ثلاثة دروس معاصرة من الهجرة النبوية
د. مسعود صبري
لم تكن هجرة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- حدثًا تاريخيًّا يتوقف عند حدود الزمان ( زمن النبوة) أو حدود المكان ( من مكة إلى المدينة)، وهو وإن كان حدثًا له زمانه ومكانه، إلا أن أحداث النبوة أعمق من ذلك بكثير، لأن لها امتدادًا عبر الأزمنة المتلاحقة إلى أن يقوم الناس لرب العالمين، ذلك أن أحداث النبوة مرتبطة بالوحي والدعوة ، ولأنها جزء من حضارة الأمة، ومن ذلك الماضي المتجدد الذي يقصد به أخذ العبرة والعظة، لا أن نقف عند حده باعتباره ماضيا انتهى، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]
إن النظر إلى مقاصد الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة لهي مقاصد دائمة متجددة، وإنه لمطلوب منا أن ننظر ما وراء الحدث، لنعرف مقاصده وأهدافه، فنتعلم منه ما ينفع حياتنا، ويدعم مسيرتنا الحضارية، وما يعود بالنفع علينا، على مستوى الفرد، والمجتمع.
إن الهجرة ليست انتقال رجل وجد فرصة عمل سانحة في بلد آخر؛ ليحسن من وضعه المالي أو الاجتماعي، وإنما هي إكراه رجل آمن في بلده على تركه وترك مصالحه وتضحيته بكل ما يملك فرارا بنفسه إلى مستقبل غامض مجهول ظاهرا، لكنه مع كل هذا واثق بموعود الله الذي لا يخيب، وبنصره الذي يتنزل على عباده الصالحين، ولا تكون الهجرة بهذا المعنى إلا من قلب امتلأ بالإيمان بالله، والتوكل عليه، وإحسان الظن به، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين.
لقد جاءت الهجرة النبوية تجسيدا لمقاصد الشريعة العظمى، من أهمها:
الدرس الأول: حفظ النفس البشرية:
فقد جسدت الهجرة النبوية مقصد حماية الأنفس التي تعرضت للتعذيب والأذى، ولا تجد ما تدافع بها عن نفسها من ظلم الظالمين، وطغيان الطغاة، فقد تعرض الصحابة – رضوان الله عليهم- لألوان من العذاب الذي لا يطاق، فهم مستضعفون لا يقوون على الدفاع عن أنفسهم، فجاء الأمر الإلهي بالهجرة؛ حفاظا على النفس من القتل والتعذيب والتشريد والهلاك.
إن حكمة التشريع تجعل المسلمين حكماء في تصرفاتهم وقت ضعفهم، فمواجهة الظالم الغاشم ليست مقصدا من مقاصد التشريع إن كان المسلمون في ضعف، بل تتوجب الهجرة عند القدرة عليها حفاظا على الروح والنفس ، ولو كان مواجهة الطغيان مع الضعف مقصدا لوقف الصحابة – رضوان الله عليهم- أمام الكافرين في مكة، ولماتوا جميعا ؛ مواجهة للظالمين المعتدين، لكنهم لم يفعلوا.
وما أروع فهم الصحابة لهذا المقصد، ففي غزوة مؤتة التي قتل فيها ثلاثة من كبار الصحابة كانوا هم قادة الجيش المسلم، ولما تولى خالد القيادة رأى بفهمه وحكمته أن البقاء في أرض المعركة خسارة أكبر، فراوغ الظالمين، وغير هيئة الجيش فجعل الميمنة مكان الميسرة والميسرة مكان الميمنة، والأمام خلفا، والخلف أماما، حتى يوهم الكافرين أن هناك مددا من المدينة جاء له، واستطاع بحنكته أن ينسحب بجيش المسلمين، ويترك ملاقاة العدو، ويخرج من أرض المعركة، فلما عاد بالجيش إلى المدينة منسحبا خرج الفتيان يعيرونه وجنوده ويقولون لهم: يا فرار يا فرار، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم منهم ذلك، قال: ” بل الكرار إن شاء الله”، وبسبب حكمة خالد سماه النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الجهاد وقد عرف ما حصل فسماه ” سيف الله المسلول”.
إنها هجرة ليس بقصد الفر، بل بقصد الكر والعودة، ولما هاجر الصحابة -رضوان الله عليهم- من مكة بلدهم وموطنهم إلى المدينة، ومكثوا فيها ثماني سنوات لكنهم عادوا إلى مكة بعد ذلك فاتحين منتصرين.
وهو درس عملي للأمة والمسلمين أن قتل النفس ليس مقصودا شرعيا، وأنه ليس من الفرح أن يُقتل المسلم، فنيل الشهادة أثر للجهاد وليست مقصدا من مقاصد تشريع الجهاد، فحفظ النفس من أكبر مقاصد التشريع، ولهذا جاء تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من البقاء في بلاد المشركين لما فيها من اضطهاد وظلم وقتل للنفس المعصومة عند الله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي وأبو داود في السنن:” أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين”، والبراءة هنا يجب أن يفهم مقاصدها ومراميها، لما فيها من الفتنة في الدين، وتعريض النفس التي هي أمانة الله عند الإنسان للهلاك، فإن أقام المسلم في دار شرك، لكنه أمن على دينه ونفسه؛ جاز له الإقامة، بل تصل الإقامة أحيانا إلى درجة الاستحباب، وأحيانا أخرى إلى درجة الوجوب.
إن كثيرًا من الناس يعرض نفسه للهلاك والتعذيب بسبب جهله بالحكم الشرعي، ولأن مقاييس الأمور أضحت الآن بالهوى بعيدًا عن سؤال أهل العلم، والأخذ برأي العلماء، في زمن غلب فيه الرأي والهوى، وأن تلبس بثياب الصلاح والتقوى، لكنه ثياب جهل مع حسن قصد.
الدرس الثاني: حفظ الدين والعقيدة:
لقد كانت الهجرة النبوية تهدف إلى الحفاظ على الدين الناشئ في بيئة قست قلوبها، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وبدلا من الفرح بالدين الحق، قاوم أهل الجاهلية هذا الدين، وسعوا كل مسعى كي لا يستقر في الجزيرة العربية خوفا على مصالحهم التجارية ومناصبهم القيادية، ولذا حاربوا الإسلام؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يخدعوا الناس بحيلهم ومكرهم في وجوده، ولن يكونوا معه قادة، وظنوا أنه يهدد مصالحهم، وسعى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إقناعهم أن الإسلام ما جاء ليشاركهم القيادة والرئاسة أو يتسلط على مصالحهم، لكنهم أبوا أن يسمعوا لذلك.
من هنا كان من أهم أسباب الهجرة تعرض دين المسلم للفساد والهلاك، فوجب عليه أن يهاجر إلى الله تعالى تاركا وطنه الذي نشأ فيه، وبلده الذي تربى فيه إلى أرض لله أخرى، يجد فيها بغيته في إقامة الشريعة، والحفاظ على الملة السمحة.
إن المسلم بلا دين لا قيمة له، وإن الأرض التي لا تسمح للإنسان بإقامة شريعة الله تعالى، فلا تأذن له بإقامة الصلاة، ولا الصوم ولا الحج ولا العدل ولا صلة الرحم، ولا تقوى الله، لحري أن يتركها الإنسان حتى يحافظ على دينه، فإن الردة عن الدين هي أكبر خسارة للإنسان، وإن وازنا بين بقاء الإنسان في أرضه ووطنه وبين الحفاظ على دينه وخشية الكفر، كان تقديم حفظ الدين مقدما على البقاء في أرضه ؛ تحقيقا لقوله تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56].
لقد عاب الله تعالى على القادرين على الفرار بأنفسهم ودينهم أمام الكفر والشرك وتعرضهم للأذى والفتنة في الدين، ولم يستثن من ذلك إلا العجزة من النساء والولدان والرجال، وجعل البقاء في دار الكفر التي يعذب الإنسان فيها ويفتن فيها عن دينه من الإثم الذي يحاسب عليه، كما قال تعالى: {نَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء: 97، 98]
ومع هذه الهجرة لابد من الصبر، فدوام الحال من المحال، والبقاء على حال لا يستمر، لكن مع حسن طاعة الله والتوكل عليه يكون الفرج من الله للمسلمين، كما قال تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر: 10].
الدرس الثالث: العيش في بيئة صالحة:
إن الهجرة تجسيد حقيقي لفطرة الإنسان الذي يعيش في بيئة لم تحترمه ولم تقدره ليبحث عن بيئة أخرى مملوءة بالخير بدلا من بيئة الشر، ” فلم تكن الهجرة تخلّصا فقط من الفتنة والاستهزاء، بل كانت تعاونا عاما على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن.
وأصبح فرضا على كلّ مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأن يبذل جهده في تحصينه، ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة- بعد الهجرة إليها- نكوصًا عن تكاليف الحق، وعن نصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالحياة بها دين، لأنّ قيام الدين يعتمد على إعزازها” . فقه السيرة (ص: 165)
لقد كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تجسيدًا لتحقيق مقاصد الشريعة من الحفاظ على النفس، والحفاظ على الدين، والحفاظ على المال؛ لأن اضطهاد المؤمنين يصحبه أن يتعرض الكافرون لمال المسلمين فيأخذونه منهم، ويصادرون ممتلكاتهم كما فعل كفار قريش مع المؤمنين المهاجرين، إذ أخذوا ديارهم وتجارتهم وأموالهم، أما إن أمن المسلمون من الكافرين على دينهم وأموالهم وأرواحهم، فقد انتفى معه النهي الشرعي بوجوب الهجرة.
إن الهجرة لم تكن حدثا عابرا، بل هو درس تاريخي حضاري ممتد منذ نشأته إلى أن يقوم الناس لرب العالمين، يتجاوز الزمان والمكان، ليكون عبرة للأمة، وينهل منه كل جيل ما يعالج به حاضره، وما يخطط به لمستقبله.