ترتيب الأولويات في الإسلام الشيخ / السيد طه أحمد
الحمد لله رب العالمين.. فضل بعض الأعمال علي بعض فقال تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة:19]. فنحمده سبحانه وتعالى علي نعمة الإسلام العظيم وكفي بها نعمة ونشكره أن هدانا للقرآن الكريم ولولاه ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أن أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير..حذر من إهمال الأولويات وتوعد ذلك بالويل والهلاك فقال تعالى ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلموضح منهج الإسلام في ترتيب الأولويات فبين قاعدة الأولويات وتقديم الأهم فالمهم فقال ” لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله إلى أهل اليمن فقال عليه الصلاة والسلام: ((إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)). فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين…
أما بعد… فيا أيها المؤمنون تمهيد: إن الإسلام جاء منظما لحياة البشر، مؤكدا على ضرورة الترتيب بين الأشياء بحسب أولويتها وأهميتها بالنسبة للفرد المسلم وللأمة المسلمة، قال تعالى: ﴿ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [الزمر:55]، وقال أيضا: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة:19]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردا على سؤال حول أي الجهاد أفضل؟ فقال: كلمة حق عند سلطان جائر. (سنن النسائي).
إن تنظيم حياة الإنسان أولاه الإسلام أهمية كبرى ينصب في صالح الإنسان مقدم على البنيان، كما أن مقاصد الشريعة تحث على أولوية الحفاظ على الإنسان وهي: حفظ النفس والعقل والدين والعرض والمال، لذا فترتيب الأولويات من أهم العوامل التي تعمل على حفاظ الإنسان.
ولكن عندما ننظر إلى حياتا في جوانبها المختلفة – مادية كانت أو معنوية، فكرية أو اجتماعية أواقتصادية أو سياسية أو غيرها – وجد ميزان الأولويات فيها مختلا كل الاختلال، فنجد في كل أقطارنا العربية والإسلامية مفارقات عجيبة ما يتعلق بالفن والترفيه مُقدَّم أبدًا على ما يتعلق بالعلم والتعليم.وفي الأنشطة الشبابية: نجد الاهتمام برياضة الأبدان مُقدَّمًا على الاهتمام برياضة العقول،وكأن معنى رعاية الشباب رعاية الجانب الجسماني فيهم لا غير، فهل الإنسان بجسمه أوبعقله ونفسه؟لذالك كان حديثنا عن ترتيب الأولويات في الإسلام وذلك من خلال هذه العناصر الآتية:-
العناصر:-
1- مفهوم الأولويات.
2- حاجة الأمة إلي معرفة ترتيب الأولويات.
3- ترتيب الأولويات حسب الأهمية:-
أ- الإهتمام بالعقيدة أولا قبل كل شئ.
ب- الفرائض قبل السنن والنوافل.
ج- حقوق العباد قبل حق الله المجرد.
د- تقديم المصلحة العامة علي المصلحة الخاصة.
هـ – الإهتمام بالمضمون أكثر من الشكل.
و – درء المفاسد مقدم علي جلب المنافع.
4 – التوازن في حياة المسلم.
أولا:- مفهوم الأولويات:-
الأولي بمعني الأحق والأجدر والأقرب.. أو وضع كل شيئ في مرتبته فلا يؤخر ما حقه التقديم، أو يقدم ما حقه التأخير، ولا يصغر الأمر الكبير ولا يكبر الأمر الصغير.
ثانيا:- حاجة الأمة إلي معرفة ترتيب الأولويات:-
من المفاهيم المهمة في ديننا الحنيف هو فقه ترتيب الأولويات وأعني به: وضع كل شيء في مرتبته بالعدل، من الأحكام والقِيَم والأعمال، ثم يُقدِّم الأَوْلى فالأَوْلى، بناءً على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها.( نور الوحي، ونور العقل: ﴿ نُورٌ عَلَى نُورٍ ﴾ [النور: 35] فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح الراجح، ولا المفضول على الفاضل، أو الأفضل. بل يقدم ما حقه التقديم، ويُؤخِّر ما حقه التأخير، ولا يُكبِّر الصغير، ولا يُهوِّن الخطير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم، بلا طغيان ولا إخسار، كما قال تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴾ [الرحمن: 7 – 9] وأساس هذا: أن القيم والأحكام والأعمال والتكاليف متفاوتة في نظر الشرع تفاوتًا بليغًا، وليست كلها في رتبة واحدة، فمنها الكبير ومنها الصغير، ومنها الأصلي ومنها الفرعي، ومنها الأركان ومنها المكملات، ومنها ما موضعه في الصلب، وما موضعه في الهامش، وفيها الأعلى والأدنى والفاضل والمفضول. وهذا واضح من النصوص نفسها، كما في قول الله تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [التوبة: 19، 20] وقول الرسول الكريم: (الإيمان بِضْع وسبعون شعْبة: أعلاها “لا إله إلا الله”، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق).
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم حريصين كل الحرص على أن يعرفوا الأَوْلى من الأعمال، ليتقرَّبوا إلى الله تعالى به، ولهذا كثرت أسئلتهم عن أفضل العمل، وعن أحب الأعمال إلى الله تعالى، كما في سؤال ابن مسعود وأبى ذر وغيرهما، وجواب النبي (صلى الله عليه وسلم).
ولذا كثر في الأحاديث: أفضل الأعمال كذا، أو أحب الأعمال إلى الله كذا وكذا.فعن عمرو بن عَبَسة – رضي الله عنه – قال: قال رجل:يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: (أن يسلم لله قلبك، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك؟ قال: فأيّ الإسلام أفضل؟ قال: (الإيمان)، قال: وما الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت) قال: فأيّ الإيمان أفضل؟ قال: (الهجرة)، وقال: وما الهجرة؟ قال (أن تهجر السُّوء)، قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: (الجهاد)، قال: وما الجهاد؟ قال (أن تقاتل الكفار إن لقيتهم)، قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من عُقر جواده وأُهريق دمه).ومن تتبع ما جاء في القرآن الكريم، ثم ما جاء في السنة المطهرة في هذا المجال، جوابًا عن سؤال، أو بيانًا لحقيقة، رأى أنها قد وضعت أمامنا جملة معايير لبيان الأفضل والأولى والأحب إلى الله تعالى من الأعمال والقيم والتكاليف، وبيان ما بينها من تفاوت كبير، وذكرت بعض الأحاديث نسبة، مثل (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ (الفرد) بسبع وعشرين درجة)، وقوله صلي الله عليه وسلم (سبق درهم مائة ألف درهم)، (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه)، (إن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا).
وفي الجانب المقابل وضعت معايير لبيان الأعمال السيئة، كما بينت تفاوتها عند الله، من كبائروصغائر، وشبهات ومكروهات، وذكرت أحيانًا بعض النسب بين بعضها وبعض، مثل (درهم ربا يأكله الرجل، وهو يعلم، أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية).
وحذَّرت من أعمال اعتبرها شرًا من غيرها، وأسوأ مما سواها، مثل حديث: (شر ما في الرجل، شُحٌ هالع وجُبنٌ خالع). (شر الناس: الذي يسأل بالله، ثم لا يعطي). (شرار أُمتي: الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، وخيار أُمتي: أحاسنهم أخلاقًا). (أسرق الناس: الذي يسرق صلاته، لا يتم ركوعها ولا سجودها، وأبخل الناس مَن بخل بالسلام).
كما بيَّن القرآن أن الناس ليسوا متساوين في منازلهم، وإن كانوا متساوين في إنسانيتهم بأصل الخِلقة، وإنما هم متفاوتون بعلومهم وأعمالهم تفاوتًا بعيدًا.يقول القرآن: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13] ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9] وقال تعالى ﴿ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 95، 96] وقال تعالى ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ﴾ [فاطر: 19 – 22]، وقال تعالى ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [فاطر: 32] وهكذا نجد أن الناس يتفاوتون ويتفاضلون، كما تتفاوت الأعمال وتتفاضل، ولكن تفاضلهم إنما هو بالعلم والعمل والتقوى والجهاد.
ثالثا:- ترتيب الأولويات حسب الأهمية:-
أ- الإهتمام بالعقيدة أولا قبل كل شئ:-
ونعني بذلك تقديم ما يتصل بالإيمان بالله تعالى وتوحيده، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهي أركان الإيمان كما بينها القرآن الكريم. يقول تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ [البقرة: 177]. وقال تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]. وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 136]. وإنما لم تذكر الآيات الإيمان بالقدر ضمن أصول العقيدة، لأنه داخل في مضمون الإيمان بالله تعالى.
فالإيمان بالقدر إيمان بمقتضى الكمال الإلهي، وشمول علمه، وعموم إرادته، ونفوذ قدرته.والعقيدة هي الأصل، والتشريع فرع عنه. والإيمان هو الأصل، والعمل فرع عنه.فالإيمان الحق لابد أن يثمر عملا، وعلى قدر تمكن الإيمان ورسوخه تكون الأعمال، من فعل المأمور، أو اجتناب المحظور. والعلم الذي لم يؤسس على إيمان صحيح لا وزن له عند الله، وهو كما صوره القرآن: ﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [النور: 39].
لهذا كان الأمر الأحق بالتقديم والأولى بالعناية من غيره، هو تصحيح العقيدة، وتجريد التوحيد، ومطاردة الشرك والخرافة، وتعميق بذور الإيمان في القلوب، حتى تؤتي أكلها بإذن ربها، وحتى تغدو كلمة التوحيد: “لا إله إلا الله” حقيقة في النفس، ونورا في الحياة، يبدد ظلمات الفكر، وظلمات السلوك. يتضح ذلك جلياً في قول أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -: “إن ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداًفإن حاجتنا إلى العقيدة فوق كل حاجة، وضرورتنا إليها فوق كل ضرورة، لأنه لا سعادة للقلوب، ولا نعيم، ولا سرور إلا بأن تعبد ربها وفاطرها تعالى.ولقد أرسل الله رسله جميعاً بالدعوة إلى التوحيد قال تعالى ﴿ ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل:36] ويقررالله سبحانه وتعالى أيضاً هذه الحقيقة ويؤكدها، ويكررها في قصة كل رسول على وجه الانفراد ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [المؤمنون: 23] ﴿ وإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 65] وهي الكلمة نفسها التي تكررت على لسان صالح وشعيب وموسى وعيسى – عليهم الصلاة والسلام -، حتى أصبحت قاعدة عامة: ﴿ ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَافَاعْبدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25].
فالتوحيد مفتاح دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو أول ما يدخل به المرء في الإسلام، وأخر ما يخرج به من الدنيا، فهو أول واجب وآخر واجب.
ولقد أمضى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حياته في الدعوة إلى هذه العقيدة وجاهد أعدائه من أجلها قال صلى الله عليه وسلم ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله…) (رواه الشيخان) بل وأرسل رسله وأمرهم أن يبدءوا بالدعوة إلى العقيدة قبل كل شيء كما في قصة معاذ بن جبل – رضي الله عنه – عندما بعثه إلى اليمن: قال إنك تأتى قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: عبادة الله وحده، فإن هم أطاعوا لذلك….) (أخرجه الشيخان).
إن الاهتمام بغرس العقيدة أولا كان منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمصلحين من بعدهم ومن ذلك قوله تعالى عن نوح في دعوته لولده وتحذيره من مصاحبة أهل الضلال ﴿ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ [هود: 42].وكذلك يقول تعالى عن إبراهيم حين وصى بها أبناءه ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 132].
وفي أول وصايا لقمان لأبنه تحذيره له من الشرك قال تعالى ﴿ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلمي وصي ابن عباس رضي الله عنهما فيقول ( يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله……….. ). وعَنْ جُنْدُبٍ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ نَبِيِّنَا – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِتْيَانًا حَزَاوِرَةَ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَنَزْدَادُ بِهِ إِيمَانًا، فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ».
ب- الفرائض قبل السنن والنوافل:-
يقول النبي صلي الله عليه وسلم: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها..”: ومن الخطأ الذي يقع فيه بعض الناس الإشتغال بالسنن والتطوعات من الصلاة والصيام والحج عن الفرائض. ولقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم ينهي المرأة أن تصوم تطوعا، وزوجها شاهدا – حاضر غير مسافر – إلا بإذنه، لأن حقه عليها أوجب من صيام النافلة.وأيضا نري الرجل يحج حجة الإسلام ثم نجده يحج ويعتمر مرات عديدة ويتكبد الأموال والوقت والجهد، وهناك مسلمون يموتون من الجوع – حقيقة لا مجازا – في بعض الأقطار كالصومال، وآخرون يتعرضون للإبادة الجماعية، والتصفية الجسدية، كما رأينا في فلسطين، وسوريا وغيرها – وهم في حاجة إلى أي معونة من إخوانهم، لإطعام الجائع، وكسوة العاري، ومداواة المريض، وإيواء المشرد، وكفالة اليتيم، ورعاية الشيخ والأرملة والمعوق، أو لشراء السلاح الضروري للدفاع عن النفس، وهناك شباب وفتيات يحتاجون للزواج فلا يستطيعونالزواجلعدم وجود المؤنة.
ولو فقهوا دينهم، وعرفوا شيئا من فقه الأولويات، لقدموا إنقاذ إخوانهم المسلمين على استمتاعهم الروحي بالحج والعمرة، ولو تدبروا لعلموا أن الاستمتاع بإنقاذ المسلمين أعمق وأعظم من استمتاع عارض قد يشوبه بعض التظاهر أو الرياء، وصاحبه لا يشعر.لقد قرر فقهاء الإسلام: أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة.وقد أوصي سيدنا أبو بكر الصديق عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما وصية جامعة جاء فيها: إني موصيك بوصية إن حفظتها: إن لله حقا بالنهار لا يقبله بالليل، ولله في الليل حق لا يقبله في النهار، وإنها لا تًقبل نافلة حتي تًؤدي الفريضة عبدالله ابن المبارك يقدم اليتامي علي حجته:- كان عبد الله بن المبارك – رضي الله عنه – يحج عاماً ويغزو في سبيل الله عاماً آخر، وفي العام الذي أراد فيه الحج.. خرج ليلة ليودع أصحابه قبل سفره.. وفي الطريق وجد منظراً ارتعدت له أوصاله. واهتزت له أعصابه!!. وجد سيدة في الظلام تنحني على كومة أوساخ وتلتقط منها دجاجة ميتة.. تضعها تحت ذراعها.. وتنطلق في الخفاء..
فنادى عليها وقال لها: ماذا تفعلين يا أمة الله؟ فقالت له: يا عبد الله – اترك الخلق للخالق فلله تعالى في خلقه شؤون، فقال لها ابن المبارك: ناشدتك الله أن تخبريني بأمرك.. فقالت المرأة له: أما وقد أقسمت عليّ بالله.. فلأخبرنَّك، فأجابته دموعها قبل كلماتها: إن الله قد أحل لنا الميتة..أنا أرملة فقيرة وأم لأربع بنات غيب راعيهم الموت واشتدت بنا الحال ونفد مني المال وطرقت أبواب الناس فلم أجد للناس قلوبا رحيمة فخرجت ألتمس عشاء لبناتي اللاتي أحرق لهيب الجوع أكبادهن فرزقني الله هذه الميتة.. أفمجادلني أنت فيها؟ وهنا تفيض عينا ابن المبارك من الدمع وقال لها: خذي هذه الأمانة وأعطاها المال كله الذي كان ينوي به الحج.. وأخذتها أم اليتامى، ورجعت شاكرة إلى بناتها. وعاد ابن المبارك إلى بيته، وخرج الحجاج من بلده فأدوا فريضة الحج، ثم عادوا، وكلهم شكر لعبد الله ابن المبارك على الخدمات التي قدمها لهم في الحج. يقولون: رحمك الله يا ابن المبارك ما جلسنا مجلسا إلا أعطيتنا مما أعطاك الله من العلم ولا رأينا خيرا منك في تعبدك لربك في الحج هذا العام.
فعجب ابن المبارك من قولهم، واحتار في أمره وأمرهم، فهو لم يفارق البلد، ولكنه لايريد أن يفصح عن سره، وفي المنام يرى رجلا يشرق النور من وجهه يقول له: السلام عليك يا عبدالله ألست تدري من أنا؟ أنا محمد رسول الله أنا حبيبك في الدنيا وشفيعك في الآخرة جزاك الله عن أمتي خيرا… يا عبد الله بن المبارك، لقد أكرمك الله كما أكرمت أم اليتامى.. وسترك كما سترت اليتامى، إن الله – سبحانه وتعالى – خلق ملكاً على صورتك.. كان ينتقل مع أهل بلدتك في مناسك الحج..
وإن الله تعالى كتب لكل حاج ثواب حجة وكتب لك أنت ثواب سبعين حجة.
عبدالله ابن عباس يقدم قضاء حاجة أخيه المسلم علي اعتكافه في المسجد النبوي:- عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان معتكفا في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم، فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس، فقال له ابن عباس: يا فلان أراك مكتئبا حزينا ؟! قال: نعم يا ابن عم رسول الله لفلان علي حق ولاء، وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه، قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك، فقال: إن أحببت قال: فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟؟!! قال: لا ولكني سمعت صاحب هذا القبر صلى الله عليه و سلم والعهد به قريب فدمعت عيناه وهو يقول: ( من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين ) رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي واللفظ له والحاكم مختصرا وقال صحيح الإسناد.لم يترك ابن عباس رضي الله عنه اعتكافه في أي مسجد، بل ترك الاعتكاف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما له من أجر مضاعف وعظيم، ولم يتركه لينقذ مسلما من الموت جوعا أو بردا أو خوفا وذعرا، بل خرج ليكلم له دائنه بالتأجيل والنظرة إلى الميسرة فحسب، وهي حاجة ربما يستصغرها بعض المسلمين اليوم، إلا أنها كانت كافية لإخراج ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم من معتكفه وعبادته. أفلا تستحق آلام المسلمين المنكوبين اليوم، بأن نخرج من شح النفوس وهواها إلى كرمها وتقواها، و من قسوة القلوب وغفلتها إلى لينها و ذكرها لخالقها ومولاها، ومن إغلال الأيدي إلى الأعناق إلى بسطها بعض البسط في الإنفاق.
ج – أولوية حقوق العباد على حق الله المجرد:-
لقد رأينا الشرع الحنيف يؤكد في كثير من أحكامه تعظيم ما يتعلق بحقوق العباد. ففرض العين، المتعلق بحق الله تعالى وحده يمكن التسامح فيه، بخلاف فرض العين المتعلق بحقوق العباد. فقد قال العلماء: إن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة. ولهذا إذا كان الحج مثلا واجبا، وأداء الدين واجبا، فإن أداء الدين مقدم. فلا يجوز للمسلم أن يقدم على الحج حتى يؤدي دينه. إلا إذا استأذن من صاحب الدين، أو كان الدين مؤجلا، وهو واثق من قدرته على الوفاء به. ولأهمية حقوق العباد هنا – وبخاصة الحقوق المالية – صح الحديث أن الشهادة في سبيل الله – وهي أرقى ما يطلبه المسلم للتقرب إلى ربه – لا تسقط عنه الدين.ففي الصحيح: “يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين”. وفيه: أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر مقبل غير مدبر”، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كيف قلت”؟ فأعاد الرجل سؤاله، وأعاد الرسول الكريم جوابه وزاد عليه: “إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك”.
وأعجب من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “سبحان الله! ماذا أنزل من التشديد في الدين؟! والذي نفسي بيده، لو أن رجلا قتل في سبيل الله، ثم أحيي، ثم قتل، ثم أحيي، ثم قتل، وعليه دين، ما دخل الجنة حتى يقضى دينه”. ومثل هذا من غل من الغنيمة، وهو في سبيل الله، أي في الجهاد (أي أخذ من الغنيمة لنفسه وهي من حق الجيش كله) فإن مد يده إلى مال الغنيمة قبل أن يقسم، ولو كان شيئا تافها، يحرمه فضل الجهاد، وأجر المجاهد، وإذا قتل يحرمه شرف الشهادة، وأجر الشهيد.كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (والثقل: الغنيمة) رجل يقال له: “كركرة” فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هو في النار”، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها. وتوفى رجل من الصحابة في خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “صلوا على صاحبكم”، فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال: “إن صاحبكم غل في سبيل الله” (أي وهو في الجهاد) ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين.من أجل درهمين أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه، ليكون في ذلك أبلغ زاجر عن الطمع في المال العام، قل أو كثر.
وعن ابن عباس قال: حدثني عمر قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كلا، إني رأيته في النار، في بردة غلها ـ أو في عباءة غلهاـ “، ثم قال: “يا ابن الخطاب، اذهب فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون”.
وكذلك نري أيضا أن النبي صلي الله عليه وسلم يشدد في حق الجار ويرهب من أذي الجار ويبين أنه أولي من الإكثار من النوافل:-
فعن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله إن فلانة تصلي بالليل و تصوم بالنهار و في لسانها شيء، تؤذي جيرانها، سليطة اللسان، قال:”لا خير فيها، هي في النار”، و قيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة و تصوم رمضان و تتصدق بالأثوار من الإقط (أي: اللبن المجفف) و ليس لها شيء غيره و لا تؤذي أحدا قال:” هي في الجنة..( سنده صحيح رواه أحمد وابن حبان ) ففيه أن أذى الجار محبط للعمل و أنه لا خير في المؤذي لجيرانه و فيه أنه اقتصاد في العمل مع عدم الأذية أفضل بكثير من الإكثار بالنوافل مع أذية الجيران.
وقال أيضا:- عن أبي هريرة – رضي الله عنهُ- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” أتدرون ما المفلسُ؟” قالوا”: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال:” إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتهُ قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار” رواه مسلم.
علام تدل هذه الأحاديث؟ إنها تدل على تعظيم حقوق الخلق، ولا سيما ما يتعلق بالمال، سواء أكان خاصا أم عاما، فلا يجوز أخذه من غير حله، وأكله بالباطل، وإن كان تافها، لأن المهم هو المبدأ، ومن اجترأ على أخذ القليل، يوشك أن يجترئ على الكثير، والصغيرة تجر إلى الكبيرة، ومعظم النار من مستصغر الشرر.
د – تقديم المصلحة العامة علي المصلحة الخاصة:-
اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون مصالح العباد مصالح عامة ومصالح خاصة.
مصلحة يعود نفعها على الفرد ومصلحة يعود نفعها على المجتمع والعبادوقد بنى الإسلام تشريعاته على تأمين المصالح الخاصة والعامة.
فالإسلام يدور مع المصلحة والنفع للعباد فحيثما وجدت المصلحة وجد الإسلام قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17] فالحق هو عين المنفعة وعين المصلحة وقد فهم الصحابة هذا المعنى وبنوا عليه رسالتهم ولقد أظهرها ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم مبينا له معالم هذه الرسالة العظيمة وما تقتضيه من حمل المصلحة للعباد (نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ) وإذا ما تعارضت المصلحة الخاصة مع مصلحة العباد فإن الإسلام يرغب في تقديم المصلحة العامة. وإذا نظرنا إلى التشريعات كلها وجدناها تخدم هذا المعنى فالجهاد والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها كلها تصب في المصلحة العامة، فالرجل الذي يذهب إلى الجهاد تاركا كل أموره الخاصة من بيت وأولاد وتجارة أو وظيفة أو غيرها وذهب ربما تزهق روحه في سبيل الله تجد أن الدافع من وراء ذلك هي المصلحة العامة وحينما تعرض الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة لمحنته المشهورة جاءه الإمام الشعبي وقال له: يا أحمد إن الله قد أعطاك الرخصة فخذ بها ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾. فقال له الإمام أحمد انظر يا شعبي من خلف هذا الباب فنظر الشعبي فرأى آلاف الطلاب يحملون الدواة والقلم والقرطاس ينتظرون قول الإمام أحمد لينشروه في الآفاق وصمَّم الإمام على موقفه وكان يستطيع أن يحظى بالنعيم والخير والرضى إلا أنه آثر المصلحة العامة للعباد على مصلحته الخاصة حتى لو كان فيها من النغص ما فيها.
إن تغليب المصلحة العامة على الخاصة أمر رغب فيه الإسلام وقد كان هذا هو سلوك الصحابة والتابعين والعلماء والمخلصين من هذه الأمة، ولولا تغليبهم للمصلحة العامة ما ألفوا مؤلفاتهم ولا سهروا الليالي ولا أمضوا حياتهم كلها جهاد وحركة لنشر الدعوة والقيم والمبادىء والأخلاق ولما كان أغلبهم يموت ويدفن خارج أرضه ووطنه بعيداً عن أزواجهم وذرياتهم وما كان ذلك كله إلا من أجل مصلحة العباد.
وهذه بعض النماذج العظيمة لأناس قدموا مصلحة دينهم ووطنهم علي راحتهم ورغباتهم. هذا عثمان رضي الله عنه في عام الرمادة وقد أشتد بالمسلمين الفقر والجوع جاءت تجارته من الشام ألف بعير محملة بالتمر والزيت والزبيب فجاءه تجار المدينة وقالوا له تبيعنا و نزيدك الدرهم درهمين؟ فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لهم لقد بعتها بأكثر من هذا. فقالوا نزيدك الدرهم بخمسة ؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة: فقالوا له فمن الذي زادك ؟ وليس في المدينة تجار غيرنا ؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه لقد بعتها لله ولرسوله فهي لفقراء المسلمين..الله أكبر…ماذا لو لم يكن يحمل بين جوانحه ضمير المؤمن الحي لكانت هذه فرصة لا تعوض ليربح أموالا طائلة ولو كانت على حساب البطون الجائعة والأجساد العارية وآهات المرضى والثكالى وهموم أصحاب الحاجات… وكنه قدم حاجة المجتمع العامة علي حاجته الخاصة.
وكذلك فعل أبو بكر رضي الله عنه فقد تصدق بكل ماله في تجهيز جيش العسرة.. وعندما يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لعيالك؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله. وهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه الفتى الشاب الثري المدلل يضحي بكل شيء ويصبح آية من آيات الجهاد والتضحية للشباب المسلم في كل زمان.. يضحي برغباته كشاب في كمال فتوته من أجل مصلحة دعوته ورفعة وطنه فالمسلم الحق هو من باع لله نفسه وماله ووقته ووطنه فليس له فيها شيء، وإنما هي وقف على رفع راية دينه ووطنه.
هـ ـ الإهتمام بالمضمون أكثر من الشكل:ــ
فالإنسان مثلا لا يقاس بطول قامته، أو قوة عضلاته، أو ضخامة جسمه، أو جمال صورته، فهذه كلها خارجة عن جوهره وحقيقة إنسانيته، فما الجسم ـ في النهاية ـ إلا غلاف الإنسان ومطيته، أما حقيقة الإنسان فما هو إلا العقل والقلب. وقد وصف الله تعالى المنافقين بقوله: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ﴾ [المنافقون: 4]. كما وصف عادا على لسان نبيه هود بقوله: ﴿ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ﴾ [الأعراف: 69]، ولكن هذه البسطة في الخلق جعلتهم يغترون ويستكبرون كما قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ [فصلت: 15]. وفي الحديث الصحيح: “إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، فلا يزن عند الله جناح بعوضة. اقرأوا إن شئتم: ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105]”. وصعد ابن مسعود يوما شجرة، فظهرت ساقاه، وكانتا دقيقتين نحيلتين، فضحك بعض الصحابة من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من جبل أحد” ليس المهم إذن ضخامة الجسم، إذا لم يكن يسكنه عقل ذكي، وفؤاد نقي، وقديما قال العرب: “ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل”. اعتبر الإسلام ضخامة الجسم وقوته ليست هي مقياس الرجولة، ولا معيار الفضل في الإنسان، فكذلك جمال الوجه وحسن الصورة.
وفي الحديث: “إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم”. لذلك أمر الإسلام في بناء الأسرة المسلمة اختيار الزوج الصالح والزوجة الصالحة واعتبر مخالفة هذا الأمر يؤدي إلي فتنة في الأرض وفساد كبير. فقال صلي الله عليه وسلم (إذا جائكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ». وقال صلي الله عليه وسلم (تنكح المرأة لأربع لمالها وجمالها وحسبها ودينها؛ فعليك بذات الدين تربت يداك »ولقد بين النبي صلي الله عليه وسلم ميزان الرجال.
روي البخاري من حديث سهل بن سعد قال: مرَّ رجل علينا ونحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عندنا: ( ماذا تقول في هذا الرجل ؟!).. قال: يا رسول الله هذا من أشراف أهل المدينة.. هذا من أحسنهم حسباً ونسباً.. هذا من أكثرهم مالا.. هذا حري.. إن خطب يخطب.. وإن تكلم يُسمع.. وإن شفع يُشفع.. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم.. ثم مرَّ رجل آخر فقال للرجل نفسه: ( فماذا تقول لهذا الرجل ؟!).. قال يا رسول الله: هذا من فقراء الأنصار.. هذا لا حسب ولا نسب.. هذا حري.. إن خطب ما يُخطب.. وإن تكلم ما يُسمع.. وإن شفع ما يُشفع.. فقال الصادق المصدوق: ( هذا _ يعني الفقير اللي لا حسب ولا نسب _ هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا ).. هذا _ الذي في نظرك الذي إذا تكلم ما يسمع، وإذا شفع ما يشفع، وإذا خطب ما يخطب..( هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا ).. ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ ولقد وضع أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب قانونا لمعرفة الرجال حينما سأل عن رجل فقال رجل قال:لا بأس به يا أمير المؤمنين. قال:هل صحبته في سفر ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. قال: هل جرت بينك وبينه خصومة قط ؟قال: لا يا أمير المؤمنين قال: فهل ائتمنته على درهم أو دينار قط ؟قال: لا يا أمير المؤمنين قال: لا علم لك بالرجل، إنما رأيت رجلاً يضع رأسه في المسجد ويرفعه !! قال اذهب فأنت لا تعرفه.
و ـ درء المفاسد مقدم علي جلب المنافع:ــ
هذه قاعدة عظيمة من قواعد الفقه الإسلامي والأدلة عليها قول الله تعالى: ﴿ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام:108].فالله جل وعلا نهى الصحابة الكرام أن يسبوا الآلهة أو يسفهوا أحلام من يعبد هذه الآلهة، مع أن سب الآلهة الباطلة ممدوح، بل محثوث عليه، وتسفيه أحلام من يفعل ذلك ممدوح، بل محثوث عليه، بل يثاب المرء إذا فعل ذلك، لكن منع الله جل في علاه هذه المصلحة لدرء مفسدة أعظم منها، أو لتعارض مفسدة مع هذه المصلحة، ألا وهي سب الله جل في علاه، فإن من أعظم المفاسد أن يسب الله جل في علاه. ولذلك بين لنا الله جل في علاه قاعدة شرعية لا بد أن نسير عليها طيلة تعبدنا لله جل في علاه، ألا وهي: دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فإن كان في سب الآلهة مصلحة فإن دفع المفسدة أولى. ومن الأدلة التي تثبت ذلك: حديث النبي صلى الله عليه وسلم عموماً: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا).
ففي هذا الحديث دلالة على هذه القاعدة العظيمة، ووجه الدلالة: أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه منفعة، فسهل فيه وعلقه بالاستطاعة، وأمر بامتثال النهي مطلقاً لأنه مفسدة تجتنب، فالحديث يبين أن الشرع يهتم بالانتهاء عن المنهيات، بدفع المفاسد كلها. فالمنافع فيها التسهيل، قال صلى الله عليه وسلم: (فأتوا منه ما استطعتم)، أما في المنهيات وفي المفاسد قال: (فانتهوا). وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة رضي الله عنه وأرضاها وقال لها: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة، ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها باباً منه يدخل الناس، وباباً يخرجون منه)، ولم يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
فالمصلحة هنا: أن تكون الكعبة كما بنيت على عهد إبراهيم. والمصلحة الثانية: أنه لا يفرق بين الناس، حيث إنَّ أهل مكة كانوا قد جعلوا مصعداً يصعد عليه الشرفاء ليدخلوا الكعبة، لكن الضعفاء أو الفقراء لا يدخلون.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يريد مصلحة أعظم من ذلك ألا وهي عدم التفريق؛ لأن رب أشعث أغبر عند الله أفضل من آلاف من هؤلاء المعظمين، فقال: (ولجعلت لها باباً يدخل منه الناس)، والمصلحة العظمى: باب يخرجون منه خشية التزاحم. فهذه مصلحة عظيمة جداً أن تبنى الكعبة على قواعد إبراهيم، لكن نازعت هذه المصلحة مفسدة فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الشاهد، والمفسدة هي: حدوث الفتنة وهو ارتدادهم عن الإسلام، فإنَّ أهل مكة كانوا يعظمون الكعبة، ويعظمون الشعائر، فإذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يهدم الكعبة سيقولون: النبي صلى الله عليه وسلم لا يعظم الكعبة فتحدث الفتنة بينهم، فيرتدون عن الإسلام؛ لأنهم لا يفقهون أن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم مصلحة كبيرة جداً، بل سيقولون: لم يعظم شعائر الله جل في علاه، كيف يأمرنا أن نعظم شعائر الله وهو لم يعظم شعائر الله حين هدم الكعبة؟
رابعا:ــ التوازن في حياة المسلم:ـ
إن ترتيب الأولويات يجعل حياة المسلم متوازنة، فقد وازن الإسلام بين المطالب كلِّها في اتِّساق لا طغيان فيه لجانب على جانب؛ بل أكَّد على ذلك بالنهي عن الغلوِّ والإفراط، كما نهى عن التفريط والإهمال، وأمر بالتوسُّط والاعتدال في جميع الأحوال، ولم تأت الشريعة إلا بتنظيم تحقيق تلك المطالب، وبيان حدودها التي لا تتصادم مع فطرة الإنسان ووظيفته التي خُلق من أجلها، ألا وهي عبادة الله وعمارة الأرض بالنافع والصالح، فأباحت الشريعة كل شيء فيه منفعة راجحة للإنسان، ونهت عن كل شيء فيه مفسدة ومضرة على حياة الإنسان أو عقله أو ماله أو جسده.وهذه بعض نصوص الوحيالذي نزل على محمَّد – صلى الله عليه وسلم:ـ
قال تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 13]؛ فلم يخلق الله تعالى هذا الكون ليبقى هملاً غير مستثمَر، أو لينعزل عنه الخلق، والتعبير بـ ﴿ سَخَّرَ ﴾ فيه معنى التذليل والتسهيل لاستكشاف هذا الكون، والاستفادة من مكنوناته وكنوزه.
وقال الله تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]. وقال تعالى: ﴿ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37]، فهم مع تجارتهم لم يهملوا الجانب الروحي والتعبدي والخلقي الذي يدفع إليه الإشفاق من الحساب بين يدي الله في الآخرة، فلنتصوَّر كيف يكون سلوك مثل هؤلاء التجار بمثل هذه العقيدة وهذه الأخلاق، ثم لنتصوَّر كيف تكون الحياة فيه أناس كهؤلاء في مجالات أخرى من مجالات الحياة! وقد أثبت التاريخ أن أمثال هؤلاء التجار المسلمين كانوا سببًا في دخول الإسلام إلى بلدان شاسعة المسافات، كأندونيسيا والسودان وغيرهما، دون أن تكون هناك جيوش فاتحة كما يزعم بعض الذين لم يقرؤوا التاريخ جيدًا. وقال تعالى: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾ [الحديد: 27].
وقد ضرب نبي الإسلام محمَّد – صلى الله عليه وسلم – أروع الأمثلة العملية والتوجيهية في التوازن الروحي والمادي، حتى يصل إلى درجة الغضب الشديد ممن يخالف الفطرة البشرية وسنة الأنبياء والمرسلين، فقد بلغه مرةً أن ناسًا حلفوا – مبالغةً في التعبُّد لله – بالامتناع عن النوم وعن الزواج وعن الأكل والشرب؛ فكان موقفه منهم حاسمًا؛ تحقيقًا لمنهج التوازن الذي بُعث به؛ فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: جاء ثلاث رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم – يسألون عن عبادة النبي – صلى الله عليه وسلم – فلما أُخبِروا؛ كأنهم تقالُّوها – أي: عدُّوها قليلة! – فقالوا: أين نحن من النبي – صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر!قال أحدهم: أمَّا أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا.
فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني!))؛ رواه البخاري ومسلم.
وفي الختام…. نخلص من هذا أن الأولويات تبدأ بحق الله تعالى ثم حق الإنسان مع نفسه وأهله وجيرانه….وهكذامع التوازن لايغالي ولا يفرطبل يقدم الأهم فالمهم فالأقل أهمية….وهكذا. وعلينا واجب بعد هذا الكلام وهو أن نراجع اهتماماتنا ونصحح أوضاعنا ونضع كل شيئ في موضعهلا نؤخر ما حقه التقديم ولا نقدم ما حقه التأخير ولا نعظم ما حقه التصغير ولا نصغر ما حقه التعظيمحتي نسعد في الدنيا وننجز ما هو مطلوب منا فنفوز في الآخرة. وأسأل الله العظيم أن يوفقنا لما فيه رضاه إنه ولي ذلك ومولاه.