّ في مرض موته وطلب منه أن يعيّن أحد أولاده في منصبه، وكان للعز أكثر من ولد، من أشهرهم: عبد اللطيف طالب علم ، فقال له العز: ما فيهم من يصلح.
فالمسألة ليست مجاملات ولا أمور تتم بهذه الطريقة، أولادي ما فيهم من يصلح، إنما أعين فلانًا، وجاء برجل بعيد أجنبي وقال: إنه هو الذي يصلح وهو الجدير بمثل هذه المناصب.
وهكذا ضرب العز مثالاً للتجرد عن المصالح الشخصية ورغبات النفس، وأكّد على ضرورة ابتغاء وجه الله تعالى، ورعاية صالح الأمة في كل وقت وحين، حتى على فراش الموت، ولعلّ هذا من علامات الثبات عند الممات، فرحمة الله على هذا الإمام
طلبه للعلم:
حيث إن العزّ طلب العلم على كبر، فقد جدّ واجتهد في حفظ المتون ودراسة الكتب والتردد على كبار شيوخ عصره، ليعوّض ما فاته في صغره، كما أن كبر سنه وذكاءه أعاناه على تحصيل العلم الكثير وهضمه وإدراك مسائله العويصة.
كانت دمشق في عصره منتجعاً للعلماء من الشرق والغرب نظراً لتوسطها، فاجتمع فيها جهابذة العلماء البارعين في فنون العلم، وقد تردد عليهم شيخنا العز بن عبد السلام، فنهل من علمهم الصافي الفياض وتأثر بأخلاقهم الفاضلة وسلوكهم في الحياة فانصقلت مواهبه، وتميزت شخصيته الجامعة بين الفقه والأصول والتفسير واللغة والتصوف متأثراً بورع وزهد الإمام فخر الدين بن عساكر وفقه القاضي عبد الصمد المرستاني.
سافر إلى بغداد عاصمة الخلافة وكعبة العلم آنذاك فوصلها سنة 597هـ وتردد إلى علمائها ونهل من علمهم. ولم يمكث فيها طويلاً.
كان يواصل التحصيل والتلقي من الشيوخ حتى بعد أن صار شيخاً كبيراً تهابه الملوك وتخشى مخالفته.
ثناء العلماء عليه:
قال عنه الذهبي: بلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة المذهب، مع الزهد والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلابة في الدين، وقصده الطلبة من الآفاق، وتخرّج به أئمة.
وقال عنه ابن دقيق العيد: كان ابن عبد السلام أحد سلاطين العلماء.
وقال عنه ابن الحاجب: ابن عبد السلام أفقه من الغزالي.
وقال عنه السيوطي: شيخ الإسلام، سلطان العلماء، وبرع في الفقه والأصول والعربية، مع الزهد والورع، وبلغَ رتبةَ الاجتهادِ.
وقال عنه ابن السبكي: شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها.
وقال عنه الصفدي: قرأ الأصول والعربية ودرس وأفتى وصنف، وبرع في المذهب وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطلبة من البلاد، وتخرج به أئمة، وله الفتاوى السديدة… وكان ناسكاً ورعاً أماراً بالمعروف نهاء (مبالغة من النهي)عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم.
نالَ العزّ بن عبد السلام شهرة كبيرة وذاع صيته وعلا نجمه وصار من الأمثال المصرية: ما أنت إلا من العوام ولو كنت ابن عبد السلام…!
معايشته للواقع:
إن من أهم الأمور التي جعلت الأمة ترتبط بالعز ابن عبدالسلام معايشة الواقع.
فلم يكن العز بن عبدالسلام – رحمه الله – معزولاً عن هموم الأمة، ومشاكلها، وأوضاعها؛ بل كان يعيش أولاً بأوّل مشاكل الأمة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية…
وقد علمنا مما سبق من مواقفه كم كان يعيش مشكلات الأمة وهمومها، ولكننا بالإضافة إلى ذلك لو نظرنا إلى كتبه، لوجدنا أن لها علاقة كبيرة بالواقع.
فصحيح أنّ العز بن عبدالسلام كانت له كتب في الفقه والحديث والأصول والتفسير وغيرها، ولكنه مع ذلك كانت له كتب أخرى لها ارتباط بالواقع مثل:
كتاب: “الفتن والبلايا والمحن والرزايا” الذي يتكلم فيه عن المصائب والصبر عليها وما أشبه ذلك، وهذا له علاقة كبيرة بالمصائب والمشاكل التي كانت تعيشها الأمة في عصره.
وله كتاب اسمه: “ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام”، وقد ألَّفَ هذا الكتاب لما اجتاح الصليبيون بلاد الشام، وبدأوا يحاربون المسلمين، ففزع كثير من المسلمين وبدأوا يفرّون إلى الأمصار الأخرى، ويتركون الشام خلفهم، فكيف عالج العزّ هذا الأمر؟
لقد ألَّفَ هذا الكتاب الذي يثبِّتُ به المسلمين، ويحاول أن يجعلهم يقيمون في بلاد الشام ولا يخرجون منها؛ بل يحثّ المسلمين في الأمصار الأخرى أن يحرصوا على الانتقال إلى بلاد الشام وسكناها ومدافعة الأعداء فيها.
وله كتاب اسمه: “أحكام الجهاد” تكلم فيه عن الجهاد وأحكامه وما يتعلق به وفضله، إضافة إلى أنه هو نفسه كان يقوم بالجهاد مباشرة، ويشارك فيه حتى إنه في إحدى المرات، لما غزا التتار بلاد مصر جبن أهل مصر عنهم وضاقت بالسلطان وعساكره الأرض فاستشاروا الشيخ عز الدين فقال : اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر فامتثلوا أمره، وكان العز بن عبدالسلام في جيشه يثبّت الناس، ويرفع معنوياتهم، ويقويهم، ويلهب حماسـهم، حتى كانت الدائرة على الأعـداء وانتصر المسلمون.
ومما صنّف العز بن عبدالسلام وله تعلق بالواقع أيضًا، ما كتبه في الفتاوى، حيث ناقش في هذه الفتاوى بعض القضايا المتعلقة بعصره
تضـامن العلمـاء معـه:
إن من أبرز الجوانب في حياة العز بن عبدالسلام ، والتي ساعدت على نجاحه: أن العلماء كانوا متضامنين معه، فلم يكن العلماء يقفون عند العز بن عبدالسلام ليقولوا: هذا سرق منّا الأضواء، وهذا فعل وفعل، وما أبقى لنا شيئًا؛ بل كان العلماء يدًا واحدة خاصة العلماء العاملين، ومما يدل على ذلك:
موقف عبد العظيم المنذري معه:
كان المفتي في مصر: هو الإمام عبد العظيم المنذري(مؤلف كتاب الترغيب والترهيب)، فلما جاء العز بن عبد السلام قال الإمام المنذري: قد كنت أفتي ولم يكن الإمام العز موجودًا، أما الآن فإن منصب الإفتاء متعين عليه .
موقف جمال الدين الحصيري معه:
عندما غضب أحد أمراء الشام على العز بن عبد السلام، ومنعه من التدريس، وفرض عليه الإقامة الجبرية، ذهب أحد الفقهاء الأحناف وهو جمال الدين الحصيري -وكان فقيهًا مهيبًا- إلى الحاكم في قلعته، ووقف عند الباب على حماره، فقال الحاكم: دعوه يدخل، فلما دخل قام الحاكم إليه وأنزله بنفسه، وقدّمه وقدّره وأبى أن يأكل إلا بعده فقال الشيخ: ما جئت إلى طعامك ولا إلى شرابك، فقال له السلطان: يَرْسُم الشيخ ونحن نمتثل مرسومه، قال: ما الذي حدث بينك وبين الإمام العز بن عبدالسلام ؟ قال: حدث كذا، وكذا، وذكر القضية، فقال هذا الفقيه: والله لو كان العز بن عبدالسلام في الهند أو في أقصى الدنيا لكان جديرًا بك أن تسعى في أن يحضر إليك؛ فإنه شرف لك أن تملك أُمَّة فيها مثل العز بن عبدالسلام ، فينبغي أن تسترضيه فوافق على ذلك، وأرضى العز بن عبدالسلام وجعله في مقام رفيع.
الأحداث التاريخية التي عاصرها :
تفتحت عينا العز بن عبد السلام على أحداث جسام كان يموج بها العالم الإسلامي، وعاش ثلاثاً وثمانين سنة (ت 660هـ) عاصر فيها أحداثاً سياسية مؤلمة. فقد أدرك انتصارات صلاح الدين الأيوبي المجيدة واسترداده بيت المقدس من أيدي الصليبيين (583 هـ)،
وشاهد دولة الأيوبيين في هرمها وآخر أيامها، وشاهد دولة المماليك البحرية في نشأتها وعزّها، وشاهد بعض الحملات الصليبية على فلسطين ومصر، وشاهد الغزوة التترية المغولية الهمجية على الخلافة العباسية في بغداد، وتدميرها للمدن الإسلامية
، وشاهد هزيمة التتار في عين جالوت بفلسطين بقيادة سيف الدين قطز سلطان مصر.
شاهد شيخنا كل هذه الأحداث، فأثرت في نفسه، وراعَه تفتت الدولة الأيوبية القوية –قاهرة الصليبيين- إلى دويلات عندما اقتسم أبناء صلاح الدين الدولة بعد وفاته: فدويلة في مصر، ودويلة في دمشق، ودويلة في حلب، ودويلة في حماة، وأخرى في حمص، ودويلة فيما بين النهرين. وبين حكام هذه الدويلات تعشش الأحقاد والدسائس، والصليبيون على الأبواب، والتتار يتحفزون للانقضاض على بلاد الشام ومصر.
شجاعتـه وجرأتـه في الحـق:
لعلّ أبرز الجوانب في شخصية هذا الإمام، هو ما يتعلق بالشجاعة والجرأة التي كان يتميز بها في قول كلمة الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
لقد جدّد السلطان العز بن عبدالسلام الإنكار العملي على السلاطين والأمراء، وكان ينكر عليهم أحياناً علنًا وأمام العامة لاسيما المنكر العلني، ولا يخاف في الله لومة لائم.
إن الشجاعة والجرأة في الحق هو الهدي والسمت الذي كان موجودًا عند الصحابة – رضي الله عنهم -والتابعين، فمثلاً لما جاء مروان بن الحكم وغيّر بعض سنة الرسول – صلى الله عليه وسلم -، وقدّم خطبة العيد على الصلاة، وأخرج المنبر خارج المسجد، قام أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – وأنكر عليه؛ بل إنه أوقفه وجرّه بثوبه، ففي الصحيحين أنّ أبا سعيد – رضي الله عنه – قال: “خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيّرتم والله، فقال: أبا سعيد، قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم -وقال في رواية مسلم: كلاّ، والذي نفسي بيده لا تأتون بخير مما أعلم-، فقال مروان: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة” .
وكذلك قام رجل آخر وأنكر على هذا الأمير، فأقرّه أبو سعيد – رضي الله عنه – على ذلك، فعن طارق بن شهاب قال: “أول من قدّم الخطبة قبل الصلاة مروان، فقام رجل فقال لمروان: خالفت السنة، فقال: يا فلان، ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه -: أما هذا فقد قضى ما عليه”
فجدَّد العز بن عبدالسلام هذا الهدي والسمت الذي كان معروفًا عند الصحابة والتابعين والأئمة المهديين، فكان ينكر على هؤلاء العِلْية من القوم وعلى السلاطين وغيرهم علانية، ولم يكن يعتقد أن في هذا ضررًا ولا فتنة، كان يدرك أن في الإنكار العلني، وقول كلمة الحق، والصدع بها، فوائد عديدة.
فوائد الإنكار العلني:
إن الإنكار العلني، والصدع بكلمة الحق له فوائد كثيرة وعظيمة، لعلّ من أهمها:
أولاً: أن يُعذر العالم،فيعرف الناس أنه قال وتكلم وأمر ونهى فلم يُطَع فيعذر، ولا يكون مجالاً لحديث الناس، أن يقولوا: داهَنَ ونافَقَ وسكت عن الحق، ولا يعرفون أنه قال بِمِلْءِ فيه فلم يُسْتَجَبْ له.
ولقد مررت بعدد من بلاد الإسلام في أقاصي الأرض؛ بل وبغيرها من البلاد الكافرة التي يوجد بها بعض المسلمين، ووجدت أن المسلمين هناك يعتبون كثيرًا على علماء الأمة، فيقولون: إنه حصل كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، وما سمعنا كلمة حق.
إذن العالم إذا قالها صريحة واضحة فإن ذلك يكون عذرًا له عند الناس.
ثانيًا: التفاف العامة حول هذا العالم، فالناس إذا رأوا العالم يقول كلمة الحق بقوة وشجاعة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر التفوا حوله، وأحاطوا به، وأخلصوا له الودّ، ووقفوا معه؛ لأنهم سيعرفون حينئذ أنه عالم يريد وجه الله والدار الآخرة، ليس له مطامع ولا مقاصد، وأنه بذل نفسه في سبيل الله – عز وجل -.
فمن أجل ذلك يحيطون به، ويلتفون حوله، وفي هذا حفظ لهم وصيانة لاجتماعهم، بخلاف إذا لم يكونوا يعلمون بما يقول ويفعل؛ فإنهم قد يتهمونه، ويسوء ظنهم به، فيبقى العالم منفردًا، لا يستجيب له أحد، ولا ينتفع بعلمه أحد.
ثالثًا: تشجيع الآخرين على الإنكار؛ فإن كثيرًا من الناس يقولون: إذا سكت العالم فغيره من باب أولى، وكذلك إذا سكت طالب العلم فغيره من باب أولى؛ ولذلك كان العز بن عبدالسلام – رحمه الله – يصدع بها عالية مدوية، وفي ملأ من الناس؛ ليفتح الطريق للآخرين ويقودهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يخاف في الله لومة لائم.
رابعًا: قبول الحق،فإنّ الحق إذا قيل علنًا، وأُمِر بالمعروف، ونُهي عن المنكر من قِبَل عالم موثوق معروف بصدق وإخلاص، وأنه لا يريد الحياة الدنيا ولا زينتها، ولا يبغي علوًّا في الأرض ولا فسادًا، كان إعلانه بذلك سببًا في قبول الحق الذي قال به، والإذعان له.
خامسًا: رفع مسـتوى الأمة، وعدم حجب الحقائق عنها، بمعنى أن العالم إذا جهر بالحق وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، كأنه يقول للأمة كلها: أنتم الحَكَم بيني وبين خصمي، فأنا أقول الحقَّ وأنتم تسمعون وتحكمون، فالأمة يرتفع مستواها حينئذ، وتصبح أمة مؤثِّرة قوية كل فرد منها له قيمته، ومكانته، وله رأيه، وكلمته، وليسوا مجرد أتباع، يؤمِّنون، ويؤيِّدون، ولا يعرفون هذا من ذاك، ولا يستطيعون أن يشاركوا بالرأي والمشورة، ولأصبحت الأمة قوية لها ثقل، ولها مكان، وهذا لا يكون إلا إذا أشركها العلماء في أمورهم، وأَمْرهم ونَهْيهم، وصدعهم بالحق، وجعلوا الأمة تشارك معهم في هذا العمل، فلا يحجبون الحقائق عن الأمة بحجة أن الناس رعاع، والناس همج، والناس فيهم وفيهم.
إنّ كثيرًا من العلماء كانوا يعلنون الحقيقة كاملة للناس، ويجعلون الناس يتبنون الدفاع عن الحق بمجرد أن قاله العالم ونطق به.
وكان العز بن عبدالسلام من العلماء الذين يسلكون هذا المنهج ولا يرون مانعًا شرعيًّا منه .
العز بن عبدالسلام – رحمه الله – كان ينطلق من مبدأ صريح، وموقف واضح عَبَّر عنه في كلام له حيث قال: “فإنّا نزعم أنا من جملة حزب الله – عز وجل -، وأنصار دينه وجنده، والجندي إذا لم يخاطر بنفسه فليس بجندي” .
إذًا ليس صحيحًا أن يدّعي الإنسان أنه جندي من جنود الله – عز وجل – مجاهد في سبيل الله، آمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر، ثم لا يخاطر بنفسه في هذه السبيل -ولو مرة واحدة- هذا لا يكون أبدًا، فالذي يريد السلامة لا يكون جنديًّا ولا يلبس لباس الجندية، وإنما يجلس في بيته، ويؤثر سلامة نفسه وبدنه.
مواقفـه العظيمـة:
لقد كان لهذا الإمام الجليل مواقف في غاية العجب، وهذه المواقف العظيمة لولا أنها مُسَطَّرة في الكتب لقلنا: إنها خيال من الخيال، لكنها مكتوبة، والذين كتبوها هم من العلماء الذين عاصروه وعاشروه وعاشوا معه.
موقفه مع الملك الصالح إسماعيل:
عندما كان العز بن عبدالسلام في دمشق كان الحاكم رجلاً يقال له: “الملك الصالح إسماعيل” من بني أيوب، فولّى العز بن عبدالسلام خطابة الجامع الأموي، وبعد فترة قام الملك الصالح إسماعيل هذا بالتحالف مع النصارى الصليبيين، أعداء الله ورسله، فحالفهم وسلّم لهم بعض الحصون، كقلعة الشَّقِيف ، وصَفَد ، وبعض الحصون، وبعض المدن وذلك من أجل أن يستعين بهم على قتال الملك الصالح أيوب في مصر.
فلما رأى العز بن عبدالسلام هذا الموقف الخائن الموالي لأعداء الله ورسله – عليهم السلام- ، لم يصبر فصعد على المنبر، وتكلّم وأنكر على الصالح إسماعيل تحالفه مع الصليبيين، وقالها له صريحة، وقطع الدعاء له في الخطبة، بعدما كان اعتاد أن يدعو له ، وختم الخطبة بقوله: “اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا تُعِزُّ فيه وليَّك، وتُذِلُّ فيه عدوَّك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر” . ثم نزل.
وعرف الأمير الملك الصالح إسماعيل أنه يريده، فغضب عليه غضبًا شديدًا، وأمر بإبعاده عن الخطابة، وسجنه، وبعدما حصل الهرج والمرج، واضطرب أمر الناس، أخرجه من السجن ومنعه من الخطبة بعد ذلك .
وخرج العز بن عبدالسلام من دمشق مغضبًا إلى جهة بيت المقدس، وصادف أن خرج الملك الصالح إسماعيل إلى تلك الجهة أيضًا والتقى أمراء النصارى قريبًا من بيت المقدس، فأرسل رجلاً من بطانته وقال له: اذهب إلى العز بن عبدالسلام ، ولاطِفْهُ ولايِنْهُ بالكلام الحسن، واطلب منه أن يأتي إليّ، ويعتذر مني، ويعود إلى ما كان عليه، فذهب الرجل إلى العز بن عبدالسلام وقال له: ليس بينك وبين أن تعود إلى منصبك وأعمالك وزيادة على ما كنت عليه، إلا أن تأتي وتُقَبِّل يد السلطان لا غير، فضحـك العز بن عبدالسلام ضحكة السـاخر وقال: “يا مسكين، والله ما أرضى أن يُقَبِّلَ الملك الصالح إسماعيل يدي فضلاً عن أن أُقَبِّلَ يده، يا قومُ أنا في واد، وأنتم في واد آخر، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به”.
قال: إذًا نسجنك، فقال: “افعلوا ما بدا لكم”. فأخذوه وسجنوه في خيمة، فكان يقرأ فيها القرآن ويَتَعَبَّد ويذكر الله تعالى.
وفي إحدى المرات كان الملك الصالح إسماعيل قد عقد اجتماعاً مع بعض زعماء النصارى الصليبيين، كان اجتماعهم قريباً من العز بن عبدالسلام بحيث يسمعون قراءته للقرآن، فقال: هل تسمعون هذا الذي يقرأ؟ قالوا: نعم. فقال متفاخرًا: هذا هو أكبر قساوسة المسلمين سَجَنَّاه؛ لأنه اعترض علينا في محالفتنا لكم، وتسليمنا لكم بعض الحصون والقلاع، واتفاقنا معكم على قتال المصريين.
فقال له ملوك النصارى: والله لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقته !
لو كان عندنا رجل بهذا الإخلاص للأمة وبهذه القوة، وبهذه الشجاعة لكُنَّا نغسل رجليه، ولشَرِبْنا الماء الذي غسلنا به رجليه، فأصيب الملك إسماعيل بالخيبة والذلِّ، وكانت هذه بداية هزيمته وفشله، وجاءت جنود المصريين، وانتصرت عليه وعلى من كانوا متحالفين معه من الصليبيين، وأفرجت عن الإمام العز بن عبدالسلام.
هذا موقف صرّح فيه العز بن عبدالسلام – رحمه الله – بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على رؤوس المنابر، ورأى أن هذا الذي يسعه، مع أنه كان يستطيع غير ذلك، ولكنه رأى أن هذا هو الأسلوب المناسب، خاصة أن الصليبيين في تلك الوقعة دخلوا شوارع دمشق ومدنها، وتجوَّلوا في أسواقها ودكاكينها، وكانوا يشترون الأسلحة من المسلمين؛ ولذلك وُجِّه إليه الاستفتاء: هل يجوز أن نبيع السلاح للنصارى؟
فأفتى – رحمه الله – بأن بيع السلاح إليهم لا يجوز؛ لأن من يبيعهم السلاح يعلم أنهم سوف يصوِّبون هذه الأسلحة إلى صدور المسلمين.
موقفه مع الصالح أيوب:
خرج العز بن عبدالسلام بعد ذلك إلى مصر، واستقبله نجم الدين أيوب، وأحسن استقباله، وجعله في مناصب ومسؤوليات كبيرة في الدولة.
وكان المتوقع أن يقول العز بن عبدالسلام: هذه مناصب توليتها، ومن المصلحة أن أحافظ عليها حفاظًا على مصالح المسلمين، وألاَّ أعكِّر ما بيني وبين هذا الحاكم، خاصة أن الملك الصالح أيوب -مع أنه رجل عفيف وشريف- إلا أنه كان رجلاً جبارًا مستبدًّا شديد الهيبة، حتى إنه ما كان أحدٌ يستطيع أن يتكلم بحضـرته أبدًا، ولا يشفع لأحد، ولا يتكلم إلا جوابًا لسؤال، حتى إن بعض الأمراء في مجلسه يقولون: والله إننا دائمًا نقول ونحن في مجلس الملك الصالح أيوب: لن نخرج من المجلس إلا إلى السجن؛ فهو رجل مهيب، وإذا سجـن إنسانًا نسيـه، ولا يستطيع أحد أن يكلِّمه فيه، أو يذكره به، وكان له عظمة وأبهة، وخوف وذعر في نفوس الناس، سواءً الخاصة منهم والعامة، فماذا كان موقف العز بن عبدالسلام معه؟
في يوم العيد خرج موكب السلطان يجوس في شوارع القاهرة، والشرطة مصطفّون على جوانب الطريق والسيوف مُصْلتة، والأمراء يقبّلون الأرض بين يدي السلطان هيبة وأبهة -وهذه كانت عادة سيئة موجودة عند الأمراء في ذلك الوقت-، وهنا وقف العز بن عبدالسلام وقال: يا أيوب؛ هكذا باسمـه مجردًا بلا ألقاب، فالتفت الحاكم ليرى: من الذي يخاطبه باسمه الصريح، بلا مقدمات، ولا ألقاب؟ ثم قال له العزّ: ما حُجَّتُك عند الله – عز وجل – غدًا إن قال لك: ألم أُبَوِّئْكَ ملك مصر، فأبحت الخمور؟ فقال: أو يحدث هذا في مصر؟ قال: نعم، في مكان كذا، وكذا، حانة يباع فيها الخمر وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلّب في نعمة هذه المملكة؟
فقال: يا سيدي، أنا ما فعلت هذا، إنما هو من عهد أبي. فَهَزَّ العز بن عبد السلام رأسه وقال: إذن أنت من الذين يقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) [الزخرف:22]، فقال: لا، أعوذ بالله، وأصدر أمرًا بإبطالها فورًا، ومنع بيع الخمور في مصر
رجع العز بن عبدالسلام – رحمه الله – إلى مجلسه يعلِّم الطلاب، ويدرِّسهم، وكان يعلمهم مواقف البطولة، والشجاعة كما يعلمهم الحلال والحرام، ويعلمهم الغَيْرة على الدين مثل ما يعلمهم الأحكام؛ إذ ما قيمة أن يوجد طالب يحفظ القرآن والصحيحين والسنن، وكتب الفقه والحديث ومع ذلك هو ميت الغيرة على الإسلام، لا يغضب لله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، ولا يَتَمَعَّر وجْهُهُ إذا رأى المنكر، ويَتَطَلَّعُ لمنازل الصِّديقين والشهداء؟ ما قيمة هذا العلم؟
وعندما رجع العز بن عبدالسلام إلى مجلس درسه جاءه أحد تلاميذه يقال له: “الباجي” يسأل: كيف الحال؟ قال: بخير والحمد لله. قال: كيف فعلت مع السلطان؟ قال: يا ولدي، رأيت السلطان وهو في أبهة وعظمة، فخشيت أن تكبر عليه نفسه فتؤذيه، فأردت أن أهينها .
إذن العز بن عبدالسلام أعلن هذا الأمر على الناس؛ لأنه يريد أن يربي السلطان، ويقصد إنكار مُنْكَرَيْن في وقت واحد:
المنكر الأول: الحانة التي يباع فيها الخمر:
والمنكر الثاني: هو هذا الغرور، وهذه الأبهة، والطغيان الذي بدأ يكبر في نفس الحاكم، فأراد أن يقتلعه، ويزيله من نفسه لذا قال العز: “لئلاّ تكبر عليه نفسه فتؤذيه”. فقال له تلميذه الباجي: يا سيدي، أما خِفْتَه؟ قال: “لا والله يا بني، استحضرت عظمة الله – عز وجل – وهيبته فرأيت السلطان أمامي كالقط!” .
لكن ما رأيكم في طالب علم أصبح يخاف حتى من القط؟ هل يأمر أو ينهى؟ كلا بالطبع
لعل من أسباب قيام العز بن عبدالسلام – رحمه الله – باتخاذ هذه المواقف العلنيّة أن يجرَّ الأمة كلها إلى مواقف شجاعة قوية.
موقفه مع أمراء المماليك:
وهناك موقف آخـر يعدُّ من أعجب مواقفه – رحمه الله -، فقد كان المماليك هم الذين يحكمون مصر في عصر العز بن عبد السلام فالحكومة الحقيقية كانت في أيديهم، فقد كان نائب السلطنة مملوكيًّا، وكذلك أمراء الجيش والمسئولون كلهم مماليك في الأصل وفيهم من لم يثبت تحرره من الرق.
وكان العز بن عبدالسلام كبير القضاة بمصر، فكان كلما جاءته رقعة فيها بيع أو شراء أو نكاح أو شيء من هذا للمماليك الذين لم يحرروا أبطلها وقال: هذا عبد مملوك، حتى لو كان أميرًا وكبيرًا عندهم أو قائدًا في الجيش يَرُدُّه، إذ لابد أن يُبَاع ويحرَّرَ، وبعد ذلك يُصَحِّحُ بيعهم وشراءهم وتصرفاتهم كلها، أما الآن فهم عبيد.
فغضب المماليك من هذا الإمام، وجاءوا إليه وقالوا: ماذا تصنع بنا؟ قال: رددنا بيعكم، فغضبوا أشد الغضب ورفعوا أمره إلى السلطان، فقال: هذا أمر لا يعنيه.
فلمّا سمع العز بن عبدالسلام هذه الكلمة؟ قام وعزل نفسه من القضاء.
لقد كان من أهم جوانب قوة العز بن عبدالسلام أنه كان أكبر من المناصب، وأكبر من الوظائف، وأكبر من الأسماء؛ ولذلك ما كان يتطلع إليها أو يستمد قوته منها، إنما يستمد قوته من إيمانه بالله – عز وجل -، ومن وقفته إلى جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بكلمة الحق، ثم من الأمة التي أعطته ثقتها واتباعها في الحق يصدع به.
ولذا أصبح العز بن عبدالسلام في حياتهم وقلوبهم هو تاج الزمان ودُرَّته، وأصبح هو أعظم عالم وداعية وإمام في العالم الإسلامي في وقته؛ فلذلك عزل نفسه عن القضاء؛ إذ كل أمور المسلمين تدخل تحت تصرّف القاضي، وهو لا يحكم فيها إلا بحكم الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -.
ثم قام العزّ بتصرف آخر مشابه، وهو أنه جمع متاعه وأثاث بيته واشـترى حمارين، ووضع متاعه على حمار، وأركب زوجته وطفله على الحمار الآخر، ومشى بهذا الموكب البسيط المتواضع يريد أن يخرج من مصر ويرجع إلى بلده الشام.
لكن الأمة كلها خرجت وراء العز بن عبدالسلام ، حتى ذكر المؤرِّخون أنه خرج وراءه العلماء والصالحون والعباد، والرجال والنساء والأطفال، وحتى الذين لا يؤبه لهم -هكذا تقول الرواية- مثل: النجارين، والصباغين، والكناسين…، وخرج كل أصحاب الحرف والمهن -الشريفة والوضيعة-، الجميع خرجوا وراء العز بن عبدالسلام في موكب مهيب رهيب.
ثم ذهب بعض الناس إلى السلطان وقالوا له: من بقي لك تحكمه إذا خرج العز بن عبدالسلام ، وخرجت الأمة كلها وراءه؟ ما بقي لك أحد، متى راح هؤلاء ذهب ملكك.
فأسرع الملك الصالح أيوب للعزّ، وركض يدرك هذا الموكب ويسترضيه ويقول له: ارجع ولك ما تريد، قال: لا أرجع أبدًا إلا إذا وافقتني على ما طلبت من بيع هؤلاء المماليك، قال: لك ما تريد، افعل ما تشاء.
رجع العز بن عبدالسلام وبدأ المماليك يحاولون معه ليغيّر رأيه؛ إذ كيف يباعون بالمزاد العلني، فأرسل إليه نائب السلطنة -وكان من المماليك- بالملاطفة فلم يفد معه هذا الأسلوب، فاقترح بعضهم قتل العز بن عبدالسلام ، فذهب نائب السلطنة ومعه مجموعة من الأمراء، ثم طرق باب العز بن عبدالسلام ، وكانت سيوفهم مصلتةً يريدون أن يقتلوه فخرج ولد العز بن عبدالسلام -واسمه عبد اللطيف-، فرأى موقفًا مهيبًا مخيفًا، فرجع إلى والده وقال: يا والدي انجُ بنفسك.. الموت، الموت، قال: ما الخبر؟ قال: الخبر كيت، وكيت.
فقال العز بن عبدالسلام لولده: يا ولدي، والله إن أباك لأحقر وأقل من أن يقتل في سبيل الله – عز وجل -.
ثم خرج مسرعًا إلى نائب السلطنة، فلمّا رآه نائب السلطنة يبست أطرافه، وتجمّد وأصابته حالة من الذعر والرعب، وأصبح يضطرب وسقط السيف من يده، واصفرَّ وجهه، وسكت قليلاً ثم بكى وقال: يا سيدي، خبِّر ماذا تعمل؟ قال العز: أنادي عليكم وأبيعكم. قال: تقبض الثمن؟ قال: نعم. قال: أين تضعه؟ قال: في مصالح المسلمين العامة، فطلب منه الدعاء وبكى بين يديه ثم انصرف.
وفعلاً فَعَلَها العز بن عبدالسلام – رحمه الله – قام وجمع هؤلاء، وأعلن عنهم، وبدأ يبيعهم، وكان لا يبيع الواحد منهم إلا بعدما يوصله إلى أعلى الأسعار، فلا يبيعه تَحِلَّةَ القسم، وإنما يريد أن يزيل ما في النفوس من كبرياء، فكان ينادي على الواحد بالمزاد العلني، وقد حكم مجموعة من العلماء والمؤرخين بأن هذه الواقعة لم يحدث مثيل لها في تاريخ البشرية كلها.
إن جميع الأمم على مدى تاريخ البشرية جمعاء إذا أتوا يفاخروننا، فإننا نفاخرهم بأئمة أفذاذ من أمثال العز
ابن عبد السلام، هاتوا لنا شخصية فكرية في الأمم كلها تقف مثل هذا الموقف؟
ولعل تاريخ الإسـلام كله لا يعرف فيه مثل هذا الموقف الذي حصل للعز بن عبد السلام – رحمه الله – رحمة واسعة.
وقد سجَّل هذا الموقف – بقلمه البـارع وأدبه الرفيع-، الأديب مصطفى صادق الرافعي – رحمه الله – في كتابه “وحي القلم” تحت عنوان “أمراء للبيع” ، وأَلَّف أحد المعاصرين كتابًا سماه: ” العز بن عبدالسلام بائع الملوك”.
مع الظاهر بيبرس:
وتكرر هذا الأمر منه عند بيعة الظاهر بيبرس حين استدعى الأمراء والعلماء لبيعته، وكان من بينهم الشيخ العز، الذي فاجأ الظاهر بيبرس والحاضرين بقوله: يا ركن الدين أنا أعرفك مملوك البندقدار -أي لا تصح بيعته؛ لأنه ليس أهلا للتصرف- فما كان من الظاهر بيبرس إلا أن أحضر ما يثبت أن البندقدار قد وهبه للملك الصالح أيوب الذي أعتقه، وهنا تقدَّم الشيخ فبايع بيبرس على الملك.
وكان الظاهر بيبرس على شدته وهيبته يعظم الشيخ العز ويحترمه، ويعرف مقداره، ويقف عند أقواله وفتاواه، ويعبر السيوطي عن ذلك بقوله: وكان بمصر منقمعًا، تحت كلمة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، لا يستطيع أن يخرج عن أمره حتى إنه قال لما مات الشيخ: ما استقر ملكي إلا الآن.
إذن العز بن عبدالسلام كان شجـاعًا في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والجهر بكلمة الحق، وكان يرى أن يقول ذلك علانية، وصراحـة، ولا يداهـن، ولا يخاف في الله لومة لائم.
محاربتـه للمنكـرات:
لم يكن العز بن عبدالسلام يكتفي بإنكار المنكر بلسانه فحسب؛ بل إن الأمر قد تعدّى إلى أنه كان يتولى بنفسه تغيير المنكرات وقد سبق ذكر شيء من ذلك.
موقفه مع الوزير فخر الدين:
ومن أبرز المواقف التي تذكر في هذا الجانب: أن بعض تلاميذه أتوه في يوم من الأيام فقالوا له: إنه في مكان كذا، قام وزير كبير في دولة المماليك ويدعى فخر الدين ببناء طبلخانة -وهي: مكان مخصص للغناء والرقص والموسيقى والفساد- وكان هذا المكان بقرب أحد المساجد، وعندما تأكد العز بن عبدالسلام من صحّة هذا الخبر، جمع أولاده وبعض تلاميذه وذهب إلى المكان الذي يسمونه بالطبلخانة، وقام وأخذ الفأس، وبدأ في هدم هذا المكان هو ومن معه حتى سَوّوه بالأرض.
فهل اكتفى بهذا؟ لا؛ بل أصدر قرارًا بأن هذا الوزير ساقط العدالة، فلا تقبل شهادته، ولا يقبل منه أي خبر من الأخبار، وأعلن ذلك للناس، فسرعان ما تناقلت الأمة هذا الخبر عن العز بن عبد السلام.
وظن فخر الدين وغيره أن هذا الحكم بإسقاط عدالته لن يتأثر به فخر الدين إلا في مصر فقط، ولكنهم تعجّبوا أشد العجب حينما حدث خلاف ذلك، فقد أرسل ملك مصر “الملك الصالح” إلى الخليفة العباسي المستعصم ببغداد رسالة شفهية بواسطة أحد الأشخاص وعندما أبلغ هذا الرجل الرسالة إلى الخليفة المستعصم قال له الخليفة: هل سمعت هذه الرسالة من ملك مصر مباشرة؟ قال: لا، ولكن أبلغنيها الوزير فخر الدين عن الملك، فقال له الخليفة: إن هذا الوزير المذكور قد أسقط العز بن عبد السلام عدالته، ولا أقبل خبره، ارجع بهذه الرسالة، فلن أقبل هذا الخبر حتى تأتيني به من حاكم مصر مباشرة، فرجع الرسول إلى ملك مصر حتى شافهه بالرسالة ثم عاد إلى بغداد وأدّاها إلى الخليفة المستعصم
وعندما وصل خبر ردّ الخليفة لرواية هذا الوزير وخبره، عرف الناس أن الأمة كلها مع الع العز بن عبدالسلام.
ولنا على هذه القصّة ثلاث ملاحظات:
الملاحظة الأولى: كيف أن الأمة كانت تواصل العلماء، وتخبرهم بما يجري وما يقع؛فالعالم ليس كالشمس يشرق على هذه الدنيا كلها، ولذا يحتاج من تلاميذه وممن حوله أن يقولوا له: حصل كذا وحصل كذا، بحيث إن الأمة كلها تمد جسورها مع العالم وهذا أمر مهم وضروري للغاية.
الملاحظة الثانية: أنّ العز بن عبدالسلام كان يتولى بنفسه أحيانًا مباشرة تغيير المنكر باليد، وقد قال الرسول – صلى الله عليه وسلم -: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” والعز كان يستطيع أن يغير بيده فقد كان منصبه ومكانته تؤهله لذلك .
وتغييره – رحمه الله – باليد يعد مَوْقفًا وسطًا بين صورتين تقعان في كل زمان ومكان:
الأولى: صورة بعض المتعجلين الذين يقومون بتغيير المنكرات بأيديهم لكنهم ليس لديهم قوة، ولا مكانة، بحيث إن تغييرهم للمنكر قد يعود بنتائج سلبية، وهذا ما نلاحظه في هذا العصر في كثير من البلدان، يكون تغيير المنكر باليد -بإتلافه، أو إحراقه، أو هدمه، أو منع وقوعه- سببًا في مضاعفة المنكر.
الثانية: وهي صورة بعض طلبة العلم، والمحسوبين على الدعوة والخير، ممن إذا رأى المنكر طأطأ رأسه وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، وربما لا يمرّ على هذا المكان الذي شاهد فيه المنكر ثانية، ولا يبذل أيّ محاولة إيجابية لتغيير هذا المنكر. وبالطبع فإن الهروب من المنكر لا يعني أن المنكر زال، وقول: “إنا لله وإنا إليه راجعـون” هو قول طيب بلا شــك، وذِكْرٌ لله – عـز وجل -، ولكن يجب أن يُشفع ذلك ويؤيَّد بموقف إيجابي فعّال، يعمل على إزالة المنكر.
فكان موقف العز بن عبدالسلام موقفًا وسطًا بين هاتين الصورتين، فهو رجل متمكن له قوة وقدرة ولذا استطاع بها أن يغيّر المنكر بيده.
الملاحظة الثالثة: إن الذي جعل العز بن عبدالسلام- رحمه الله – يقف هذا الموقف هو أن الأمة كلها وراءه؛ ولذلك لما أصدر قرار إسقاط عدالة هذا الرجل، ما عاد أحد يقبل منه أي قول.
فإذا كانت الأمة فعلاً ملتفة حول علمائها وقادتها الشرعيين فإنها تكتسب بهم قوة، وتكسبهم قوة:
– أمّا العلماء فإن الواحد منهم يستطيع بتأييد الأمة له والتفافها حوله أن يأمر وينهى ويعلن الحق وينكر المنكر وإذا غضب غضبت له ألوف وألوف.
مكانتــه عنــد الأمة:
لعلَّ من أبرز الجوانب التي نحتاج إلى أن نقف عندها في حياة العز بن عبدالسلام هي: مكانة العالم لدى الأمة عامها وخاصها جماهير الأمة، وسلاطينها وحكّامها.
لقد كان العز بن عبدالسلام – رحمه الله – حلقة وصل بين العامة والخاصة، بين الحاكم والمحكوم؛ لأن الحاكم يحتاج إليه، لتأييد مواقفه وكسب الناس؛ ولذلك عندما يتولى الحاكم المملوكي أو غيره مقاليد الحكم، كان أول من يبايعه هو العز بن عبدالسلام ، ثم بعد ذلك تبايعه الوزراء، ثم تبايعه الناس، فكان الحاكم يدري أنه يحكم أمة مسلمة تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وأنه لا يستطيع أن يستقر ويضمن هذه الأمة، إلا إذا حكمها بكتاب الله وسنة نبيها – صلى الله عليه وسلم -، وأرضى الواسطة بينه وبين هذه الأمة وهم العلماء.
فكان العالم يحتاجه الحاكم وفي نفس الوقت تحتاجه الرعية؛ لأن الرعية لها حاجات ومطالب وآراء واجتهادات، وكانوا لا يوصلونها بأنفسهم؛ لذلك يحتاجون إلى العالم؛ حتى يوصل هذه الأمور إلى الحاكم، فهو حلقة وصل بين الأمة وبين حكامها ومسئوليها.
إن العالم في هذا الوقت -خاصة العز بن عبد السلام- كان في موقف عظيم، فمن جهة كان مدافعًا عن مصالح الأمة سواءً في أمورها الخاصة أو العامة، ولعل من أبرز الصور التي تتجلى فيها مدافعته عن مصالح الأمة دفاعه عن مصالحها الاقتصادية، ومعلوم أن الاقتصاد من الأمور التي يشترك الناس كلهم في الغضب لها أو الرضا بها، فإذا مَسَّت الجوانب الاقتصادية حياة الناس سخطوا، وإذا أرضوا بالمال رضوا: طيّبُهم وفاجرُهم.
ولذلك كان العز وغيره من العلماء يحرصون على حماية مصالح الناس عامة والاقتصادية خاصة.
خدمته للأمة على المستوى الخاص:
من المؤكد أن العز بن عبد السلام لم يكن عنده امتيازات شخصية، فلم يكن عنده رواتب ضخمة، ولا قصور فخمة؛ بل -كما سبق- كان الموكب الذي أراد أن يخرج به من مصر عبارة عن حمارين، وكان أثاثه كلّه يحمل في مزادتين، ورغم ذلك لم يتأخر العز عن خدمة الأمة على قلة ما يملك.
فقد حدث في دمشق انخفاض في الأسعار، حتى أصبحت البساتين تباع بأسعار زهيدة، فجاءت زوجة العزّ له وقد جمعت مصاغًا لها، وأعطته للعز وقالت له: اشتر لنا بستانًا نصطاف فيه -أي نخرج إليه في الصيف-، فأخذ العزّ الحلي والمصاغ وباعه، ثم وجد الناس محتاجين، فتصدق به، ثم رجع إلى البيت، فقالت له زوجته: يا سيدي، هل اشتريت لنا بستانًا؟ قال: نعم اشتريت لك بستانًا ولكن في الجنة، فقد رأيت الناس محتاجين ففرَّقْتُ هذا المال فيهم. فقالت له: جزاك الله خيرًا.
إذن الأمة عرفت أن الرجل يبذل ماله، ويحرص على قضاء حقوق المحتاجين، ولو من مصاغ زوجته، وهذا يستحق أن تقف الأمة وراءه، هذا في الأمور الخاصة وإن كانت بسيطة؛ لأن العالم في العادة لا يكون عنده أموال يوزعها،، فالعالم في تاريخ الأمة كلها ما كان يوزع أموالاً إلا في حالات نادرة، إنما يوزع الهداية بين الناس، هداية الدلالة والإرشاد.
خدمته للأمة على المستوى العام:
كان العز بن عبدالسلام مدافعًا أيضًا عن مصالح الناس الاقتصادية والمالية العامة، فهو يدافع عن أموالهم، ويمنع الظلم والاعتداء على حقوقهم، وإليك مثالاً يوضح ذلك:
فعندما أراد حاكم مصر أن يقاتل التتار، رأى أن أموال خزينة الدولة لا تكفي، ورأى أن يأخذ أموالاً من الناس، فجمع العلماء وقال لهم: ما رأيكم؟ نريد أن نأخذ من الناس أموالاً نستعين بها في تجهيز الجيش، والسلاح، ودفع رواتب الجند، وما أشبه ذلك من المصالح التي لابد منها، ونحن نواجه عدوًّا اجتاح بلاد العراق والشام ووصل إلينا وما في الخزينة لا يكفي لإعداد الجيش فقال له العز بن عبدالسلام: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك، وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام، وضربته سكة ونقداً وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم، في ذلك الوقت اطلب القرض، وأما قبل ذلك فلا، فأحضر السلطان والعسكر كل ما عندهم من ذلك بين يدي الشيخ، وكان الشيخ له عظمة عندهم وهيبة بحيث لا يستطيعون مخالفته فامتثلوا أمره وانتصروا.
هذا الموقف تناقلته الأمة وعرفت مَنْ وراءه، وأن الذي حفظ أموالها وحماها من أن تغلب أو يؤخذ مالها بغير حق هو العز بن عبدالسلام.
من يحمــل الـرايـة؟
إن الأمة خاصة في أزمنة الفتن والضعف كهذا الضعف الذي نعيشه الآن، وكالضعف الذي كان في زمن العز بن عبدالسلام إذْ تسلَّطَ عليها التتار من جهة، والصليبيون من جهة، والضعف الداخلي من جهة ثالثة، والتفرق والتمزق إلى غير ذلك.
إن الأمة في لحظات الضعف هذه تطرح سؤالاً هو: من الذي يحمل الراية؟
الأمة كلها في حيرة تريد أحدًا يحمل الراية، ويقول: أنا لها؛ حتى تسير الأمة كلّها، ويسير العلماء، وطلاب العلم، والدعاة وراءه.
شيوخ العزّ يحملون الراية من قبله:
إن العز بن عبدالسلام – رحمه الله – تربى على أيدي علماء فيهم قوة وجرأة في الحق، فمنهم تعلّم، وعلى دربهم سار، ومن هؤلاء العلماء:
فخر الدين بن عساكر:
كان فخر الدين بن عساكر في دمشق وحاولوا أن يلزموه بالقضاء فرفض، وكان ابن عساكر قويًّا في الحق، حتى إنه أنكر على حاكم دمشق أنه كان يضمِّن الناس الخمر والمكوس التي كانوا يتلفونها.
عبد الصمد الحرستاني:
ومن شيوخ العزّ أيضًا: رجل اسمه عبد الصمد الحرستاني وهذا الرجل ألزم بالقضاء أيضًا، فلمّا ألزموه القضاء سار به على طريقة السلف الصالح وعلى الجادة، حتى إنه في إحدى المرات كان في مجلس القضاء، فجاءه خصمان قدم له أحدهم رقعة، فجعلها في الدرج ثم قال: ماذا عندك؟ وقال لخصمه: وأنت ماذا عندك؟
ثم حكم بعد ذلك فجاء حكمه ضدّ الرجل صاحب الرقعة، ثم فضّ الرسالة، وقرأه، فإذا به خطاب من الحاكم يشفع لهذا الرجل الذي حكم عليه، يقول له: حاول أن تنظر في أمره، وأن تجعل الحق معه، فأتلف ذلك الكتاب، وقال: قد غلب كتاب الله هذا الرجل.
فكان هذا من شيوخ العز بن عبدالسلام ، وعلى يد هؤلاء العلماء تعلّم العز بن عبدالسلام دروس القوة، والشجاعة، والغيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والزهد في المناصب، حيث عزل العز بن عبد السلام نفسَه من القضاء أربع مرات، فكلما حدثت مشكلة بينه وبين السلاطين يعزل نفسه عن القضاء ويقول : مالي به حاجة! أنتم ألزمتموني، لا أحتاجه، ثم يعزل نفسه
.تلاميذ العزّ يحملون الراية من بعده: ثم تلقى على يد العز بن عبدالسلام بعد ذلك رجال آخرون حملوا الراية من بعده، وساروا على دربه ومن هؤلاء:
ابن دقيق العيد:
الذي عزل نفسَه من القضاء أربع مرات، فكلما حدثت مشكلة يقوم ابن دقيق العيد بعزل نفسه عن القضاء، ويقول: مالي به حاجة! أنتم ألزمتموني، لا أحتاجه، ثم يعزل نفسه.
وقد حصل لابن دقيق العيد موقف مشابه لموقف شيخه العز ابن عبد السلام، فإن السلطان محمد بن قلاوون أراد أن يجمع المال من الناس لأجل حرب التتار ولو بالقرض، وهذا شبيه بما فعله قطز من قبل مع العز بن عبد السلام، فجمع السلطان محمد بن قلاوون العلماء؛ ليحظى بتأييدهم في هذا الأمر.
فقال له ابن دقيق العيد: لا يمكن أن تأخذ الأموال من الناس إلا بعد أن تجمع الأموال من السلاطين، والأمراء، ومن نسائهم، حتى قال له: إن من أمرائكم من جهز ابنته لتزف إلى زوجها، وعمل بحفلها الجواهر، واللآلئ، والحلي الفاخرة، وجعل معها الأواني من الذهب والفضة، وإن منكم من رَصّع مداس زوجته بالجوهر، فإذا أتيت بهذه الأموال ولم تكف ننتقل إلى أموال الرعية.
إذن القضية هي تربية العزّ التي تلقَّاها مِنْ مشايخه من أمثال: ابن عساكر وعبد الصمد الحرستاني، ومن ثم أدّى الأمانة وسلّم الراية إلى من بعده كابن دقيق العيد وغيره من التلاميذ.
وفاته:
بعد عمر مديد حافل بالتضحيات والجهاد في سبيل نصرة الإسلام توفي العزّ بن عبد السلام في العاشر من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة للهجرة
جنازة الشيخ:
وهكذا تمضي حياة العز بن عبد السلام في كفاح متواصل، وتواضع جم، ونفس أبية مترفعة عن حطام الدنيا، فنال ثوابيْ الدنيا والآخرة. ويختاره الله إلى جواره
وتمر جنازته تحت القلعة بالقاهرة، وشاهد الملك الظاهر بيبرس كثرة الخلق الذين معها فقال لبعض خواصه: (اليوم استقر أمري في الملك) لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه لانتزع الملك مني
رحمه الله وجعل الفردوس الأعلى مثواه، ورزق المسلمين بعلماء أمثاله لا يخشون في الله لومة لائم يبيعون دنياهم من أجل أخراهم همهم رضاء الله ونفع المسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.